أيام الجامعة كنت مشهورًا وسط زملائي كأكثرهم معرفة بالشوارع والحواري في محيط السكن، وحتى المشاوير البعيدة التي كنا نذهب إليها، سواءً لقضاء حاجة معينة أو كفسحة عادية، في تلك المشاوير كنت أعود محملًا بتفاصيل الشوارع التي مشينا فيها، أسمائها، مداخلها، مخارجها، وعلاماتها المميزة، كان زملائي ينبهرون بتلك الميزة، رغم المفارقة الغريبة أنني لا أحب المشي أصلا.
لم تربطني بالمشي علاقة جيدة سوى مؤخرًا، بعدما أصبح العمل يأكل أكثر وقتي، ولأنني أحب أن أختلي بنفسي قليلًا كل يوم ولو لفترة يسيرة جدا. قديمًا كنت لا أحب المشي لأنني أتعب بسرعة، وأحتاج إلى الاستراحة في أسرع وقت ممكن، كنت أحب اكتشاف الشوارع والأماكن الجديدة عليّ، بشرط أن لا تتجاوز مدة التمشية أكثر من ساعة، لم أصل أبدًا إلى الحد الذي يجعلني أهيم على وجهي في الشوارع سوى في مرات معدودة أغلبها كانت لحظات انكسارات تامة، لم أجد فيها من يستمع إليّ سوى الشارع.
هناك شيء سحري في التمشية هكذا يكرر كثير من أصدقائي ليبرروا توهانهم المتكرر في الشوارع التي لا يعرفونها، مؤخرًا صرت أصدق تلك الجملة مثلهم، فالمشي بات حلًا ناجعًا لكل نوبات الاختناق التي أصابتني، وكان دافعًا للتفكير، مجرد التفكير دون هدف محدد للوصول إليه، فعل المشي نفسه هو فعل الحياة، أن تتحرك للأمام، لتغير من وضعيتك، أو لتثبت لنفسك وللناس أنك تتحرك، كنت هنا، ثم صرت هناك.
في كل القصص التي أحببتها كان هناك بطل يمشي ليمارس فعلًا يعبر عنه، أو على الأقل هناك فعل "مشي" لا يمكننا نسيانه. في ثلاثية نجيب محفوظ مثلًا، في الجزء الأول على ما أتذكر، كان ياسين، الابن البكري للسيد أحمد عبد الجواد، يلف الشوارع طول النهار حتى يهرب من سلطة البيت ومن خجله الذاتي أنه فاشل أو لم يتقن شيئًا في حياته، لكن ما أتقنه ياسين كان المشي، الذوبان في الشوارع وتفاصيلها وتخيل العوالم المتخفية خلف النوافذ. هناك مشهد له في أحد الأيام القائظة وهو يتتبع مؤخرة سيدة ما، وينش الذباب عن وجهه وطربوشه تائهًا عن العالم كله ومعطلًا كل شيء في جسده سوى قدميه اللتين تتبعان السيدة، مشى ياسين خلفها وهو يتأملها ويحدث نفسه في مونولوج طويل عن أمنياته وفرصه الضائعة، مشى وكأنه سيظل يمشي للأبد.
تجاوز الزمن: التوقف عن تدميره
يقول ميلان كونديرا في كتابه البطء، إن سرعة مشي الإنسان تتناسب وتتغير بالشكل الذي تتغير به أفكاره، أي عندما تشتعل أفكار الإنسان ومشاعره فإنه يميل للمشي بأسرع ما يمكن، وبالعكس إذا كان هادئًا لا يشغل باله شيئًا فإنه يهدأ في سيره وينقل الخطى بتؤدة وعلى مهل. بهذا التفسير الذي يفرضه كونديرا لا يصبح المشي مجرد فعل حركة للانتقال من مكان إلى آخر، بل فعل حيوي للانتقال من شعور لآخر، كالفجوة الزمنية في أفلام الخيال العلمي التي تسمح للبطل بالانتقال اللحظي من زمن إلى آخر مغاير تمامًا. في لحظات المشي السريع منها والبطيء هناك محاولة ما لتجاوز الزمن، لفعل شيئين معًا في لحظة واحدة، كخاصية الـ "مالتي تاسكينج" في الأجهزة الإلكترونية لكن على مستوى المشاعر الإنسانية وأفعال الحركة في لحظة واحدة، بتلك الطريقة يساعدنا المشي على تكثيف اللحظات الشعورية فوق بعضها فنتجاوز ضغطها علينا، أو تمديدها وإطالتها حتى تتجاوز حجمها الطبيعي فنغرق فيها.
