كانت أول جلسة لتجديد حبسي قصيرة نسبيًا. صعدت من الحبسخانة مقيدًا من يدي اليسرى مع سجين آخر في طابور من نحو عشرين سجينًا حتى الطابق الرابع حيث مكتب السيد وكيل النيابة. وجدت المحامي والصديق خالد علي ومعه مجموعة من المحامين في بهو مبنى نيابة أمن الدولة العليا قبل صعود بقية الطوابق. وكانت سعادتي بالغة لرؤيتهم للمرة الأولى منذ سجني.
خالد علي له ابتسامة عريضة تبعث على الأمل ولسان حاله "شد حيلك واجمد". وإلى جواره وقفت الصديقة العزيزة داليا زخاري التي لم تمارس المحاماة منذ سنين، ولكنها قررت ارتداء الروب الأسود الشهير ثانيةً لكي تحضر معي التحقيق أمام النيابة، وكذلك المحامون والأصدقاء أحمد فوزي وأحمد راغب ومحمد عبد العزيز وراجية عمران ومختار منير وفاطمة سراج وآخرون أقدرهم كثيرًا وأشعر بالامتنان البالغ لما قاموا به من جهد تطوعي.
من يمارس السياسة في مصر، والصحافة كذلك، لا بد أنه يعرف الكثير من المحامين. ولكن رؤية هذه الكتيبة المتطوعة دائمًا من المحامين الأصدقاء كان لها أثر بالغ في نفسي. مقابل كل هذا الدعم، شعرت أن عليَّ أن أبدو متماسكًا وصلبًا أمام الجميع، رغم ما كنت أشعر به من صدمة وإرهاق وقلق بالغ على والديَّ وابني الوحيد. ولأنني كنت ناشطًا سياسيًا يساريًا منذ أيام الجامعة، تلبستني روح النضال مجددًا ورفعت يدي الخالية من الكلابش عاليًا بعلامة النصر ورسمت ابتسامة عريضة على وجهي صاحبتها نظرة ثقة وتصميم. ولكن لم أجد في نفسي ما يكفي من الشجاعة لكي اهتف "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" أو "عاشت ثورة 25 يناير".
استخدم المحامون المصعد للوصول للطابق الرابع، بينما واصل طابور السجناء الصعود على السلالم. أمرنا الشاويشية بالجلوس على الأرض أمام مكتب وكيل النيابة مع تنبيه صارم بعدم الحديث مع المحامين، ولكن طبعًا مع مرور الوقت بدأنا معهم الحديث همسًا وبالإشارة، قبل أن تعلو الأصوات تدريجيًا وتتداخل حتى تصدر صيحة أخرى من مخبر أو شاويش تذكرنا بأن الكلام ممنوع مع التهديد بإعادتنا للحبسخانة.
نظرت لصديقتي داليا وابتسامتها العريضة. أشرت لها بأسف على الكلابش في يدي، ولكنها أشاحت بيدها قائلة "مش مهم". ولكن لفت انتباهها "السترة" المزرية التي ارتديها ولحيتي البيضاء الطويلة وشبشب الزنوبة في قدميّ. شرحت لها أنه لم يتم السماح بعد بدخول ملابس في الزيارة أو استخدام خدمات حلاق السجن. كما اطمئنيت منها على صحة والدي وأطلعتني أنه بدأ في تلقي حقنة هرمونية كل شهر لمحاصرة خلايا سرطان البروستاتا اللعينة. وفهمت منها أن ابني، باسم، لم يعرف حتى الآن أنني في السجن على أمل أن أخرج إليه قريبًا، وأن الرواية الرسمية ما زالت أنني سافرت في مهمة صحفية تستغرق شهرًا أو أكثر.
وبعد ساعة أو أكثر، سمعت اسمي الثلاثي إيذانا بدخولي لوكيل النيابة. لفت انتباهه بالطبع العدد الكبير من المحامين الذين أثبتوا حضورهم معي، وطلب مني الجلوس على مقعد مقابل له. وبعد أن أعاد قراءة الاتهامات الثلاثة "مشاركة جماعة ارهابية في تحقيق أهدافها، ونشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي"، سألني "عندك مطلب تاني غير إخلاء السبيل؟". ولما رددت بالنفي طلب مني التوقيع على المحضر.
طلب المحامون أن يطلعوا على محضر الضبط والإحضار وتحقيقات النيابة وتفاصيل الاتهامات، فكان رد السيد وكيل النيابة أن يكتبوا طلباتهم للعرض على رئيس النيابة. وعندما سألني وكيل النيابة إذا كان لديَّ أي مطالب تتعلق بظروف المعيشة داخل السجن، طلبت منه أن يسمح لي بدخول حذاء. استغرب وكيل النيابة وسألني عن ما أرتديه في قدمي. قمت سريعًا بخلع الزنوبة من قدمي وعرضته أمام المحقق، وقلت "دا سيادتك"، فوعدني بالنظر في الأمر.
