أجلسُ بالساعات أمام مباريات ومسابقات دورة الألعاب الأولمبية المقامة في طوكيو. أتنقل من كرة اليد إلى التايكوندو، ومن السباحة إلى تنس الطاولة، ومن ألعاب القوى إلى البي إم إكس (الأسلوب الحر في الدراجات)، ومن الجمباز إلى تسلق الجبال ( لعبة أخرى جديدة أضيفت لقائمة الألعاب الأولمبية التي تتسع كل دورة).
كم هي جميلة ومبهرة تلك الأجساد الممتلئة بالطاقة، تتحدى قوانين الطبيعة، وتبدو في لحظات كما لو كانت مادتها الساكنة تتحول إلى طاقة من نار. في ثانية، يتحول الجسد نفسه إلى رمز، إلى مجاز عن نبع الحياة الذي أتى منه، ويعود إليه؛ إلى استعارة عن الحياة نفسها، التي تمر في لحظة، وتمضي، كأنها لم توجد قط.
هنا صراع مشوق مثل أقوى أفلام الأكشن، وقصص إنسانية درامية مؤثرة، حيث تختلط صيحات ودموع الانتصار بآهات ودموع الهزيمة. عشرات الألعاب ومئات الرياضيين، لكل منهم حكاية، حلم صعب المنال، وساعات طويلة تبذل يوميًا في التعلم والتدريب، وترويض أليم لجسد يستعصي على الترويض، لكي يضرب مثل ثور ويقفز مثل غزال، لكي يصبح في رشاقة العصفور وثقل التمساح وسرعة النمر.
في الأولمبياد تدرك سر هوس الإنسان بالرياضة، وبأفلام البطولات الخارقة والأكشن والخيال العلمي. هنا تتزاوج أساطير عمرها آلاف السنين بأحدث ما وصلت إليه علوم الفيزياء والرياضة والتكنولوجيا، لتساعد هذا الجسد البشري الزائل والمسكين على اجتراح المعجزات والفوز بالخلود.
في الأولمبياد لا تستطيع أن تمنع نفسك من التفكير في معنى العظمة، وفي قدرة الجسد، الشيء الوحيد الذي منحته لنا الطبيعة بدرجات متقاربة.
هنا رياضات لطوال القامة، وقصارها، للفنيات النحيفات مثل عود البان، وللبدينات مثل الأفيال. لمن وهبوا قوة العضلات، ولمن وهبوا قوة الإبصار، لمن وهبوا قدرة المواجهة، ومن كانت موهبتهم الوحيدة هي الجري، رياضات وألعاب قديمة ومعروفة وأخرى جديدة وغريبة. حتى هوايات الشوارع مثل لوح التزلج وألعاب الإجازات مثل كرة الشاطئ. المهم أن يتحدى الجسد إمكانياته وأن يعثر على جماله الخاص.
جسد لا يمارس الرياضة هو جسد أخرس، عاجز وقبيح. في الرياضة تتحول أكثر الأجساد غرابة إلى عمل فني ناطق بالقوة والجمال.
السينما على الهواء
في الأولمبياد ستكف عن التفكير في الجسد باعتباره أداة للجنس، ودلالة على نوع الجنس. أجساد الفتيات هنا حرة، منطلقة، مشغولة بأشياء كثيرة ليس من بينها أن تكون وسيلة للغواية. ليس هناك لعبة واحدة حكر للرجال أو النساء، باستثناء الباليه الاستعراضي والمائي ربما. المرأة نصف الأولمبياد إن لم يكن أكثر، وهي تلعب كل الأدوار باستثناء الدور الذي أراده لها الرجل على مدار آلاف السنين: أن تكون أما وربة منزل فقط.
رقم قياسي عالمي للعداءة إيلين طومسون في أولمبياد طوكيو
في الأولمبياد يجب أن تفكر في السينما أيضًا، ولأسباب كثيرة.
