تمر هذا العام الذكرى السادسة عشر لحادثة حريق مسرح قصر ثقافة بني سويف، ولا يزال الواقع المسرحي المصري يعاني ذات المشاكل والصعوبات التي كان يواجهها منذ عقود، والتي يمكن تلخيصها بإيجاز في غياب الاهتمام بقيمة ما يقدم من محتوى فني على خشبات المسارح نتيجة غياب الحريات والتخطيط المسبق لإنتاج عرض المسرحي، مع الإصرار المتعمد على عدم الإفصاح عن البيانات والأرقام بشفافية ووضوح، وغياب الدراسات العلمية والمتابعات الأكاديمية للعائد المادي والمعنوي في مراحل ما بعد الإنتاج، ودراسات الجدوى التسويقية والدعائية المهنية لما يتم إنتاجه سنويًا، وهي المصادر التي تسمح للناس العاديين من متابعي فن المسرح، بالتعرف على ما تسهم به الحركة المسرحية الرسمية وغير الرسمية من أنشطة وأعمال في كافة محافظات مصر.
حتى وقت كتابة هذه السطور، لا توجد خريطة ثقافية أو فنية رسمية معلنة بشكل مسبق صادرة عن وزارة الثقافة وهيئاتها، وأغلب الظن أن ما يشغل القائمين على العمل الثقافي والفني في المؤسسات الثقافية هو إنجاز العمل في إطار بيروقراطي يلتزم بالتعليمات والأوامر دون غيرها، إذ يلتزم الموظف العام العامل في قطاع الثقافة بقواعد وقوانين ولوائح وضعها أشخاص آخرين عاشوا وواجهوا صعوبات وإشكاليات مختلفة تمامًا عما يواجهه المثقفون والفنانون من تحديات ومخاطر وصعوبات في اللحظة الراهنة.
في هذا المقال سأحكي عما أتذكره من محرقة مسرح بني سويف، حيث كان عمي المخرج بهائي الميرغني أحد ضحاياها.
هكذا دخلت اللعبة
كان الممثل يتمايل مؤديًا دور الجارية اللعوب عشيقة الملك حبظلم بظاظا (لأن زميلته تغيبت). نعم هذه هي اللحظة الأولى وباب الدخول. اللحظة التي خطفني فيها المسرح، حيث بروفة مسرحية في قصر ثقافة المنيا القديم الذي كان قائمًا بميدان عبدالمنعم قبل أن يزول ويتحول لعمارات أسمنتية سكنية.
في البروفة وأنا أشاهد بهائي الميرغني يمارس عمله بحب، تخلقت المضغة، وأثناء مشاهدة العرض بعد اكتماله تكونت العلقة. علقة ثخينة لا تزول متشبثة بالرحم بقوة مهما مرت عليها الأيام والليالي لا يسعها إلا أن تتعاظم وتنمو لتصبح عظامًا بعدها بسنوات في جامعة أسيوط، وضمن فريق تمثيل كلية الطب البيطري برعاية المخرج الموهوب محمد أمين الهلاوي تحققت الإشارات على أرض الواقع، ونجحت في الوصول لنبض قلب ينبئ عن وجود حياة، لتتأكد صحة الجنين وقرب تمامه و اكتماله في أعقاب الانتهاء من المؤهل الدراسي وانهاء المرحلة الجامعية الأولى.
لتتلقفني بعدها بأشهر قليلة يد القابلة هنا في القاهرة، في شقة شبرا الخيمة بمساكن الظباط، حيث دار بيني وعمي بهائي الميرغني هذا الحوار:
- سألتحق بالفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج.
= الأنسب لك قسم الدراما والنقد، اسحب الملف وبعد ما تدخل هتعرف إنت عاوز تكون إيه في اللعبة، ممثل أو كاتب أو ناقد.
بعد هذا الحوار بأسبوع واحد وفي تمام الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل، صحوت ما بين اليقظة والحلم، ﻷفتح التلفزيون الصغير في شقتي، وأرى على الشاشة لقطات صامتة للمحرقة الأبشع في تاريخ الثقافة المصرية. محرقة مسرح قصر ثقافة بني سويف. بالطبع لم ولن أعاني مثلما عاش وعانى من كانوا وسط الجحيم في تلك اللحظات. لكن شهادتي عنها تظل شهادة قريبة منها، بقدر قربي ومحبتي لمن رحل فيها شهيدًا، أنقذته يد القدر مرة وربما أكثر، لكنه استخف بالحياة قدر استخفافه بالموت في سبيل إنقاذ ما يمكنه إنقاذه من لحم حلمه وبنيه من بين براثن النيران.
ما نكتبه عن ضحايا المحرقة ليست مشاعر استرجاعية لهولوكوست عشائري، ما نكتبه هو شعور متضخم بالفقد لكتيبة كانت فاعلة وقادرة على تحقيق حد أدنى من التفاني في العمل، بعضهم يتفوق على الآخر لكنهم كلهم، بلا استثناء، راحوا ضحايا لإهمال وتأخر في الاستجابة وإساءة تعامل مع الأزمة ككثيرين من ضحايا هذا البلد.
ما نكتبه ليس لعقًا لجراح لا ندركها أومآس لم نعاينها لكنها تقرير منا واعتراف بالفقد، وشعور جارف بالخذلان والعجز لفقدان مجموعة من أبرز المخلصين في عملهم حد الفناء.