ثم كان الطلب الذي تكرر بعد ذلك في الجلسات العشر المقبلة التي عقدت على مدى 150 يوما، وهو أن يتم السماح للمحامين بالحديث معي لخمس دقائق بعد انتهاء التحقيق، ووافق السيد وكيل النيابة. أحيانًا كانت الموافقة أن تكون المحادثة في الممر خارج مكتبه، وأحيانًا كان يصمم أن يتم الحوار أمامه في المكتب.
طلبت من المحامين إبلاغ كل أنواع السلامات لوالدي، وأن يؤكدوا له أنني متماسك وبصحة جيدة، وإبلاغ أشقائي بضرورة دفع مصاريف مدرسة ابني، وكذلك التواصل مع كل الجهات الممكنة في نقابة الصحفيين ومؤسسة الأهرام والجامعة الأمريكية في القاهرة لكي يدفعوا نحو إطلاق سراحي. وتناقشت مع خالد علي في ما يمكن فعله بشأن سيارتي حيث أن مصادرتها من قبل قوة الضبط لم تكن مثبتة في محضر النيابة، ووعدني أن يبحث الأمر مع الزميل محمد سعد عبد الحفيظ عضو مجلس نقابة الصحفيين، وهو ليس مجرد عضو في مجلس النقابة، بل صديق شخصي ألتقيه تقريبًا كل يوم في المقهى الذي نرتاده في الزمالك. سعد نقابي بطبعه ويحب المهنة وخدمة الصحفيين من كل الاتجاهات بلا كلل، وكنت واثقا أنه سيفعل ما في وسعه لمساعدتي.
عرفت القرار من أمين الشرطة المسؤول عن الترحيلة بعد رجوعي السجن؛ كما هو متوقع تم تجديد حبسي لمدة 15 يومًا.
قبل كل جلسة تجديد كل 15 يومًا، كان يدور نقاش بيننا في الزنزانة ومع بقية السجناء السياسين حول ما سنقوله في تحقيق النيابة، البعض كان يتمسك بضرورة الإدلاء بأقوال مفصلة أمام النيابة وإثباتها في المحضر يدافع فيها سياسيا وقانونيا عن نفسه، بجانب ما سيقوله المحامين. أما المحامين فكانوا يحذروننا بصرامة بضرورة الحضور لأن الغياب عمدًا قد يعرضنا للاتهام بـ"إهانة القضاء" في وقت لا تنقصنا فيه اتهامات جديدة. وذات مرة قال لي أحد زملاء السجن أنه مصمم أن "يسجل للتاريخ" أقواله أمام النيابة. لم استطع منع نفسي من الضحك وأنا اتخيل جبالًا من ملفات آلاف السجناء في مقر النيابة مليئة بأقوالنا وكيف ستتعامل "فئران التاريخ" مع كل هذا الكم من الأوراق المكتوبة بخط اليد.
وكان هناك آخرون يتمنون عدم الحضور أمام النيابة لتجنب عذاب الترحيل والحبسخانة يوم التجديد، وتجنب قضاء ساعات الانتظار الطويلة في مناقشات عقيمة مع السجناء من جماعة الإخوان حول السنة التي قضوها في الحكم و30 يونيو* وخطأ الأحزاب المدنية في دعم 3 يوليو** من وجهة نظرهم. وكان الرد دائما تذكيرهم أن من قام بتعيين وزير الدفاع في سنة حكم الإخوان هو الرئيس الراحل محمد مرسي نفسه، وأنهم أول من ترك ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير للتفاوض سرًا مع عمر سليمان مدير المخابرات ونائب الرئيس آنذاك في عهد مبارك، إلى جانب تخليهم عن كل وعودهم بالسعي للعمل مع كل "القوى الوطنية" لتشكيل حكومة تعمل على تحقيق أهداف ثورة يناير وكتابة الدستور بشكل مشترك، بدلًا من إصدار إعلان دستوري في نوفمبر 2012 منح مرسي والإخوان سلطات لا يتمتع بها سوى الديكتاتور الأعظم رئيس كوريا الشمالية.
في البداية، كنت أهتم كثيرًا بتسجيل أقوالي أمام المحقق في جلسات التجديد والتشديد على المطالبة بمعرفة تفاصيل الاتهامات، وتحديد اسم الجماعة التي أنا متهم بمشاركتها في تحقيق أهدافها مع استعراض سجلي في معارضة جماعات الإسلام السياسي عموما ومحاولة الاغتيال التي تعرضت لها بعد الاطاحة بالرئيس الراحل مرسي.
