من لحظات الفرح النادرة في بداية فترة الحبس صباح اليوم الذي فُتح فيه باب الزنزانة فجأة لأجد أمامي مخبرًا يماثل الصورة النمطية للمخبرين في ذهن غالبية المصريين: طويل، عريض بيدين ضخمتين للاستخدام في لحظات الضرب على القفا وهو يردد "رد على الظابط كويس يله". قال المخبر إن وقت ممارسة حقنا في التريض حان. حدث ذلك بعد 18 يومًا من الحبس المتواصل لمدة 24 ساعة في الزنزانة، على عكس ما تنص عليه لائحة السجن أن فترة "الإيراد" 11 يومًا فقط.
السجن يجعلك تقدر أمورًا كثيرة تمارسها في حياتك اليومية دون أن تنتبه لها وتعتبرها مسلمات، على رأسها بالطبع حريتك في الحركة والتنقل واتخاذ القرارات الخاصة بك. لا أعني هنا افتقاد الأمور المعيشية اليومية كالنوم المريح والطعام ولقاء الأصدقاء والسفر ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف، ولا حتى شرب القهوة في كوبك الزجاجي المفضل أو تناول الطعام على مائدة باستخدام الأدوات المعدنية من ملعقة وشوكة وسكينة، ولا رؤية وجهك في المرآة كل صباح أثناء حلاقة الذقن أو قبل مغادرة المنزل. بل أعني ما هو أبسط من ذلك: أن ترى السماء، الشمس، وفي الليل أن ترى القمر والنجوم وأن تستمتع بالهواء الطلق. موقع سريري على لوح الخشب الذي يشكل سقف الحمام جعلني قريبًا جدًا من سقف الزنزانة وزاد ذلك من شعوري بالاختناق. كنت أمزح مع رفاق الحبس قائلًا لم يسبق لي أن لمست السقف بيدي وأنا نائم ممدد.
ولكن حتى تمكيننا من ممارسة الحق في التريض وتحريك أقدامنا المتيبسة من عدم الحركة جاء بشروط؛ أولًا ستكون فترة التريض نصف ساعة فقط لا غير، وليس ساعتين كما هو حال السجناء الجنائيين في نفس العنبر، ولا حتى ساعة كما هو حال باقي الزملاء السياسيين. كما أننا سنخرج منفردين، أنا والدكاترة حسن نافعة وحازم حسني رفاق الزنزانة، وليس بصحبة سجناء سياسيين آخرين، ومن غير المسموح لنا التحدث مع أي سجين آخر عبر نوافذ الزنازين المطلة على ساحة التريض التي تماثل مساحتها ملعب كرة اليد تقريبًا. وإذا خالفنا تلك الأوامر ستتم إعادتنا للزنزانة مجددًا وحرماننا من التريض، وفقًا للسيد المخبر.
كنت شكوت لضابطي الأمن الوطني اللذين حضرا زيارة إخوتي قبل ثلاثة أيام حرماننا من التريض رغم انتهاء فترة الإيراد، وابتسم أحدهما حين قلت له "كدرتونا كفاية خلاص؟ ممكن تخرجونا تريض بقى؟". رد عليَّ بالكلمة التي اعتدت سماعها ردًا على كل طلباتي "هنراجع ونرد عليك". منطق السجن هو أن يتم منحك حقوقك كسجين بالتدريج البطيء لكي تشعر أن كل حق تحصل عليه هو بمثابة تنازل كبير منهم يستحق منك التقدير.
لم أتمالك نفسي من الفرح لأنني سأخرج من الزنزانة لأرى الشمس والسماء وأشم الهواء النقي بدل من الجو الخانق داخل الزنزانة. بدأت في القفز فرحا في الهواء، وأنا أصرخ "أخيرًا". فور وصولنا ساحة التريض، تبين أن المشي صعب باستخدام شبشب "الزنوبة" المتهالك الذي لم أملك سواه. خلعته وبدأت في الركض حافيًا كطفل صغير ويداي ممددتان كجناحي طائر يستعد للطيران رغم أنني في بداية العقد السادس من العمر، كما قال السيد وكيل النيابة. آه لو كان بإمكاني الطيران والخروج من ذلك المكان.