يا مَن كنتم صغارًا ولم تشهدوا المحرقة، يا مَن كنتم في غيب اللحظة ولم تولدوا بعد، هذا شعور كبير بالدين تخالطه مشاعر مختلطة من القهر والغبن والشعور بالظلم مع العرفان بالجميل، والندم على النسيان في لحظات العالم اليومي، لكل من فارقوا حياتنا إخلاصًا لعملهم وأفكارهم التي آمنوا بها.
ماالذي حدث في يوم الاثنين الموافق الخامس من شهر سبتمبر/ أيلول عام 2005؟
السؤال لا يزال دون إجابة حتى الآن، رغم ما صدر في حق متهمين موظفين حكوميين من أحكام إدانة تم تخفيفها فيما بعد، ورحيل نحو 50 إنسانًا من هواة ومحبي وفناني وأساتذة فن المسرح المصري، وانهيار جزء كبير من صدفة الزيف الواقية لنظام سياسي مهتريء، كل هذا لم يوفر إجابة واحدة عن حقيقة ما حدث يومها.
يشير تقرير لجنة تقصي الحقائق إلى سقوط شمعة في خلفية المسرح، أدت لاشتعال النيران في الديكور والناس، ورغم المحاولات السريعة وقت الحادث لإخماد الحريق، إلا أن ألسنة اللهب ارتفعت لتمتد إلى الستائر والديكور المكون من خيش وورق مغطى بمواد سريعة الاشتعال مستخدمة في تجهيز المكان، مما أسقط السقف المصنوع من مادة "الفوم"، وتحوله لنيران سائلة ساعدت على زيادة وسرعة تساقط الكتل الملتهبة فوق رؤوس الجميع جمهورًا ومسرحيين.
في شهادة المخرج عادل حسان في برنامج "حصلت قبل كده" عام 2016، صرح أن لديه هاجسًا بأن ماحدث ربما يكون قد تم بفعل فاعل، معللًا ذلك بأن الشموع التي ذكرت فيما بعد في تقرير تقصي الحقائق، بأنها السبب الرئيسي في حدوث الحريق، كانت قد انطفأت تمامًا. يقول حسان "العرض خلص، واستغرقنا وقت حوالي ربع ساعة بعد انتهاء العرض لتبادل التهاني بين الحضور وفريق العمل"، وأن الفارق الزمني بين انتهاء العرض وتحية الممثلين للجمهور، وبين بدء حدوث الاشتعال الذي أدى للكارثة كان كافيًا لنفي فكرة وقوع الحادثة نتيجة الشموع الموجودة بالعرض.
شهادة المخرج عادل حسان عن حادث مسرح بني سويف
هؤلاء لم يكونوا حفنة من الموظفين المرفهين أو أصحاب المناصب، أو من أهل اللهو، بل كانوا جنودًا فاعلين يتحركون على الأرض، يحرثون الحياة يومًا بعد يوم، يغرسون الفسائل ويبذرون الخيالات، ليزرعوا المستقبل بالأمل والحياة. بالطبع تختلف أقدارهم في السعي والصدق كل حسبما كان يفعل، لكن المحصلة النهائية جرح بالغ في جبين الثقافة المصرية وفن المسرح المصري.
وبينما تم إهمال المصابين في الساعات الأولى التي أعقبت الحادث، وتركوا لمواجهة مصيرهم في مستشفى بني سويف قليلة الإمكانات، ليرتفع عدد الضحايا من قرابة العشرين وقت الحادث، إلى نحو 50 خلال أسبوع واحد بعد الحادث، كان عدد من كبار رجال الدولة العاملين بالمؤسسة الثقافية والفنية يؤكدون رفضهم لتحمل وزير الثقافة فاروق حسني مسؤولية الحادث، مطالبين رئيس الجمهورية وقتها حسني مبارك بعدم قبول استقالته، وكأنها مسألة مجرد خطأ إداري أفضى إلى موت نخبة من أقدر النخب المسرحية على العمل في أرض الواقع.
تصور معي أيها القارئ أنك صاحب مهنة تحتاج فيها إلى عين مبصرة ويد ماهرة ،وفجأة فقدت بصرك أو قطعت يدك. تخيل معي الأصعب أن تفقدهما معًا لتبقى مجرد جسم فاقد القدرة على المضي قدما في ممارسة الحياة.
هذا الجرح الذي جسّده رحيل فئة فقيرة الإمكانات عظيمة الهمم، وعجز ورثتهم عن القصاص ممن اغتالوا رفاق دربهم وشركاء مخيلاتهم، وبعيدًا عن فوضى الأسباب التقنية والإجراءات البيروقراطية المؤسفة التي أحاطت بالحادث، يبقى فشل وعجز الإدارة الحكومية للموقف آنذاك وحتى الآن، عن حماية الناس من مصائر سوداء ووقايتهم من بطش الإهمال والتفريط، واحدًا من أكبر وأهم تحديات المجتمع المصري.
هذا العجز لا يزال حاضرًا ومتناميًا بقوة في المشهد بمختلف المجالات وربما كان هو السبب الرئيسي والركن القانوني الذي يتحقق فيه قصد التعمد مع سبق الإصرار على إزهاق الأرواح والتضحية بالفقراء كقرابين لعملية امتهان الفكر والفن ومحاولات حرق الجسد المقاوم لأيديولوجيا الجمود والتخلف والجشع والاستهلاك.
هم لم يكونوا ملائكة لكنهم شهداء مرحلة نحن عليها شهود.