كنا نتناقش في السجن إذا ما كان للخراء درجات. اعتذر للقارئات والقرَّاء لاستخدام هذه الكلمة المقززة. لم أعتد ذلك في كتاباتي مطلقًا، ولكن لكل قاعدة استثناء، والسجن تجربة استثنائية تليق بها هذه الكلمة بكل تأكيد.
كان هناك رأي أن الخراء له درجات، فنحن ثلاثة أو اثنان فقط في الزنزانة مقابل 15 أو 20 في زنازين أخرى، ولا ننام على الأرض مباشرة، ولدينا حمام أفرنجي وليس "بلدي" ونتمتع بمياه ساخنة، والنزلاء الجنائيون في العنبر ليسوا من عتاة المجرمين الخطرين، ويتعامل معنا ضباط السجن باحترام ويستمعون لما نطلبه حتى لو لم يتم تنفيذه؛ ولذلك فنحن أقل معاناة.
أما وجهة النظر الأخرى فهي أنه لا توجد درجات عندما يتعلق الأمر بالخراء، لأن أساس هذه المعاناة وسببها هو السجن نفسه وتقييد الحرية والابتعاد عن الأسرة والأصدقاء والعمل، وامتهان ما كنت تعتبره كرامتك وجسدك من قبل الشاويشية والمخبرين المسؤولين عن التفتيش كلما خرجت لزيارة أو لجلسة تجديد حبس أو للمستشفى. كل ذلك من دون سبب أو ارتكاب أية جريمة.
في البداية كنت أرى أن للخراء درجات بالفعل، ولكن مع مرور الوقت، وانطفاء الروح، بدأت أميل لوجهة النظر الثانية، ولم تعد اسوأ الظروف المعيشية تمثل فارقًا.
مع الوقت، حين تطول مدة السجن، و"تنطفئ الروح" كما قرأت في رواية حكى فيها سجين تجربته، لا يصبح لهذه المميزات التي نتمتع بها أية قيمة، ولن يكون هناك فارقًا كبيرًا لو قمت بالنوم على الأرض مع 15 آخرين، أو استحممت بمياه باردة. مع الوقت ستعتاد الحمام البلدي وستجد طريقة للتعامل مع أي سجناء مزعجين محتملين. وأحد دروس تجربة السجن، والتي كانت تثير استغرابي أحيانًا، هي قدرة الإنسان على التعايش مع كل الظروف، واضطراره للقيام بأمور لم يعتدها سابقًا كانت تبدو مزعجة للغاية وشبه مستحيلة.
السجين في الرواية، التي لا أذكر عنوانها للأسف، كان يقول إن أصعب فترة في السجن هي الفترة الأولى عندما كان مدركًا للوقت والأيام والصباح والمساء. مع طول فترة السجن "انطفأت روحي" ولم أعد أعرف من الأيام سوى الجمعة عندما يتم غلق الزنزانة 24 ساعة ويلغى التريض في الهواء الطلق بسبب الإجازة الرسمية. عدا ذلك فأسماء الأيام لا تهم، سبت أو أحد أو اثنين. أما الإجازات الرسمية التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر ونحن خارج السجن فتصبح خبرًا سيئًا لأنه يتم غلق الزنازين تمامًا وتبدو الساعات لا تنتهي داخل الصندوق المغلق المسمى بالزنزانة.
لو كان الوقت رجلًا لقتلته
بعد قضاء نحو عام في السجن، جاءنا نزيل سياسي جديد متهم في أحد قضايا تمويل تنظيم الإخوان. كان متقدمًا في العمر نسبيًا ورجل أعمال ثري يمتلك مصانع ومشروعات عديدة. وكل عدة ساعات، كان يقف على النضارة ويبدأ في السؤال بصوت عال تشوبه الاستغاثة "الساعة كام؟ الساعة كام يا ولاد". فالسماح للسجين بالحصول على ساعة أمر يخضع للتفاوض مع الضابط المسؤول ويستغرق وقتًا.
في البداية كنا نقوم بالرد عليه، مدركين أن أول التحديات التي تواجه السجين الجديد هي رغبته في أن يؤكد لنفسه أنه ما زال واعيًا بما يدور حوله وقادر على حساب الساعات والأيام مع أمل ووهم أن هذا الكابوس سينتهي سريعا. ولكن مع تكرار هذا السؤال، وسماعنا لاستغاثاته في الثانية والثالثة صباحًا بينما الغالبية نيام أصبح من الصعب الرد على سؤاله. وبعد مضي نحو شهر، توقف النزيل الجديد عن الصراخ "الساعة كام؟". انطفأت روحه.
