تطلب الأمر أكثر من مليون ونصف متابع لتتمكن الكاتبة والمدونة المصرية إيفون نبيل من إيصال شكواها من العنف المنزلي على يد زوجها، إذ نشرت فيديو يثير الحزن والغضب تطالب فيه بإنقاذها من زوجها الذي يهدد بإيذائها وحبسها ضد إرادتها داخل بيتها، ومنعها من العمل والتواصل مع العالم. بعد ساعات، تدخلت الأجهزة الأمنية وحررت ضده محضرًا وأحالته للتحقيق.
مأساة إيفون تسلط الضوء على كارثة العنف المنزلي التي تعاني منها كثير من الأسر المصرية، ورغم سوء وضعها إلا أن حظها كان أفضل من آلاف غيرها ممن لا يتمكّن بالأساس من الشكوى أو تحرير محضر رسمي، أو حتى الحصول على بعض التعاطف والدعم المعنوي.
المؤكد أن العنف الأسري ليس حالة فردية، ولا يتعلق بطبقة اجتماعية أو اقتصادية بعينها، ولكنه ظاهرة منتشرة بشكل كبير في مصر ومتجذرة بسبب العادات الذكورية والتقاليد الأبوية التي تجعل من حق الرجال تأديب النساء، ومن حق الآباء والأمهات تأديب الأطفال.
الثقافة الذكورية المتجذرة تصور النساء ملكية خالصة لكل الذكور، بدءًا بالأسرة مرورًا الجيران وباقي المجتمع، فتجد المثل الشعبي الشهير "اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24"، وهو نفس الأسلوب الذي ينطبق على تربية الأطفال أيضًا، فالمتعارف عليه في الموروث الشعبي أن الآباء حين كانوا يدفعون بأبنائهم للتعليم، سواء على يد الشيخ في الكتاب أو في المدرسة، خصوصًا في المرحلة الابتدائية كان الأب يقول للمدرس أو الشيخ "اكسر وانا أجبر"، مقدمًا رخصة للمعلم بضرب الطفل حتى تكسير عظامه التي سيجبرها الأب لاحقًا، باعتبار أن ذلك هو الطريقة الجيدة والفعالة للتعليم.
كل هذا العنف لم ينته، ولكنه مستمر رغم الحديث عن المساواة والتربية الحديثة، ففي دراسة للمجلس القومي بعنوان "العنف ضد النساء في مصر"، تأكد أن 28% من النساء يتعرضن للعنف الجسدي من أزواجهن، وأن أربعة من كل خمسة رجال يمارسون عنفًا نفسيًا على زوجاتهم، كما أن نصف الشابات تعرضن للعنف الجسدي على أيدى الأشقاء الذكور؛ ونصفهن كذلك تعرضن للعنف الجسدي من الأب.
كذلك، رصد الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء 5 مليون و600 ألف امرأة يعانين من عنف على يد الزوج أو الخطيب سنويًا، وهناك مليوني و400 ألف امرأة أصبن بنوع واحد أو أكثر من الإصابات نتيجة لعنف على يد الزوج أو الخطيب، وأن مليون امرأة يتركن منزل الزوجية نتيجة العنف على يد الزوج.
وبالطبع تلك الأرقام هي التي وصلت بالفعل للجهات الرسمية، وتم رصدها أو تحرير محاضر بها، لكن الرقم الحقيقي في الغالب أكبر كثيرًا.
تصريحات وردية وقوانين تمييزية
على النقيض من الوضع العملي القاتم، ترسم التصريحات الرسمية صورة مليئة بالآمال حول اهتمام الدولة بمكافحة العنف ضد النساء ودعم التوجه نحو المساواة والتمكين الاقتصادي والاجتماعي، لكنها لا تخلق واقعًا مغايرًا، خاصة في ظل منظومة قوانين تدعم العنف ضد النساء، لا سيما المنزلي، استنادًا إلى تفسيرات ذكورية للشريعة، فالاستناد إلى "الحق الشرعي" في التأديب في تفسير المادة 60 من قانون العقوبات، يُستغل لتقنين العنف ضد النساء والأطفال، إذ تنص المادة على:
"لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملًا بحقٍّ مقرر بمقتضى الشريعة".
ومع أن الحالات التي ينتج عنها كسور أو إصابات خطيرة تتطلب النقل إلى المستشفى والعلاج لفترات طويلة، يتم تحرير محاضر رسمية بها، لكن في كثير من الأحيان تضطر النساء للتنازل عن تلك المحاضر تحت ضغط المجتمع والعائلة، ليفلت الزوج من العقاب. وحتى في الحالات التي لا تتنازل فيها النساء يكون من حق القاضي استخدام "الرأفة" استنادا للمادة 60 من القانون باعتبار أن الزوج كان "سليم النية" ويحاول تطبيق أحد مقتضيات "الشريعة".
يتمتع القضاة بتلك الحرية في "الرأفة" بمرتكبي جرائم العنف الأسري، لأن القانون يخلو من أي نص يجرم بوضوح هذا النوع من العنف، وبالتالي تُستغل المادة 60 لتبرير جرائم الأزواج ضد الزوجات باعتبارها "حق الزوج في تأديب زوجته".
