في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وقبل أن تتم ثورة 25 يناير عامها الأول، أعلنت لجنة شؤون الأحزاب السياسية قرارها الرسمي بالموافقة على تأسيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، بعد تأكدها من استيفائه سائر الأوضاع الشكلية والموضوعية التي حددها القانون.
جاءت موافقة اللجنة ردًا على إخطار بالحزب قدّمه وكيلان عن مؤسسيه، أحدهما هو عبد الغفار شكر، السياسي صاحب البوصلة التي لم تتغير فيما يتعلق بمبادئ اليسار التي اعتنقها منذ كان أحد قيادات أبرز الأحزاب اليسارية في مصر: التجمع، وحتى حين تركه بعد أن اعتبر أنه تحول من المعارضة إلى ما رآه الرجل "مُهادنة" مع حسني مبارك، ونظامه.
ترك شكر التجمع، دون أن يهجر اليسار ومبادئه التي تتمحور حول العدالة الاجتماعية والمساواة والإخاء. وهو ما حاول ورفاقه تحقيقه على مدار عقود، بدأت منذ كان طالبًا مُنضمًا لتنظيمات في العهد الناصري تحمل الأفكار نفسها، أو حتى من مواقعه المختلفة سياسية وحقوقية، دون أن يحيد عنها حتى يوم أمس الأحد، حين رحل عن عالمنا وهو في الخامسة والثمانين من عمره.
ربيب السياسة
في السابع والعشرين من مايو/ أيار عام 1936، وفي قرية تيرة التابعة لمركز نبروه بمحافظة الغربية، وُلد وشبَّ عبد الغفار شكر ليجد نفسه حفيدًا لعمدة القرية، المنصب الذي ورثه والده لثلاثة أعوام فقط من 1943 إلى 1946، قبل أن يتقرر فصله بسبب مناصرته لأحد الأحزاب المشاكسة أيام الملكية، وهو الوفد، حسبما تتردد الروايات عن طفولته.
رحل الوالد بعد عام واحد فقط من تلك الواقعة، كمدًا وحزنًا بأزمة قلبية؛ فورث الابن النشاط السياسي، وصار شابًا في كنف السياسية، لدرجة أن دراسته الجامعية للآداب لم تشغله كثيرًا على المستوى العملي ولم يبدو لها حضور سوى فيما سيقدمه بعد أعوام كثيرة من مؤلفات، لم تخل أيضًا من السياسة بأفكار يسارية.
وهذه الأفكار كان انحياز شكر لها واضحًا منذ البداية وقبل أن يحصل على المناصب والألقاب القيادية في تجمعات اليسار، بل منذ كان شابًا في السابعة عشر من عمره، طالبًا مُنضمًا لما خلقه النظام الناصري من تنظيمات، بدأها بعضوية "هيئة التحرير" عام 1953، ثم "الاتحاد القومي" عام 1958، وبعدها "الاتحاد الاشتراكي" عام 1963.
وبعد ذلك بعام واحد، وفي 1964، صار الشاب أمينًا للتثقيف في منظمة الشباب الاشتراكي، ومن موقعه أدى مهمة إعداد زملاء له في المنظمة ليصبحوا كوادر يسارية بعدها بسنوات، في تجربة سيوثّقها بعد عقود وقد أصبح قيادي يساري، في كتاب منظمة الشباب الاشتراكي: تجربة مصرية فى إعداد القيادات.
عبد الغفار شكر، الذي آمن بأفكار النظام الناصري وما أعلنه بعد إسقاط الملكية من وعود، هو نفسه، وعلى عكس ما هو مُعتاد من غالبية سياسيي ذلك العهد، لن يتورع أن ينتقد أخطاءه بعد أن رآه يحيد عما يرفعه من شعارات ومبادئ، فالوفاء كان للأفكار والمبادئ وليس الأنظمة والأسماء، وهذا التزام شكر منذ وقت مٌبكر حين كان طالبًا ذو نشاط سياسي شارك في تظاهرات احتجاجية نظمها شباب الاتحاد الاشتراكي وغيرهم، ضد الزعيم، آنذاك، جمال عبد الناصر، عقب إصدار أحكام في فبراير/ شباط 1968 ضد قادة سلاح الطيران، رأوها "هزيلة"، حسبما وثّق بقلمه مما استدعته ذاكرته حول تلك الأحداث للمنصّة، وحتى الرحيل عن "التجمع" وقد صار مرجعًا ومفكرًا رفض "مهادنة" الحزب لنظام مبارك.
من تلك الأنشطة الميدانية الطلابية، وبعد سنوات من الممارسة التي بلغ بها التمرّس، جاء نشاطه السياسي بين مؤسسي حزب التجمع، في أبريل/ نيسان للعام 1976، وفيه تولى أمانة التثقيف بجانب عضوية الأمانة العامة حتى عام 2011، حين خرجت للعلن خلافاته وبعض زملائه مع الحزب بسبب الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010.