بعد شهور بدأ ينتابني شعور بالضيق عند خروجي للتريض. كنت أشعر أنني أشبه بحيوان في قفص يقوم بعمل دورات متتالية في مكان مغلق. ومع ذلك لم أتخلَّ يومًا عن الخروج للتريض، على عكس بعض الزملاء الذين كانت تصيبهم نوبات اكتئاب قصيرة أو طويلة يقررون خلالها البقاء طوعًا داخل الزنزانة الكئيبة الضيقة طوال اليوم، لأنهم لا يريدون رؤية أحد أو الحديث مع أحد.
أحيانًا، كان يتراجع اهتمامي بالمشي أو الركض لتحريك العضلات، ولكن أبدًا لم أتخلَّ عن لحظات الاستمتاع بدقائق طويلة أكتفي فيها بالنظر للسماء الزرقاء والسحب مرددًا "يا رب". كنت أشعر بالسعادة كما الأطفال عند رؤية طائرة في السماء، وبدأت مسابقة مع الزملاء في تحديد شركة الطيران التي تنتمي لها الطائرة: دي مصر للطيران، دي الفرنسية، إلخ. أما رؤية القمر والنجوم مساءً فهذا أمر لم اختبره سوى مرات قليلة عند العودة من جلسات التجديد في مقر نيابة أمن الدولة العليا بعد يوم طويل من العذاب.
بعد ذلك بشهور طويلة شكوت لزميل السجن حسام مؤنس أنني أفتقد القمر، نبهني حسام أنني لو نظرت من فتحة النضارة لسقف العنبر، سأجد مساحة بين القضبان يمكن من خلالها رؤية السماء وعدد قليل من النجوم. أما القمر فكان لا بد أن يكون بدرًا مكتملًا لكي نتمكن من رؤيته. وفي إحدى الليالي، ناداني حسام "إنزل بسرعة على النضارة" نزلت من سريري قفزًا، لأجده يطلب النظر إلى السماء. كان القمر متوهجًا وفي قمة روعته. تذكرت شادية وهي تشدو "آآآآه.. شفت القمر".
***
حان موعد تجديد الحبس الأول في مقر نيابة أمن الدولة العليا بالتجمع الخامس وهي تجربة أخرى شديدة الصعوبة والمهانة. رفضت إدارة السجن في الزيارة الوحيدة التي سمحت بها، دخول أية ملابس خارجية بيضاء لتكون بديلا لـ "السترة" الخشنة التي وفرها لنا السجن، والمكتوب على ظهرها "تحقيق". ومثلما منعت الملابس، منعت كذلك الأحذية وحتى الشباشب البلاستيك.
في الصباح الباكر جدًا، أتى شاويش للزنزانة وأمرنا بالاستعداد لحضور "جلسة". لم يكن هناك الكثير الذي يمكننا القيام به للاستعداد سوى الاستحمام سريعًا. بعد نحو ساعتين تم اقتيادنا مقيدين في طابور، اثنين في كل كلابش، لركوب عربة الترحيلات. وهكذا كنت في طريقي لحضور أول جلسة تجديد حبس أمام السيد وكيل النيابة بالسترة المكرمشة ولحية طويلة وشبشب زنوبة مهترئ.
ركبت عربة الترحيلات التي كانت ممتلئة حتى آخرها وكان لي فيها استقبال خاص بعد أن تعرف عليَّ السجناء من المتهمين في قضايا جماعة الإخوان المسلمين، ونلت نصيبي المتوقع من الشماتة المفرطة والاستهزاء. "شرفت يا بتاع جبهة الخراب. أنقذتونا يا بتوع جبهة الإنقاذ. بذمتك، مش مرسي كان أحسن. يعني الجورنال القومي اللي بتشتغل فيه منفعكش في حاجة".
قررت عدم الرد على هذه التعليقات وتجاهلها، خاصة أنني اعتدتها منذ 30 يونيو 2013. ثم خاطبت أحد المتقدمين في العمر من أصحاب الذقون "خلي الإخوة يقدروا إننا كلنا دلوقتي في السجن، وده كفاية للرد على كل اتهاماتهم". وأضفت أنني عارضت الإخوان وأعارض الرئيس السيسي لأن انتمائي في الأصل هو لثورة 25 يناير التي لم يتحقق أي من أهدافها حتى الآن، سواء بتوفير العيش أو الحرية أو العدالة الاجتماعية أو الكرامة الإنسانية .
