في يوم الثلاثين من مايو/آيار وجد أحمد سامي نفسه في مواجهة ورقة معلقة على باب أحد المكاتب تخبر العمال بعدم الحضور في اليوم التالي، لأن شركة الحديد والصلب ستغلق أبوابها للأبد.
لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد كانت أخبار التصفية تتردد قبل أيام، ومدير القطاع أخبر سامي أن يلملم أشياءه قبل إعلان القرار بشكل رسمي. وبالرغم من كل هذا التمهيد بمجرد عودته إلى المنزل لم يتمالك نفسه "بكيت أنا وأمي وزوجتي وأبنائي الثلاثة كما بكينا يوم وفاة والدي".
سيحصل سامي، مثل 6500 عامل في الشركة، على تعويض بحد أدنى 225 ألف جنيه، لكنه يشعر بقلق بالغ من المستقبل "تمنينا ودعونا كثيرًا أن يتم التراجع عن القرار ليس فقط لأنها صرح كبير لكن لأنها بيتنا" يقول للمنصة متأثرًا.
على مدار عقود، مثّلت شركة الحديد والصلب نموذجًا للمشروعات الكبرى التي ساهمت في تعميق الصناعة وتمدين الريف المصري، وتعهدت الدولة من خلالها بتوفير الوظائف المستقرة وامتيازات الحماية الاجتماعية.
لذا يشعر سامي، وآخرون ممن تحدثنا معهم، أن المكافأة لن تعوضهم عن الاستقرار المفقود بعد انهيار المصنع.
وبينما تتباين أفكارهم بشأن طريقة استثمار المكافأة؛ فإن البدائل المتاحة في عالم القطاع الخاص على الأرجح ستكون بعيدة عن مجال الصناعة، وهذا هو حال سامي وعشرات من زملائه.
عمالة فائضة
لم يخرج سامي من الحديد والصلب بخبرة فنية في مجال الصناعة، بسبب توظيفه في قطاع العلاقات العامة بالشركة على مدار عمله لأحد عشر عامًا، ولأن سنه يتجاوز الأربعين، يشعر أن فرصه محدودة في تعلم خبرات جديدة تساعده على الانتقال إلى مهنة أخرى.
يمثل سامي نموذجًا للعديد من الحالات المماثلة للعاملين بالقطاع الإداري في شركة الحديد والصلب، ممن يفتقدون للخبرات الفنية التي تؤهلهم للعمل في قطاع الصناعة غير الحكومي.
وتمتد مشكلة نقص المهارات الفنية أيضًا إلى عاملين أقرب للنشاط الصناعي بالشركة، كما يقول عماد متعب، الذي كان يعمل مراقبًا للجودة "العمل كان روتينيا مع توقف التطوير في الشركة وتحول التدريب إلى نمط صوري على الورق. لهذا أخذت إجازة بدون مرتب لمدة عامين في أوائل 2020 لأتمكّن من كسر الملل مع عدم جدوى العمل في الشركة، لكن جائحة كورونا لم تمكّني من تحقيق تقدم كبير في وظيفة بديلة".
خلال العقود الأخيرة عانت شركة الحديد والصلب من ضعف الاستثمارات، وهو ما ساعد على نمو قطاعات من العمالة في وظائف قليلة المهارة أو الإنتاجية، وعلى إثر ذلك جمّدت الدولة التعيينات بالشركة منذ التسعينات، وفي 2010 سمحت بتعيينات جديدة بالرغم من أن أحوال الشركة كانت مستمرة في التردي، وكان سامي ومتعب ضمن ذلك الجيل الجديد من المعينيين.
وبحسب نتائج أعمال السنة الأخيرة قبل التصفية (2019-2020) بلغت قيمة الأجور في الشركة 827 مليون جنيه، وهو ما يمثل نحو 76% من إيرادات النشاط الجاري.
أنا والونش
مثل سامي ومتعب ينتمي أحمد محمد إلى الجيل نفسه من العمالة، لكنه على عكسهما خرج من الحديد والصلب بخبرة صناعية حقيقية، غير أن هذه الخبرة لم تجب علي سؤاله المؤرّق "ماذا سأفعل بخبرتي بعد إغلاق الشركة؟". يقول للمنصة"في شهر يونيو من عام 2010 أصبحت عاملًا في الحديد والصلب بشكل رسمي، وبدأت سنوات العز وعلاقتي مع الونش".