شخصيًا، تمكنت من الحصول على ساعة بعد شهرين من دخول السجن كهدية من نزيل تذكر أنني في الشهر الأول كنت، كما النزيل الإخواني الجديد، أقف على نضارة الزنزانة وأوجه نفس السؤال عن التوقيت. ولكن عندما وصلتني تلك الهدية، كنت فقدت الاهتمام بالوقت، وقدمت الساعة هدية لزميل آخر في الزنزانة.
أصبح التحدي الرئيسي هو "قتل الوقت"، وكان يكفي بالنسبة لي الاستماع للأذان في توقيت الصلوات الخمس، فجر، ضهر، عصر، مغرب، لأعلم بشكل نسبي في أي مرحلة من اليوم نحن. ثم تبدأ مرحلة المساء بعد آذان العشاء وحتى يأتيني النعاس. أنام في أي وقت وأصحو في أي وقت.
النوم في السجن نعمة وهدية من الله، فكلما طالت ساعات النوم قتلت الوقت. ومن غير المقبول مطلقًا في السجن أن توقظ شخصًا نائمًا مهما كان السبب. انتظر حتى يصحو، فلا شيء عاجل بالتأكيد ولا يوجد لدينا شيء سوى الوقت والوقت والمزيد من الوقت، بينما تبقى ممدًا على فراشك تتأمل وتفكر، أو لا تفكر، في أي شيء وسط شعور ممتد بالبلادة والسكون والوخم.
كان أحد الأسئلة التي يتم تداولها باستمرار بين السجناء "بتقضي يومك ازاي؟" أو كيف تقتل الوقت؟ وتتفاوت الإجابات طبعًا حسب الإمكانات المتاحة في كل زنزانة. الزملاء الجنائيون كان متاح لهم دخول أجهزة تلفزيون و"ريدر" reader وفلاشات محمَّل عليها أفلام ومسلسلات وأغانٍ ورقص (غير إباحي) وهو ما كان يسمح بقتل الكثير والكثير من الوقت، وذلك بجانب الاطلاع على الصحف والاستماع للراديو. وكنت أستغرب جدًا عندما يقول لي سجناء جنائيون إنهم في سهرة الليلة السابقة الممتدة حتى السادسة أو السابعة صباحًا قاموا بمشاهدة 15 أو 20 حلقة كاملة من مسلسل ما، أو ثلاثة أو أربعة أفلام. وعندما أسأل كيف يمكنهم القيام بذلك، يكون الرد السريع: هو احنا ورانا إيه؟
أما نحن السجناء الاحتياطيون الغلابة في عنبر السياسي فلا تلفزيون ولا فلاشات ولا صحف. ولذلك قتل الوقت مهمة أصعب. النوم أساسي كبقية السجناء، كما يُنصح بالقيام بكل شيء ببطء شديد. إعداد وجبة الإفطار الذي قد يستغرق خمس دقائق يفضل أن يأخذ ساعتين، وكذلك وجبة الغذاء يمكن أن تشغلك ثلاثة ساعات، ولتستحم في ساعة أو أكثر إن استطعت. وهناك كذلك فقرة التأمل في الحائط وبيوت العنكبوت والبقع المتسخة على الحائط أو قطع الدهان المتساقطة وتخيل أشكال وصور مختلفة لبشر تحبهم، أو النظر من فتحة النضارة للحائط او باب الزنزانة المقابلين دون أن يكون هناك شيء يستحق أن تراه. ولكن يمكنك تخيُّل أنك تقف في شرفة منزلك مثلًا، يمكن أن ترى أشياء وبشر يمشون في الشارع وزحمة سيارات، وتقتل المزيد من الوقت.
ولقتل الوقت أيضًا، تم السماح بعد نحو ثلاثة شهور بدخول الكتب في الزيارات العائلية، بشرط ألا تتضمن أي عناوين سياسية وتقتصر على الأدب والتاريخ، وكذلك جهاز راديو ترانزيستور صغير، موجة واحدة.