تلك المادة المشؤومة هي نفسها التي تدعم توجه أقسام الشرطة للتعنت أو رفض تحرير محاضر ضد الآباء أو الأخوة الذكور الذين يعنفون بناتهم/أخواتهم، وهي نفسها التي تدعم رفض تحرير محاضر من الزوجات ضد الأزواج.
وفي كثير من الأوقات وعند تمسك الزوجة بتحرير محضر ضد الزوج تكون النتيجة تعاون قسم الشرطة مع الزوج وتحرير محضر اعتداء مضاد ضد الزوجة، وينتهي الأمر باحتجاز المرأة ليلة على الأقل في القسم انتظارًا للعرض على النيابة في اليوم التالي، ليستمر تفشي العنف المنزلي وخوف النساء من الإبلاغ، لأن النتيجة النهائية غالبًا ما تكون تنازل المرأة عن المحضر ضد الزوج في مقابل تنازله عن المحضر الذي حرره ضدها.
الذكورية تقتل الخطوات الرسمية
في بداية سبتمبر/ أيلول 2021 أصدر رئيس مجلس الوزراء، قرارًا بإنشاء "الوحدة المجمعة لحماية المرأة من العنف"، ومن المقرر أن تكون تلك الوحدة تابعة مباشرة لمجلس الوزراء ومقرها الرئيسي القاهرة، ويجوز إنشاء فروع لها في باقي المحافظات، وتضم ممثلين عن وزارات: العدل، والداخلية، والصحة والسكان، والتضامن الاجتماعي، والنيابة العامة، والمجلس القومي للمرأة، والمجلس القومي للطفولة والأمومة.
الوحدة هي بالتأكيد خطوة هامة وإيجابية، إلا أن النتائج المرجوة منها تعتمد بالأساس على نوعية العاملين الذين سيتم توظيفهم/نقلهم للعمل بها، وهو ما يخلق تخوفات من مدى التعاون مع الشكاوى التي سيتم تقديمها للوحدة. وبالإضافة إلى ذلك ستكون ترسانة القوانين التميزية عائقًا ضد تحقيق نتائج مؤثرة وعلى نطاق واسع.
وهنا نتذكر أن الثقافة الذكورية والقوانين التميزية وعدم التدريب الكافي للعاملين، كانت هي نفسها العوامل التي قوضت منذ عام 2013 فاعلية وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في وزارة الداخلية، وجعلتها مجرد مسمى غير فعال في حماية حقوق النساء رغم الآمال التي انعقدت عليها.
الوحدة الجديدة التابعة لمجلس الوزراء هي محاولة أخرى للاستجابة لضغوط وأفكار جماعات نسوية وحقوقية دافعت على مدى عقود عن فكرة إنشاء مراكز شرطية متخصصة، لتلقي البلاغات من النساء ضحايا العنف والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، لكن نجاحها الفعال سيعتمد بالأساس على تدريب العاملين بها والقائمين عليها، تدريبات حقيقية على مفاهيم العنف القائم على النوع الاجتماعي.
لوم الضحية كارثة مستمرة
اعتبر عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ميلفن ليرنر في كتابه "الإيمان بعدالة الكون" أنّ لوم الضحية هو مجرد قناعة قائمة على الوهم المغلوط لدى البشر، والقائم على قناعات دينية تزعم أن ما يناله المرء من ظلم، هو بمثابة "عقاب مستحق" على ذنب ما. ويوضح ليرنر أن هناك ثلاثة أنماط من الشخصيات تميل إلى لوم الضحية دائمًا، وهي الشخصيات المتحفظة أو التقليدية، والمتعصبة دينيًا، والاستبدادية.
وبالنظر إلى تركيبة المجتمع المصري الحالية يندر أن نجد شخصيات مغايرة لتلك الأنماط الثلاثة، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا لمن يرغب بالفعل في تغييرات جوهرية لمكافحة العنف المنزلي بشكل خاص أو العنف ضد المرأة بشكل عام، فتفكيك تلك البنية الاجتماعية/الثقافية التي تميل إلى لوم الضحايا من النساء هو العامل الأكثر أهمية بالإضافة إلى تعديل منظومة القوانين. هو تحدٍ كبير ويحتاج إلى عقود طويلة، لكنه لن يتحقق دون تعديلات قانونية بالتزامن مع توعية مستمرة رافضة للوم النساء على الظلم أو العنف اللاتي يتعرضن له.
لا بد من تنقية منظومة التشريعات الحالية من القوانين التمييزية، وإلغاء المادة 60 من قانون العقوبات، وإصدار قانون جديد لتجريم العنف الأسري. ولعل جانبًا من الحل موجود بالفعل في ملفات البرلمان، إذ تقدم المجلس القومي للمرأة بمشروع قانون معنٍ بحماية المرأة من كل أشكال العنف التي تتعرض لها، سواء في نطاق الحقوق الشخصية أو الحقوق الاقتصادية، أو السياسية، أو الاجتماعية، كما تقدمت سبع منظمات نسوية بمشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء عام 2018 وحملته للبرلمان النائبة نادية هنري لعرضه على اللجان المختصة.
ربما يكون إقرار هذا القانون هو بداية تنقية منظومة القوانين الحالية التي تجعل النساء عرضة لابتزاز العائلة والزوج. تلك المنظومة التي تكرس لاستمرار العنف الأسري دون علاج، وكأنه جزء من الحياة اليومية الاعتيادية.