يتسم العاملون في الحديد والصلب بمهارة خاصة في التعامل مع الماكينات القديمة المتهالكة وإبداع حلول لتشغيلها بكفاءة "الونش بتاعي كان ونش عملاق من شركة داماك الألمانية من سنة 1958 وهي شركة كبيرة صممت معدات تم استخدامها في الحرب العالمية الأولى، كنت أتعامل معه بسهولة كبيرة بعدما اعتدت على طريقة سيره. المكن بتاعنا قديم لكننا بنشغله".
بالرغم من هذه الخبرات فإن محاولاته المبدئية للبحث عن عمل بديل باءت بالفشل "منذ 3 أشهر أبحث عن فرصة عمل في شركات الحديد والصلب بالقطاع الخاص، للأسف لم أجد أي فرصة، حدثني أصدقاء أن الأمر يحتاج واسطة وأن الشركات لا توفر وظائف كثيرة حاليا نتيجة ركود السوق" يقول أحمد محمد للمنصة.
تقدم البيانات الرسمية تفسيرًا لما يقوله محمد عن صعوبة الحصول على فرص عمل في القطاع الخاص الصناعي، حيث يُظهر مسح سوق العمل الذي يصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن دور التصنيع في توفير الوظائف كان يتراجع في الفترة الأخيرة أمام قطاع الإنشاءات.
وساهمت العديد من العوامل في تراجع الدور الصناعي، منها ارتفاع أسعار الفائدة لفترة طويلة منذ تعويم 2016 وهو ما زاد من تكاليف إقراض المشروعات، بجانب ضعف الجنيه أمام الدولار الذي ساهم في زيادة تكاليف معدات الإنتاج المستوردة.
وحتى وإن وجد محمد فرصة عمل في القطاع الصناعي الخاص، فهو يدرك أن شركات السوق الحر لن توفر له نفس الامتيازات الاجتماعية التي كان يتمتع بها في القطاع العام "تمتعت بامتيازات لا تتوافر كلها لزملائي في القطاع الخاص مثل الراتب المنتظم والحوافز والمكافآت والأرباح السنوية وتوافر عيادة للعاملين والتأمين الصحي.. ولا أعتقد أني سأجد فرصة عمل جيدة هنا في حلوان".
وبحسب ما قاله العاملون بالشركة ممن التقينا بهم، من دفعة تعيينات 2010، فإن إجمالي دخل العامل الشهري بكل الامتيازات الملحقة كان في حدود 9 آلاف جنيه شهريًا، هذا بجانب الأرباح السنوية التي يتم صرفها للعاملين حتى وإن كانت الشركة تحقق خسائر صافية.
الستينات وما حدث فيها
رضا سالم، فني خراطة، من الجيل الذي تم تعيينه خلال الثمانينات بسبب عمل والده في الشركة بعد إنشائها في العهد الناصري، وعندما أعلنت تصفية الشركة كان قضى فيها نحو 38 عامًا، هذا التاريخ الطويل يجعله يرى لشركة الحديد والصلب تأثيرًا عميقًا في مجتمع التبين وحلوان، ويتوقع تأثيرًا أكبر مع إغلاق الشركة للأبد.
"الحديد والصلب كانت طوق النجاة لأسرتي، لولا أن التحق أبي بالعمل بها سنة 1961 كان سيستمر في العمل في وظيفته الأصلية كصبي مراكبي".
الشركة التي تأسست عام 1954 تم بنائها على أرض زراعية في التبين، كما تروي الباحثة دينا مكرم عبيد، في رسالة الدكتوراة التي أعدتها عن شركة الحديد والصلب، وتشرح كيف اجتذبت صناعة الحديد فئات مختلفة من ثقافة الحياة الريفية إلى نمط الحياة الصناعي، حيث الوظائف المستقرة وطابع الحياة المديني.