هنا كل شئ يتعلق بالصورة. لم يعد من الممكن إدراك جمال وقوة الرياضة بدون الكاميرا. الصورة تسجل وتثبت تلك الثواني السريعة التي لا ترى بالعين المجردة، عبر مئات الكاميرات المبثوثة في كل الأركان، التقطيع بين اللقطات، واستخدام الحركة البطيئة، واللقطة المقربة جدًا التي ترصد أدق خلجة في عروق اللاعب وأدق قطرة عرق تنبت في جبينه، اللقطة الواحدة المصورة من عدة زوايا (أسلوب جديد مستعار من السينما كانت إرهاصته الأولى مع فيلم The Matrix)، وزوايا الكاميرا التي يصعب أن يراها المتفرج العادي ولا الحكام أنفسهم من مقاعدهم في الملاعب.
بشكل ما، استطاعت الكاميرا أن تفرض نفسها على الرياضة، كمعجب وموثق ثم كشاهد وشريك للجمهور والحكام، ثم كحكم فيصل في معظم الألعاب، ترى ما لا نراه وتحسم نتائج النقاط والمباريات. لا تكتفي الكاميرات بملاحقة اللاعبين في المضمار ولا الجمهور في المدرجات. تتسلل عبر الكواليس إلى غرف التدريب والملابس وتسترق السمع لتعليمات المدربين، وترصد ردود أفعال اللاعبين المنافسين. في النهاية نكون إزاء عرض درامي تم توليفه بطريقة فنية سينمائية يمكن أن نقول عنها "السينما على الهواء".
أساطير السوبرمان
بين الرياضة والدراما ( أو الشعر حيث لم يكن الإغريق يفصلون بين الاثنين) علاقة قرابة بعيدة، أدركها الإغريق حين قرروا منذ ثلاثة آلاف عام أن ينظموا للألعاب الرياضية مسابقة ومهرجانًا على غرار مهرجانات الدراما والشعر، تقام كل أربع سنوات على جبال الأولمب، موطن الآلهة وأنصاف الآلهة. وكان الأبطال الفائزون يتوجون بأكاليل الغار( رمز الخلود والمرأة أو الشجرة المقدسة)، ويصبحون مادة تنسج حولها الحكايات والأساطير، مثل الآلهة والشخصيات الخيالية، كما لو أن الشعر بإمكانه أن يثبت ويخلد لحظات الجمال والبطولة في قصيدة.
كانت أساطير السوبرمان تخلق من رحم حكايات أبطال الرياضة، وتخلق بطولات الرياضيين من رحم أساطير السوبرمان.
يعرف القراء أساطير أبطال الإلياذة والأوديسا وهيركليز ونساء الأمازون، ولكن ربما لا يعلم البعض أن أبطال الألعاب الأولمبية القدامى كانت تنسج حولهم القصص الأسطورية وقصائد المديح ويتم التغني ببطولاتهم.
وثائقي عن مولد الألعاب الأولمبية وأساطيرها.
بعض هذه القصص يرصدها كتاب بعنوان أساطير أولومبيا تأليف كلينتيس بالا بولوجوس، وترجمة محمد محمد فضالي، وهو كتاب نادر من إصدارات اللجنة الأولمبية المصرية في منتصف الثمانينيات، يحتاج إلى ترجمة وطبعة جديدة.
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب "كانت الألعاب الأولمبية منبعًا لتقديس الجمال والتعبير عن الإعجاب بالإنسان الأمثل (السوبرمان) (...) وكانت تغرس لدى الأفراد روح التفوق الشخصي والتميز المقرون بالرغبة في الفوز بما تغنى به الشعراء (...) ولم تكن مجرد أداء بدنيًا بسيطًا أو عرضًا للقوة العضلية، بل أفعاًلا تتطلب تجميع وتنسيق الروح والعقل والجسم لخلق الجمال."
بين الرياضة والشعر تكمن دراما البطولة والانجاز الفردي والقدرة على التسامي، وتحويل المادة إلى روح. ومن تزاوج الرياضة والدراما مجسدة في الألعاب الأولمبية التي بدأت لأول مرة عام 776 قبل الميلاد، ولد الفرد لأول مرة في التاريخ البشري، ككائن يمثل الجماعة، ويصبح مثلًا أعلى لها.