مبادرة جديدة
في ذلك العام، وبعد ثلاثة عقود نصف من العمل في "التجمع"، رحل شكر عن الحزب، حاملاً معه أفكاره اليسارية إلى كيان آخر أسسه لتبني وخدمة الأهداف والمبادئ نفسها، كما بدا في اسمه "حزب التحالف الشعبي الاشتراكي"، الذي خرج واضحًا في بيانه التأسيسي الصادر في مارس/ أذار 2011، بإعلان تأييد ثورة 25 يناير.
هذا الإخلاص في الانتماء للثورة، هو ما ذهب بالسياسي البارز إلى ما هو أبعد من تبني أهدافها في حزبه الجديد إلى إصدار دراسة تحليلية متعمقة حولها، بالمشاركة مع رفيقه حلمي شعراوي، لرصد وتوثيق ما مهّد لـ25 يناير 2011، من تحركات وفورات غضب انتهت إلى ثورة ذات مبادئ كان منها "تحقيق العدالة الاجتماعية، وتأسيس دولة برلمانية مدنية خالية من حالة وقوانين الطوارئ، والديمقراطية".
وهي المبادئ التي أعلنها الحزب نقطة انطلاق له، ولم يُحاول شكر ورفاقه إرسائها عبر وثيقة التأسيس فقط، بل وبصورة عملية، حين قرر إرساء مبدأ لم تعرفه مصر منذ الملكية وما بعدها، اسمه تداول السُلطة.
فبعد انتخابه في المؤتمر العام الأول رئيسًا للحزب، فإنه تخلي عن رئاسته بعد دورة واحدة فقط، ليعطي الفرصة للشباب، وهو ما دعا إلى تكراره حكوميًا، عبر إعداد صفٍّ ثانٍ من القيادات الشابة لمعاونة الوزراء.
ترك رئيس الحزب موقعه، لكنه ظل مع رفاقه والشباب كمستشار سياسي، لم يُقصر مهامه على التوجيه فحسب، بل كانت له آراؤه التي لم يبدُ فيها مهادنًا لأي سلطة أو قوى كانت، طالما يراها تخالف صالح الشعب. فهو من حذّر وقت حكم المجلس العسكري للبلاد من أفكار وتحركات الإسلاميين، بقوله إنهم "لا يشغلهم تسليم السلطة أو مدنية الدولة، بل كيف يتسلمون السلطة عن طريق دستور يضعونه بطريقتهم"، كما حذّر من خطورة عدم الوحدة على الثورة.
ثبات الموقف
الإسلاميون، تحديدًا التنظيم الأبرز بينهم وهو جماعة الإخوان المسلمين، كانوا الخصم السياسي الواضح لليساري عبد الغفار شكر، ليس فقط أثناء فترة المجلس العسكري الانتقالية، بل حتى بعد انتقال حكم البلاد لهم. ففي عزّ سلطتهم وما ظهر فيها من حشد وتنظيم، كانت مواقفه ثابتة وواضحة، ومنها رفضه في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013، أن تشارك الجماعة وأنصارها في إحياء الذكرى الثانية لأحداث محمد محمود، لما رآه في ذلك من "دعوة صريحة للعنف، ومحاولة ثانية لاستغلال الثورة بدعوى محاربة العسكر".
في سنة حكم الإخوان، لم يكتف شكر بإعلان مواقفه في تصريحات إعلامية، بل لكنه شارك كذلك في تأسيس "جبهة الإنقاذ"، التي ضمت عدد من الأحزاب المُعارضة للجماعة، وذلك دون التفات لما واجهته من اتهامات "التخريب والتحريض على العنف"، أتت حتى من صحف حكومية انتقلت من تبعية مبارك إلى تبعية مرسي، فكان وأن ردّ وبثباته على مواقفه ومبادئه، بتأكيد أنه "في إفشال مهمة الرئيس، تدمير للبلد بأكملها".
ورغم المعارضة الواضحة للإخوان، لكن شكر الذي رفض التحاور معهم إلاّ بشروط مُشددة، هو نفسه مَن رفض الدعوات التي تلقتها جبهة الإنقاذ لحشد الشعب في عصيان مدني ضد النظام، وشدد على أن هذا الأمر "يعبر عن حالة شعبية، وليس بدعوات قوى سياسية له".
في تلك اللحظة تمسّك شكر بالمبدأ حتى وإن كانت مخالفته تحقق هدفه ضد الإخوان، تلك الجماعة التي بعد إزاحة مرسي عن الحكم وإخضاع أعضائها للمحاكمة، أعلن الرجل في عام 2014 ومن موقعه كنائب لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان "انزعاج المجلس من هذه القضايا التي تتم بتطبيق أقصى العقوبة على الإخوان"، وطالب آنذاك بـ"التعامل بحذر مع مثل تلك القضايا".