كانت الشركة نموذجًا مشابهًا لمشروعات صناعية تهدف لتغيير المجتمع بشكل ثوري، في عالم الحرب الباردة في الاتحاد السوفيتي والهند وإندونيسيا.
"تشبه الحديد والصلب العديد من الكيانات البارزة في صناعة الصلب (...) التي تجسد المثالية القومية للتمدين والاعتماد على الذات في ذلك الوقت. المساحة التي تستحوذ عليها هائلة. حيث تم البناء على 4 آلاف فدان من الأراضي بالإضافة إلى مدينة سكنية في محيط الشركة يطلق عليها "مدينة الصلب" لتسكين نحو 3 آلاف أسرة من عمال الحديد والصلب"، كما تذكر عبيد في رسالتها لنيل درجة الدكتوراة المنشورة على موقع جامعة لندن سكول أوف إيكونومكس.
هذا النمط من التخطيط الصناعي منح فرصة لمئات من الأسر الريفية لكي تحصل على وظائف مستقرة ومرتفعة المهارة، ثم إلى نقل الوظائف للجيل الثاني من هذه الأسر.
" تم تعيين أبي براتب 3 جنيهات وعلاوة ربع جنيه، كنا نفتخر بأننا أبناء الحديد والصلب، بعد عشرين عامًا التحقت بالشركة مع أبي وكانت الرواتب جيدة جدًا بالمقارنة بمستوى باقي الوظائف في حلوان" يقول سالم للمنصة.
عن هذه المزايا التي يذكرها سالم، تقول رسالة الدكتوراة للباحثة دينا مكرم عبيد "كانت الشركة تضمن للعاملين زيادات سنوية وتوفر صندوقا للمعاشات وتمثيلًا نقابيًا ومساكن مدعمة وخدمات صحية مجانية ووسائل نقل من وإلى الشركة، ونادي رياضي وترفيهي، وإجازات صيفية مدعمة، وقروض بدون فوائد وقت الاحتياج وتعاونيات تبيع المنتجات الاستهلاكية على أقساط وبدلات غذاء شهرية".
لكن بمرور الوقت كانت العديد من تلك الخدمات في طريقها إلى التراجع، في ظل ضعف استثمار الدولة في الشركة الذي أدى لتراكم مشاكلها المالية وأوصلها لمرحلة الإغلاق.
آثار جانبية: المصنع لم يكن للعمال فقط
يرى رضا سالم، أن الإعلان الأخير عن توقف الشركة بشكل تام سيكون له تأثيرات تتجاوز عمال الحديد والصلب، وستمتد إلى مجتمع التبين والمجتمعات المحيطة به.
"كان متوسط الأجور في الحديد والصلب مرتفع نسبيًا، وهذه المرتبات كانت تصرف في السوق المحيطة، انعدام هذه الدخول سيؤثر كثيرا على هذه السوق"، كما يقول سالم.
خاصة وأن الحديد والصلب لم تكن الشركة الحكومية الوحيدة التي تعرضت للتصفية في حلوان "التبين لم تستوعب بعد العمالة التي خرجت من تصفية القومية للأسمنت ليضاف لها عاطلين جدد. بعد تصفية الحديد والصلب منطقة التبين ستموت، خاصة إذا طال هذا الوضع شركة فحم الكوك"، يقول سالم.
شركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات هي شركة شقيقة للحديد والصلب المصرية، وتجاورها، تأسست عام 1960 وبدأت إنتاجها عام 1964، وفقا للموقع الرسمي للشركة. وتعد شركة الكوك، واحدة من شركات الصناعات المعدنية الحكومية القليلة الباقية في منطقة التبين، إضافة إلى شركة النصر للمطروقات، بعد تصفية القومية للأسمنت والحديد والصلب.
الآثار ستمتد إلى الإسكان، فمدينة الصلب لا تزال باقية ولكن الدولة توقفت منذ عقود عن التوسع في بناء المساكن للعمال، والعديد من العاملين باعوا الشقق لآخرين من خارج الشركة، وتحولت نسبة من العاملين في الشركة للسكن بالإيجار في مناطق قريبة، مثل عماد متعب الذي يسكن بالإيجار في حلوان البلد وهي منطقة أقرب للطابع العمراني للعشوائيات.