الرياضة تنقذ
بين الرياضة والسينما علاقة قرابة وثيقة أدركها رائد التصوير الفوتوغرافي المتحرك إدوارد مايبريدج في ثمانينات القرن التاسع عشر، حين راح يصور حركة الجياد والعدائين ويعرضها على ألواح تتحرك بسرعة، ولعلها الفكرة التي كانت تراود الفنان المصري القديم الذي رسم حركة الرياضيين في صور متعاقبة تبدو كما لو كانت شريطًا سينمائيًا.
كانت ليني ريفنشتال أول من أدرك العلاقة بين الرياضة والسينما مبكرًا في فيلمها أولمبيا Olympia الذي وثق دورة الألعاب الأولمبية في برلين 1936.
في جزأين يقترب زمن عرضهما معًا من ثلاث ساعات ونصف الساعة توثق ريفنشتال دورة الألعاب التاريخية التي تزامنت مع سيطرة الزعيم النازي أدولف هتلر الكاملة على حكم ألمانيا واستعداده لخوض الحرب ضد العالم.
كانت ليني ريفنشتال مخرجة هتلر المفضلة، وكانت مفتونة به كزعيم يجسد القوة والإرادة والكاريزما الساحرة. قبل فيلم أولمبيا صنعت ريفنشتال فيلمين عن هتلر والحزب النازي هما فوز اليقين Sieg des Glaubens وانتصار الإرادة Triumph des Willens، يعدان نموذجا مثاليًا للفيلم الدعائي. ورغم أن هتلر يظهر في عدة لقطات من الفيلم أثناء حضوره لدورة الألعاب في المدرجات وتشجيعه للاعبين، إلا أن بؤرة تركيز ريفنشتال ينتقل هذه المرة إلى الرياضيين أنفسهم، كتجسيد للقوة والجمال المطلقين.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خضعت ريفنشتال للمحاكمة بتهمة الترويج للنازية ولكن تم تبرئتها لسببين: الأول أن افتتانها بهتلر كان قبل دخوله الحرب والمذابح التي ارتكبها، والثاني هو فيلم أولمبيا الذي يتجاوز الدعاية لحزب أو بلد أو عرق بعينه للتغني بالإنسان السوبر بشكل عام متجسدًا في الرياضيين.
في سياق الجدل المثار بين أنصار "الواقعية" ومنتقديها خلال خمسينيات القرن الماضي رأى الناقد الفرنسي أندريه بازان في كتابه ما هي السينما أن "واقعية الفيلم يجب أن تكون تعبيرًا عن الروح الأسطورية وليست العلمية، وأن وظيفة السينما ليست إعادة أنتاج الواقع المادي ولكن تخليصنا من مصيرنا المادي، ويتجسد هذا الهدف السحري في تعبير "أسطورة السينما الكاملة".
لم يفهم أحد هذه العلاقة بين السينما والأسطورة مثلما فهمتها وعبرت عنها ليني ريفنشتال. سواء في فيلميها عن هتلر، وبشكل أكبر في أولمبيا رأت ريفنشتال في السينما فنًا قادرًا على التعبير عن المطلق: القوة والجمال المطلقين. في فوز اليقين وانتصار الإرادة كان هتلر والحزب النازي يجسدان أفكار نيتشة عن السوبرمان، وتعبير فاجنر الموسيقي عن انتصار الأسطورة، وتفوق الجنس الآري. في أولمبيا عادت ريفنشتال إلى اليونان لترصد بداية الألعاب الأولمبية ومنشأ أساطير الآلهة أنصاف البشر والبشر أنصاف الآلهة والجسد البشري كتعبير مادي عن جمال الروح والمطلق.