تمنيت أن نصل سريعًا وتنتهي هذه الرحلة الثقيلة. ولكن أثناء المعركة الكلامية القائمة، توجه نحوي شاب صغير السن وفي يده ما يشبه الدبوس، وطالبني أن أمد يدي لكي يقوم بفك الكلابش مؤقتا حتى نصل لمقر النيابة. لم أصدق أن هذا القيد يمكن فكه بتلك السهولة، وبهذه القطعة الصغيرة جدا من الحديد. لكن خلال ثوان أصبحت يدي حرة.
وصلت العربة، وفتح بابها في مواجهة سلم نزلنا منه إلى جراج المبنى حيث تقع "حبسخانة" مقر نيابة أمن الدولة العليا، وما أدراك ما حبسخانة أمن الدولة العليا. كرهت يوم التجديد بأكمله فقط بسبب ساعات الانتظار الطويلة المرهقة في هذا المكان. انفتح باب حديدي ضخم على غرفة واسعة لا أثاث فيها مطلقًا من أي نوع، ممتلئة عن آخرها بعشرات السجناء فوقهم وبينهم سحب من دخان السجائر.
كان الطقس ما زال حارا رغم أننا كنا في بداية أكتوبر، وهو ما دفع الكثير من السجناء لخلع السترة والاكتفاء بالملابس الداخلية. الكثير من السجناء كانوا يمسكون في يدهم بسجادة صلاة، ليس فقط للصلاة، ولكن كذلك لفردها على الأرض والجلوس عليها أثناء ساعات الانتظار الطويلة جدا. لعنت حظي أني لم أكن امتلك سجادة صلاة.
هناك عدة شبابيك في الغرفة ولكن عدد السجناء كان كبيرًا جدًا، الكل كان يحاول التزاحم تحتها، خاصة أن السقف كان خاليًا تماما من أية مراوح هوائية. أما دورة المياه، فكانت غرفة صغيرة ضيقة لا تناسب هذا العدد الكبير من السجناء، أرضيتها مغمورة تمامًا بالمياه لأن ماسورة الحوض مكسورة، والحمام البلدي مسدود بالفضلات. عرفت أن هذه هي دورة المياه من الطابور الطويل أمامها. وهنا جاء الدرس الثاني بعد ضرورة إحضار سجادة صلاة للجلوس: لا تشرب المياه أو تتناول الطعام يوم العرض على النيابة لكي لا تضطر للتعامل مع دورة مياه الحبسخانة.
مع تزايد سحب الدخان وتصبب العرق على الأجساد، بدأ عدد من السجناء في "الترزيع" على الباب الحديد بصوت عالٍ جدًا لكي يقوم الشاويش بفتحه والسماح لبعض الهواء البارد بالدخول. كانت المنطقة خارج الحبسخانة مكيفة الهواء.
يبدأ توافد المساجين على حبسخانة أمن الدولة العليا من الصباح الباكر، ومن كل محافظات مصر، ولكن جلسات التحقيق لا تبدأ عمليا قبل الواحدة أو الثانية ظهرا وربما بعد ذلك، كما أنه لا يتم العودة للسجن إلا بعد الانتهاء من التحقيق مع كل المتهمين القادمين من مجموعة سجون طرة كلها، وهو ما يعني عمليا الانتظار لساعات طويلة جدًا جلوسًا على البلاط من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من المساء.
تجربة الحبسخانة تجعل من العودة للزنزانة حلمًا بعيدا المنال، ويكون السؤال الذي يردده الجميع "مش هيرجعونا السجن بقى؟". لا يتوقع أحد الحصول على إخلاء سبيل من مقر النيابة، فهو أمر شديد الندرة، وبالتالي يصبح كل ما نتطلع له هو العودة للزنزانة حيث سريرنا ودورة المياه الخاصة بنا وبعض الطعام والمياه النظيفة.