كتب الأدب والتاريخ مليئة بالسياسة بالطبع، ولكن الأمر برمته يخضع للمصادفة. في أحد المرات قام الضابط المعني بمنع دخول روايتين بسبب "عدم ملائمة المحتوى". أصابني الفزع والغضب الشديدين عندما تم منع رواية "الحب في المنفى" لأستاذي العزيز أطال الله في عمره، بهاء طاهر، ورواية أخرى للكاتب الصديق الأستاذ إبراهيم عبد المجيد. وعندما سألت عن السبب، أمسك الضابط بصفحة عشوائية في الرواية وقال "بيتكلم عن الشيوعيين وفترة السجن". وكان ردي "أيوة يا فندم بس ده كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وقت عبد الناصر"، ولكنه أصر "دي مش هتدخل". أما اعتراضه على رواية عبد المجيد فكان لأن صفحة ما أثناء فر الكتاب سريعًا كانت تحتوي مشهدًا حميميًا. وسألت ماذا يمكن أن تفعل تلك الصفحة لرجل سجين يبلغ من العمر 53 عامًا؟ أنهى الضابط المقابلة بعد أن علا صوتي مدافعا عن الأستاذين بهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد وإنتاجهما.
قراءة الكتب هي نعمة كبرى وهدية من الله لولاها لما استطعت أن أمضي الشهور التسعة عشر. قبل دخول السجن كان قراءة رواية من 300 أو 400 صفحة يستغرق ربما أسبوعين أو ثلاثة بسبب الانشغال في المسؤوليات اليومية. في السجن كان يتم الانتهاء من نفس حجم الرواية في يوم ونصف أو يومين. ولذلك كنت اقرأ كل شيء وأي شيء يصل السجن، ليس لي فقط، ولكن لكل الزملاء من السجناء السياسين الآخرين. وكان كل منا يعرف ما لدى الآخر من كتب، وتدور الكتب على الجميع لكي نستمتع بالتأكيد، ولكن الأهم لقتل الوقت.
قرأت أو أعدت قراءة عشرين رواية على الأقل لنجيب محفوظ وليوسف إدريس وتوفيق الحكيم وللرائعة الراحلة رضوى عاشور، ومجموعة روايات ريم بسيوني وروايات المنسي قنديل وخيري شلبي، وقرأت لتشيكوف وإرنست هيمنجواي وألبير كامو، وكتاب رائع اسمه الشمندر لخالد الخميسي، وروايات الأستاذ بهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد. وقرأت 4 مجلدات ألف ليلة وليلة مترجمين من الهندية للعربية، وكليلة ودمنة، ورواية Eat, love and pray، وقواعد العشق الأربعون بالعربي والإنجليزي، وكتب عمر طاهر كلها تقريبًا، وكانت الأكثر إثارة للضحك والابتسام لأنه من جيلي ويحكي قصصًا أعرفها جيدًا. وقرأت مجلدًا كاملًا لمستشرق إنجليزي لا أذكر اسمه عن تاريخ الإسلام في مصر منذ دخوله، ومجلد ساذج لمستشرق إسباني أمضى سنة في مصر وكتب كلام قمة في العنصرية والانحطاط. قرأت كثيرًا جدًا.
الزملاء من الإسلاميين كانوا يحبون كتب التاريخ ويستعيروها منا أحيانًا، ولكن الاتصال بهم كان قليل. وكان هناك أحد المسيرين من جماعة الجهاد يستعير منا الروايات المترجمة.
لم يكن الحصول على الراديو أمر سهل. إدارة السجن تسمح بدخول راديو بموجة واحدة فقط، هي موجة الـ FM. فالأجهزة المعنية في مصر لا تسمح بمنح ترددات هوائية على موجة FM لأية محطات راديو إخبارية عربية أو عالمية مثل البي بي سي أو الحرة أو غيرها، على عكس الحال في كل الدول العربية الأخرى تقريبًا.
وعندما تأخرت موافقة الضابط المعني عدة شهور، لجأت لمساعدة النزلاء الجنائيين وحصلت على جهاز راديو بعد نحو شهر تتوافر به "الموجة المتوسطة" بجانب الـFM. لم يعد أحد يهتم بالاستماع للراديو على الموجة المتوسطة، وبالتالي انتقلت كل المحطات تقريبًا لموجة الـFM حيث نوعية الصوت أفضل وكذلك القدرة على الوصول لجمهور أوسع.