تريللر فيلم Demolition
هناك فيلم أحبه يفسر نظرية تناسب المشي والمشاعر تلك، هو Demolition أو تدمير من بطولة جاك جالينهل.
في الفيلم تموت زوجة البطل ديفيز في حادث سير وهو يركب إلى جوارها، يهيم ديفيز على وجهه غير مصدق أنها ماتت، خاصة بعدما يكتشف أنها كانت حاملًا في الشهر الثاني، ولم تكن أخبرته بعد. تنقلب حياة ديفيز تمامًا، تأخذه نوبة من الذنب أنه تسبب في مقتل زوجته وطفله، يبدأ في تفكيك حياته، بل وتدميرها أيضًا، لم يكن تدميره للأشياء نابعًا من الانتقام من ذاته، وإنما عدم الفهم لما حصل، يصير تدمير ديفيز للأشياء فعلًا مزعجًا لمن حوله، ما عدا كارين التي يتعرف عليها مصادفة في إحدى المواصلات، ثم تنشأ بينهما علاقة لطيفة جدًا. في أحد الأيام، يصطحبها ديفيز معه إلى حفل تأبين زوجته، في حركة غير متوقعة ومستفزة للجميع، عندها تفقد حماته السيطرة على نفسها وتنفجر فيه، تخبره، لتنتقم منه، أن الطفل الذي كانت تحمله زوجته في رحمها ليس طفله وإنما طفل لرجل آخر.
كان ديفيز يدمر الأشياء من حوله بالفعل، الثلاجة، الخزانات، حوائط المنزل، كل العالم المحسوس الذي يحيط به، حتى جاء تصريح حماته ذلك ليدمر ما تبقى داخله من أفكار ومشاعر، يستمر ديفيز في تدمير الأشياء من حوله لكن على سبيل التفكيك، تفكيك الحياة التي عاشها، أو التي كان يظن أنه عاشها، يضيف إلى أفعال التدمير تلك فعلا آخر، بسيط جدا لكنه ملهم، يتمشى ديفيز؛ يقطع الطرقات جيئة وذهابا، وحده، ومع كارين، ومع كريس ابن كارين، يتمشى في الشوارع المزدحمة، أو الطرق الجانبية والحارات، أو الطرق غير المأهولة، أو على كورنيش البحر، المهم أنه لا يتوقف عن المشي، حتى إنه هناك مشهد شهير جدًا انتشر مؤخرا على الإنترنت عندما يضع ديفيز سماعات الأذنين وهو يتمشى في طريق مزدحم بالبشر، لكنه يتناسى العالم ويندمج مع الأغنية في أذنيه، ثم يقفز في الهواء فجأة راقصًا وكاسرًا إيقاع الحياة من حوله.
مع تكرار المشي واستطالة الشوارع تحت قدمي ديفيز، يبدأ عن التوقف في تدمير منزله، ويعيد اكتشاف الأشياء من حوله، وتفكيك أفكاره ومشاعره ويزداد قدرة في الحديث عنها، يظهر له طيف زوجته أكثر من مرة وهي سعيدة، يراها في أحلامه تلهو على أرجوحة أحصنة خشبية وهي تضحك، فيعرف في النهاية ما يريد فعله، يصلح الأرجوحة ويضعها على الشاطئ للأطفال، يلهو معهم ومع كارين، ينزل من على الأرجوحة ويراقب الأطفال السعداء، ثم يواصل التمشية.