وكنت أطالب باستعراض الأخبار الكاذبة التي نشرتها لكي أوضح بخبرتي الصحفية الممتدة 30 عامًا كيف أنني لم أقم أبدًا بنشر أخبار بل آراء تعليقًا على الأخبار في إطار القانون والدستور، وكذلك طالبت بتوضيح المقصود بـ"إساءة استخدام وسائل التواصل" حيث أنه لا يوجد دليل رسمي يوضح لنا الطرق الصحيحة لاستخدام تلك الوسائل.
ولكن مع الوصول للجلسة الخامسة بعد 75 يومًا في الحبس، كنت أنا من أبادر بالقول للسيد وكيل النيابة إنه لا يوجد لديَّ أي مطلب سوى إخلاء السبيل، مع الإشارة إلى كل ما قاله المحامون في الجلسات السابقة عن انتفاء أسباب الحبس الاحتياطي حيث أنه لا خشية من هروبي من البلاد ويمكن ببساطة منعي من السفر، كما أن الأدلة التي تم تقديمها ضدي لا يمكن العبث بها حيث أنها تتمثل في تعليقات ومقالات كتبتها على وسائل التواصل أو في الصحف ولم يعد من الممكن تغييرها، وأن هناك العديد من الجهات التي يمكن أن تضمن استمراري في حضور التحقيق مثل نقابة الصحفيين ومؤسسة الأهرام بدلًا من استمرار حبسي.
بلغ بي اليأس أنه في تلك الجلسة الخامسة عرضت على السيد وكيل النيابة أن يجدد لي حبسي تلقائيا كل 15 يوما دون حضوري طالما لم يصدر قرار بإخلاء سبيلي بسبب ما اتعرض له من إرهاق، ولكنه رفض طلبي وقال أنه غير قانوني.
بعدها أصبح المطلب الأكثر أهمية بالنسبة لي في جلسات التجديد هو أن اتحدث على انفراد مع المحامين لمعرفة ما يدور في الخارج في ظل شح المعلومات المتوفرة داخل السجن واستمرار منعي من قراءة الصحف. ولم تكن هناك من وسيلة للاطلاع على ما يجري في الخارج سوى ما أعرفه من أفراد أسرتي في الزيارات وما يقوله لي المحامين على عجالة في جلسات التجديد، وكذلك ما أسمعه من الزملاء المساجين في الحبسخانة، خاصة ممن يمتلكون هواتف خلسة في سجونهم بعكس وضعي في ليمان طرة حيث كان الحصول على هاتف في العنبر الذي أقيم فيه مستحيلًا.
كثير مما كنت أسمعه من أخبار متداولة بين سجناء جماعة الإخوان كان لا يمكن تصديقه ولا يقبله عقل. وإن كنت استمعت كذلك لكمٍّ هائل من القصص تشيب لها الولدان عن ما تعرض له بعض السجناء من مختلف التيارات السياسية فور إلقاء القبض عليهم. لا أستطيع ترديد ما سمعته هنا لكي لا أُتهم بنشر أخبار كاذبة لأنني لم أشهد تلك الأحداث بشكل مباشر. ولكن كل هذه القصص يعرفها المحامون جيدًا وسمعوها من موكليهم وأثبتوها في محاضر النيابة وعرضوها أمام القضاة. ويبقى القرار في يد النيابة والقضاء للتحقيق في تلك المزاعم.
اللافت بالنسبة لي كان الحرص البالغ على الالتزام بمواعيد جلسات التجديد وأن تكون كل الأوراق سليمة وقانونية، طبعا لكي لا يكون هناك منفذ للحديث عن "اعتقال" المعارضين والتمسك بأن الاتهامات التي نواجهها جنائية وليست سياسية.
وعندما تعذر نقلي مرتين مع زملاء آخرين لجلسات التجديد بسبب الطقس السيئ أو انشغال قوات الأمن في تأمين مباريات محلية أو إفريقية لكرة القدم، كان يأتي لنا وكيل النيابة في السجن وتتم جلسة التحقيق والتجديد سريعًا في مكتب السيد المأمور المتسع والمليء بمقاعد الفوتيه المريحة.
س: هل لديك أي مطلب آخر غير إخلاء السبيل؟
ج: لأ.
س: اتفضل امضي.
ج: حاضر.
ثم أقوم متكاسلًا من على الكرسي الفوتيه المريح ليستقبلني الشاويش في الخارج ويقوم بتضييق الكلابش على يدي ونعود سويا للزنزانة.
*30 يونيو 2013 احتجاجات شعبية حاشدة ضد الرئيس الراحل محمد مرسي في القاهرة وبقية المحافظات.
** 3 يوليو 2013 وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي يطيح بالرئيس الراحل مرسي بدعم من جبهة الإنقاذ المدنية وحزب النور السلفي والأزهر والكنيسة، ويعلن تعطيل العمل بالدستور.