استخدمت ريفنشتال كل موهبتها الاستثنائية والإمكانيات الإنتاجية الهائلة التي وفرها لها هتلر لتصنع شيئًا غير مسبوق في فن السينما، مستعينة بأرقى ما وصلت إليه نظريات التصوير الأمريكي والمونتاج السوفيتي والتعبيرية الألمانية لكي تصنع مشاهدًا لا تنسى من ساحات ألعاب القوى وحمامات السباحة والغابات المحيطة وشوارع برلين، بالإضافة إلى جبال الأولمب وساحة الألعاب الأولمبية (الكولسيوم) في أثينا. لكن الأكثر من ذلك هو الطريقة التي حولت بها أجساد اللاعبين إلى لوحات فنية لا تقل جمالًا وتعبيرًا عن التماثيل اليونانية والرومانية التي نشاهدها في بداية الفيلم.
من أولمبيا تعلم صناع الأفلام كيف يصورون الجسد الرياضي، وكيف يسبغون عليه هالات المجد وظلال التعب وعنفوان التجلي. ما نراه في أولمبياد طوكيو اليوم ما هو إلا امتداد لدرس السينما التي منحته لنا ريفنشتال.
.. وتهزم روزفلت
أثارت أولمبياد برلين 1936 جدلًا سياسيًا كبيرًا.كان هتلر لا يزال يعقد التحالفات ورغم بوادر الخطر النازي التي بدأت في الداخل لكن أكثر الناس حذرًا من هتلر لم يكن يخطر بباله السيناريو الدموي الذي سيدخل فيه العالم خلال شهور معدودة.
من أشهر الأساطير التي أحاطت بأولمبياد برلين موقف هتلر من العداء الأمريكي الإفريقي جيسي أوينز الذي فاز بأربع ميداليات ذهبية في اليوم الأول للأولمبياد. يقال إن هتلر شعر بالغضب وقال "على الولايات المتحدة أن تخجل من إرسالها لعداء زنجي ليمثلها"، وأنه رفض أن يصافح أوينز ويهنئه كما فعل مع بعض اللاعبين البيض.
الرواية مشكوك في صحتها لأن هتلر اكتفى بتهنئة عدد محدود من الفائزين الأولين قبل أن يغادر الاستاد ولم يلتقي بأحد من الفائزين بعدها، ولأن أوينز نفسه نفى أن هتلر تعمد إهانته. في الحقيقة كان الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت هو الذي رفض استقبال أوينز في البيت الأبيض بعد انتهاء الأولمبياد بالرغم من أنه استقبل الفائزين البيض، وذلك خشية من خسارة شعبيته في الجنوب العنصري. لم يحصل أوينز على التهنئة الرسمية الواجبة إلا بعد وفاته بسنوات طويلة عندما قام الرئيس الأمريكي الإفريقي باراك أوباما باستقبال أحفاد أوينز في البيت الأبيض مقدما لهم التهنئة ومعتذرًا عن عقود العنصرية والتجاهل.
فيلم أولمبيا الجزء الأول
لم تكن ريفنشتال عنصرية، بل كانت تقدس القوة والجمال مهما كان لونهما. في الجزء الأول من الفيلم مشاهد كثيرة وطويلة لأوينز أثناء دخوله السباقات، وقبلها وبعدها. البعض قال إن هذا الجزء مخصص للتغني الشاعري ببطولات أوينز. في الحقيقة أيضًا قضت ريفنشتال سنوات طويلة من عمرها المديد (توفت وعمرها مائة وواحد سنة في 2003) في النوبة تصور حضارة وجمال العرق الأسود.
تعلمنا الرياضة أن نكف عن العنصرية والتنمر. لا أهمية هنا للون أو شكل الجسد، بل العبرة بما يستطيع إنجازه من مهام تكاد تكون مستحيلة على الشخص العادي.
تعلمنا الرياضة أن كل شئ ممكن: الصينيون أبطال في كرة السلة، واليابانيون أبطال في ركوب الخيل، والإفريقية بطلة أمريكا والعالم في الجمباز، وقطر أكثر بلد عربي يحصل على ميداليات ذهبية.
المهم أن ينتصر الجسد ويصعد سلم الخلود.