مدينة الصلب كانت تموت بالتدريج من قبل التصفية بسنوات طويلة، وإن كانت هناك بعض الخدمات ظلت مستمرة حتى آخر لحظة وليس معروف مصيرها المستقبلي في الوقت الراهن. من هذه الخدمات عيادة الحديد والصلب، والمصايف المدعومة التي استمرت الشركة تمنحها بنظام القرعة، والنادي الذي لا يزال يقدم خدماته برسوم رمزية.
خطط ما بعد التصفية
يمتلك سالم صنعة تؤهله للبحث عن عمل في سوق القطاع الخاص، فهو فني خراطة، ولكن على الأرجح لن يبحث عن عمل جديد بعد الحديد والصلب وهو على مشارف الستين.
سالم لا يعرف مصيره، هل ستقوم الشركة بمنحه معاش تقاعد أم سيحصل على مكافأة مرتفعة القيمة، في حدود 450 ألف جنيه بسبب سنوات عمله الطويلة. لكن في كلتا الحالتين فإن جيل سالم من العاملين بالشركة لن يواجهوا ضغوطًا قوية بعد التصفية مثل جيل 2010، الذين يقول عنهم سالم "حزنت عليهم أكثر مما حزنت على نفسي".
أمام سامي ومتعب سنوات طويلة حتى يصلا إلى سن التقاعد، وفي حالة عجزهما عن الحصول على فرص لاستكمال سنوات التأمين الاجتماعي سيتم حرمانهما من معاشات التقاعد، ولن يكون أمامهما فرصة لتحقيق الدخل إلا عن طريق استثمار مكافأة نهاية الخدمة في مشروع دائم الربح، وهو الحل الذي يسيطر على أذهانهما في الوقت الراهن.
يفكر سامي في استخدام جزء من التعويضات المتوقعة له في شراء سيارة يعمل عليها بعد ترك وظيفته "لدي رخصة قيادة درجة أولى أجددها على مدى السنوات فكرت في شراء سيارة 7 راكب لأعمل عليها، تفضل العائلات هنا أن تتنقل بسيارة خاصة تستوعب العائلة بالمشوار مقابل 200 أو 300 جنيه وبالاتفاق المسبق".
أما متعب فيفكر في توجيه المكافأة إلى وعاء ادخاري أو عقار، لتكون تأمينًا مستقبليًا لأولاده الثلاثة "سأدخر هذه الأموال وإن كانت تكفي بالكاد لشراء غرفة وصالة، فأسعار العقارات في حلوان مرتفعة جدًا، أقل شقة غرفتين فقط يبلغ سعرها نحو 350 ألف جنيه".
ربما تجدي تلك الحلول في توفير دخل بديل، لكن العاملين في الحديد والصلب يشعرون بقلق بالغ وهم يتحولون إلى مستثمرين صغار يواجهون مخاطر السوق، خاصة وأن بعض ممن سبقهم لهذا المسار واجه تجارب مأساوية.
تقول عبيد في رسالتها إنه في أول عام من تطبيق نظام المعاش المبكر بالحديد والصلب سنة 2001 أحيل 3200 عامل للتقاعد، وبعد ذلك انخفض العدد إلى 890 عاملًا خلال ثماني سنوات، وذلك لأن العاملين رأوا كيف واجه زملائهم السابقين هذا المصير الصعب لإيجاد فرصة للحياة خارج الحديد والصلب.
وتقدم الشركة القومية للأسمنت نموذجًا قريبًا لنمط حياة العمال بعد التصفية، فهؤلاء العمال هم جيران ويلتقون في نهاية اليوم في المقهى أو الجامع أو في زيارات منزلية. العامل السابق سيد علي البالغ من العمر نحو 47 عامًا حصل على تعويض 500 ألف جنيه، لكنه لم يتمكن من العمل بعد مغادرة الشركة بسبب ظروفه الصحية، ويشعر الآن بقلق بالغ وهو يستنزف المكافأة في الوقت الراهن للإنفاق على عائلته المكونة من أربعة أبناء، حيث تبلغ نفقات الأسرة الشهرية نحو 10 آلاف جنيه.