قيادة حقوقية
أن يُسند إلى عبد الغفار شكر منصب حقوقي في جهة رسمية، فذلك يرى فيه كثيرون اختيارًا موفقًا، ليس فقط لكون الرجل واحدًا من القيادات اليسارية التي انشغلت بقضايا الفقراء وتبنت مطالبها في انحياز صريح للعدالة الاجتماعية، بل لأنه هو نفسه مَن تعامل مع حقوق الإنسان بعدل وحياد.
فمن أبدى انزعاجه من أمر ما في محاكمات خصومه الإخوان، هو مَن لم يتردد أثناء توليه ذلك المنصب بالمجلس أن يطالب النائب العام بالتحقيق في وفاة سجين بعد أنباء عن اشتباكات مع الشرطة داخل السجن، في اتساق مع ما يتبعه من مبدأ أعلنه ضمن أهداف الحزب بـ"تطبيق مبدأ لا مركزية الشرطة ووضعها تحت سلطة المجالس الشعبية البلدية المُنتخَبة".
بالمثل، كان للسياسي- الحقوقي رأيه أيضًا في بعض المقترحات التي رفضها رغم ما قد يكمن فيها من إغراءات بتمييز على مستوى المكانة الاجتماعية، فهو مَن رفض منح أعضاء المجلس حصانة، وكان تعليقه على الأمر حاسمًا قاطعًا، بقوله إنهم "ليس على رأسهم ريشة"، وهو ما قاله رغم ما كان آنذاك من مبرر للمقترح بسبب التعدي على عضوة بالمجلس.
في رفضه ذلك الأمر، ظهر التطبيق العملي لإيمان الرجل بـ"المساواة والعدالة الاجتماعية"، المبدأين اللذين رفعتهما ثورة يناير، ومن قبلها تبنتهما منظمات المجتمع المدني وسعت لتحقيقهما منذ مطلع الألفية، حين كان البعض، خاصة إعلام الحاكم وحاشيته، يصورونها باعتبارها "جماعات من الخونة والعملاء"، بينما كان شكر يراها "بمثابة البنية التحتية للديمقراطية"، حسبما ذكر في مؤلفه المجتمع الأهلي و دوره في بناء الديمقراطية 1963- 1976.
الديمقراطية هي ما حرص عليها شكر، سواء كسياسي آمن بالتعددية الحزبية؛ فرفض في عام 2021 مقترحًا بدمج الأحزاب السياسية التي ليس لها تمثيل نيابي داخل البرلمان بالأحزاب النشطة، باعتبار ذلك "قيودًا على عملها"، أو من قبلها بأعوام كحقوقي مؤمن بالحياد، أعلن خلال الانتخابات الرئاسية 2014 تجميد نشاطه الحزبي منعًا لأي قلق من وجود أي انحياز تجاه مراقبة المجلس القومي للجان الانتخابية.
لكن ومع انتهاء العملية الانتخابية، عاد شكر لعباءة السياسة، فكان وأن حذّر مما لانتخاب السيسي من أثر على الأحزاب. كما عاد بعدها بسنوات لينتقد بعض إجراءاته، سواء ما يتعلق برغيف خبز محتمل زيادة سعره على بسطاء، قال صراحة في مناسبة أخرى قبلها إن الرئيس "لم يحقق أحلامهم"، كما أعلن في تصريحات أن حقوق الإنسان "في محنة منذ فض اعتصام رابعة".
مؤرخ اليسار
عايش عبد الغفار شكر أربع أنظمة بمختلف سياساتها وأفكارها، لكنه ورغم اختلاف مواقعه طالبًا وسياسيًا وحقوقيًا، ظل محافظًا على مواقفه الثابتة، فكان بمثابة الناشط المنخرط في الأحداث لكن بعين وعقل مراقب؛ فكان وأن استحق بعد كل هذه السنوات أن يكون له اسم بارز في حقل آخر هو الفكري، ليس فقط بتعيينه نائبًا لرئيس مركز البحوث العربية والأفريقية، بل لما أنتجه من وثائق تحفظ تاريخ اليسار والحركة الشيوعية المصرية.
من خلال ذلك الحقل، قدّم المُفكر مؤلفات كان منها ما تناول العهد الناصري وسياساته، أشهرها ما صدر تحت عنوان الطليعة العربية.. التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر 1965-1986، الذي كشف من خلاله عن التنظيم السري الذي أسسه عبد الناصر لتحريك الشعب العربي ضد التحديات الداخلية والخارجية المناوئة لثورته، وكيف استمرت أنشطته ليس فقط في عهد خلفه السادات، بل حتى منتصف الثمانينات.
كذلك، وخلال كل تلك الأعوام، قرر شكر تقديم خلاصة تجاربه السياسية في مؤلفات أخرى ناقشت حول اليسار والاشتراكية، سواء كما سبق في صورة توثيق لأعوام تنظيم سري منذ الميلاد وحتى الفناء، أو فيما يتعلق بمستقبل هذه اليسار أو كيفية نهوضه، فيما بدا وكأنه أمل لم ينقطع لدى السياسي من تحقيق التمكين لما آمن به، ذلك اليسار وأفكاره.