ورغم وجود نحو عشرين أو ثلاثين محطة راديو على موجة FM في مصر، فهي إما مملوكة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) مثل البرنامج العام وصوت العرب والشرق الأوسط والبرنامج الأوروبي الخ، أو مملوكة لـ"الشركة المتحدة" مثل محطات راديو مصر و9090 وراديو هيتس وغيرها مما يعرف بشبكة "راديو النيل". الخلاصة أن كل المحطات رسمية تذيع الأخبار الرسمية وتشيد بما يتحقق من إنجازات وتبرز التوجيهات الرئاسية وتبث الأغاني الوطنية صباح مساء. يتبقى محطتان خاصتان فقط على الFM ولكن شرط التعاقد كان إذاعة الأغاني وبرامج الترفيه فقط، دون نشرات أخبار أو سياسة.
كان هذا الراديو الذي هرَّبه لي نزيل جنائي كنزًا عظيمًا جدًا بعد اكتشاف أنه يمكنه التقاط إذاعة البي بي سي العربية على الموجة المتوسطة. وكانت تنتابنا جميعًا موجة من الشجن والطرب حينما يصدح صوت العظيمة أم كلثوم في الحادية عشر من مساء كل يوم على إذاعة الأغاني. الله يا ست.
تعاملي مع جهاز الراديو الترانزيستور الصغير، أعاد لذهني سريعًا فترة الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنت طالبًا جامعيًا، ولم يكن متاحًا بعد في تلك الفترة لا إنترنت ولا محطات فضائية على القمر الصناعي. ومقابل الرقابة اللصيقة على وسائل الإعلام المحلية، وإخضاع الصحف والمجلات القادمة من الخارج لرقابة مسبقة، كان الراديو الوسيلة الوحيدة لجيلي، ومن هم أكبر في السن، لمعرفة أخبار لا تريد الأجهزة المعنية لنا أن نعرفها عن بلدنا مصر.
في 2021، استعدت خبرة الثمانينيات، ممسكًا بجهاز الراديو الصغير رافعًا الإريال حتى نهايته، ثم أبدأ في الحركة يمينًا ويسارًا وفوق وتحت حتى أتمكن من التقاط بث إذاعة البي بي سي باللغة العربية، والتي لا تُبث على الموجة المتوسطة سوى ثلاث ساعات ما بين الخامسة والثامنة صباحًا، وفترة مماثلة بين الثامنة والحادية عشر مساءً. كنا نسمع خبرًا ما على الإذاعات الرسمية ينتقد إثيوبيا مثلًا، أو يهاجم بيانًا أصدرته دول أوروبية بشأن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ثم ننتظر حتى الصباح الباكر لمعرفة مضمون البيان الإثيوبي أو الأوروبي ولماذا غضبت حكومتنا الرشيدة.
في شهور الشتاء، يكون الاستحمام مهمة ثقيلة، خاصة مع الاضطرار لخلع الكثير من الملابس التي نرتديها للحصول على الدفء في زنزانة كل شبابيكها مفتوحة طوال الوقت. ولكن كان يمكن إغلاق الشباك الرئيسي بكرتون أو بطانية في شهري يناير وفبراير، وربما تغطية النضارة كمصدر آخر للهواء البارد بستارة. أما في الصيف الحار، فيتمنى السجين لو أن بإمكانه المكوث تحت دش المياه للأبد، حتى لو كانت المياه ساخنة عند فتح الصنبور. فالبديل لمياه الدش والاستحمام هو الغرق في عرقك من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك.
كانت الزنازين صغيرة وكنا ثلاثة أفراد في كل زنزانة، وبالتالي لم يكن هناك أية أنشطة ليلية، وكان زملائي يفضلون النوم مبكرًا. أما ما كان يحرم الجميع من النوم المبكر فهو مباريات كرة القدم التي يكون الزمالك والأهلي طرفًا بها، حيث يلي كل مباراة فاصل من النكات والألش والتريقة على الفريق الخاسر أو المتعادل، وعندما يخسر الزمالك، يخرج أحد الزملاء الجنائيين له صوت أجش ومشروخ ليصرخ "يا بوابين"، فاقفز بدوري على النضارة وأرد عليه قائلًا "يا بقالين"، ثم ينتهي الأمر بالضحك والعودة للهدوء القاتل.
النوم، الكتب، الراديو، الطهي، الاستحمام، والتريض لساعة واحدة فقط والتحدث مع الزملاء عبر فتحة النضارة كانوا يقتلون الوقت يوما بعد يوم وأسبوعًا تلو أسبوع، وشهرا بعد شهر، حتى قضيت 560 يومًا كاملًا في السجن.