ماشي بدون قدم
في التمشية يصير الإنسان أقرب إلى نفسه، أبعد من معظم الأشياء التي تحيط به، يستخرج أفكاره ويعيد ترتيبها، أو يتركها تمامًا ويسيح مع أفكار أخرى، أو يستمع عبر هاتفه إلى أغنيات تعبر عن حاله، فيدندن أحيانًا بلحن قديم يذهب به إلى ذكريات بعيدة، أو يفتح في نفسه شجنا للأشخاص والسنوات.
هناك أغنيتان لمحمد منير تعبّر الثيمة الأساسية في كل منها عن المشي بلا هدف، المشي لأجل المشي وفقط: ألف الشوارع من فيلم دنيا، ومين ياخد قلبي المليان من ألبوم مقدرش.
mekawym22@facebook.com · منير - مين ياخد قلبى المليان
يمكننا غض الطرف عن الفارق الزمني بين إنتاج الأغنيتين، أو حتى ظروف إنتاجهما المختلفة، واعتبارهما أغنيتين متتاليتين عن شخص أو بطل واحد، لما فيهما من توحد في الروح والثيمة.
هذا الشخص، أو البطل المجهول الذي تعبر عنه الأغنيتان يحارب أحزانه بالمشي، يقول منير في الأولى "ألف الشوارع.. أتوه في المدينة.. أضيع في المواجع.. ودموعي الحزينة"، هكذا بلا مكان واضح يدور البطل في الشوارع، يترك اللجام لقدميه تقودانه حيثما تريدان، ويترك نفسه للمدينة تبتلعه كيفما تشاء، علّه يخرج من حزنه الداخلي إلى فسحة الشوارع بناسها ومقاهيها، لكنه يدور ويدور، ويسائل نفسه غارقًا في أوجاعه.
كما يقول منير في الأغنية الثانية "مين ياخد قلبي المليان ويديني قلبي الفاضي.. مين ياخد عمري القلقان ويديني عمر الماضي"، تضربه الأحزان من كل اتجاه، فيظل أسيرًا للماضي الذي يعتقد أنه كان ناعمًا، لا لشيء سوى أنه مضي، تبتلعه المدينة التي تمتد أمامه كمحيط لا نهاية له، يدفعه شارع إلى شارع، فتخرج إليه الذكريات من كل زاوية، لا يتوقف عن المشي أو الهرب، ولا تتوقف الذكريات عن طعنه، كما يردد "وفي كل الشوارع.. لا ضاعت مواجع.. ولا هديت عيوني.. ولا عاد اللي راجع"، لأن الماضي لا يعود أبدًا، فلا يملك أي شيء سوى أن يستمر في المشي ناظرًا أمامه، ليجد نفسه أخف من الأول، كما يعود منير في أغنيته الثانية ويقول "ماشي بدون قدم.. مسنود على العدم"، حيث تتبخر الأحزان وتنطلق الأقدام لا تلوى على شيء سوى التوهان في الشوارع، لينتهي به المطاف وهو يسخر من أحزانه، مع أنها تدمي قلبه، "بضحك في الضحكة شوكة بتصرخ من الألم".
هكذا يمكننا تضفير الأغنيتين للتعبير عن الحالة التي يخلقها المشي في ذواتنا، عندما ينحي عالمنا الداخلي ويترك العالم الخارجي ليتسرب إلينا مالئا فراغاتنا النفسية والشعورية.
في كتابها حب السفر: تاريخ المشي، تشير الكاتبة الأمريكية ريبيكا سولينت إلى المعنى ذاته بوضوح عندما تقول "يعيش الكثير من الناس في الوقت الحاضر في سلسلة من التصميمات الداخلية، منفصلة عن بعضهم البعض، في المشي يبقى كل شيء متصلًا، لأنه أثناء ذلك يشغل المرء الفراغات بين تلك الأجزاء الداخلية لأنه يعيش في العالم كله بدلًا من التصميمات الداخلية المبنية عليه".
في تلك اللحظة يسمح لنا المشي برؤية حركة العالم الدؤوبة؛ نور الشمس الذي يدور حول الأرض ليل نهار، أصوات المقاهي التي يتغنى روادها بإنجازاتهم اليومية البسيطة، جري الأولاد في الشوارع، والحركات شديدة البساطة والاعتيادية كفتح الشبابيك والبلكونات، أو التحيات المرسلة بين المارة، وحتى ما نكرهه في الشارع من ضجيج السيارات وصخبها، وسرعة وتيرة الحياة اليومية، لكن ذلك كله يمنحنا نوعًا من الحرية الذاتية، كما تشير سولينت في موضع آخر من كتابها عندما تقول "إن المشي الانفرادي يعبر عن الاستقلال الذي يأخذ الإنسان حرفيًا من المجال الفردي، إلى مجال أكبر، عالم أكثر وحدة حيث يتمتع بحرية التفكير. المشي يعبر عن الحرية الجسدية والعقلية، حرية أن يقول المرء أنا أملك جسدي".
بتلك النظرة فإن سولينت تعتبر المشي الطريقة التي يقيس بها الجسد نفسه على الأرض، وأن الطرقات هي الدليل الفعلي على آثار من ذهبوا قبلنا ومن سيأتون بعدنا، تستخدم سولينت تفسيرها ذاك لتسقطه على مختلف عادات الإنسان وأفعاله، حيث يمكننا اعتبار معظم العادات اليومية أنها نوع من أنواع التمشية، بالأخص الكتابة والقراءة.
تضيف سولينت أن "اللغة مثل الطريق، لا يمكن إدراكها دفعة واحدة لأنها تتكشف في الوقت المناسب، سواء أكانت مسموعة أم مقروءة. هذا العنصر السردي أو الزمني جعل الكتابة والقراءة يشبهان المشي". هكذا ببساطة فكما أن الطريق لا تظهر معالمه مرة واحدة أمام عيني الإنسان أثناء التمشية، فإن محاولات الكتابة تشبه بناء تلك المعالم مع المفاجآت التي تظهر على جانبي الطريق أو حتى أثناء كتابة النصوص لتنتهي مغايرة تماما لما أراده كاتبها.
المشي على السطر
مثل الكتابة، فالقراءة هي نوع من التمشية في خيال الآخرين، في مدنهم التي صنعوها وشخصياتهم التي خلقوها على الورق، أيضًا على صفحات كتب التاريخ تصبح القراءة مشيًا في الماضي الذي ورثناه جميعًا عبر القرون، ننتقي منه ما نشاء، أو نرفض منه ما نشاء.
khaled khairy (Disha) · أتوه في الشوارع - محمد منير
في روايته إلياس، التي تثير كثيرًا من الأسئلة والتقاطعات حول كثير من الأحداث التاريخية، يحكي الكاتب أحمد عبد اللطيف قصة جانبية على هامش الحبكة الأساسية، عن شخص يمشي ورأسه للخلف، تفاجأ البطل إلياس عندما رأى هذا الشخص الذي يسير بقدميه إلى الأمام، لكن رأسه ينظر متجها نحو الخلف باستمرار، لا ينظر للخف بعينيه، وإنما رأسه مقلوبة نحو الخلف، عيناه وأنفه وشفتيه ناحية ظهره، وقفاه ناحية صدره، يظل الرجل يسير بتلك الطريقة الغريبة ويمارس حياته بثقل شديد، حتى في لحظة صحو مفاجئة يكتشف البطل إلياس أن هذا الرجل هو نسخة منه في زمن آخر بعيد جدًا.
تشير القصة الجانبية، في سياق الرواية، إلى الوقوع في أسر الماضي وجدانيًا وشعوريًا، حتى يصير عبئا على حياة الفرد منا، والجماعة ككل أيضا، في تلك اللحظة يصير المشي عرقلة، ليس تقدمًا نحو الأمام، وإنما هرولة نحو الخلف، نحو الماضي، فلا يحقق التحرر النفسي الذي قالت عنه ريبيكا سولينت، وإنما يصير توهانًا فارغًا كبطل أغنيات منير، ينتهي به الأمر خجلًا هو يردد "وفي كل الشوارع.. لا ضاعت مواجع.. ولا عاد اللي راجع".