كان يدهشني دائمًا أن أجد نفسي أتحدث عن السنوات الخمس التي عشتها في السعودية بشكل معاكس لتوقعات من يستمع لي، أو للصورة النمطية عن ذلك البلد الغريب. أقول دائمًا إن خبرتي في الحياة في السعودية، في الفترة من 1993 إلى 1998، هي نتاج تجربة شخصية استثنائية، أسعدني فيها الحظ بمصادقة أشخاص سعوديين استثنائيين، جعلوا لحياتي هناك طعمًا مختلفًا، وجعلوني أتذكر الجوانب الإيجابية، فقط، في تجربتي، مستبعدًا الكثير مما رأيت من سلبيات.
ستقابل الكثير مما يزعج في السعودية، لكنك تعرف أن هذه الأمور المزعجة تشبه الآثار الجانبية للأدوية، ما لم تتحول هذه الآثار الجانبية إلى أمراض تحتاج بدورها إلى علاج. كنت أعرف هذه المعادلة، فوضعت الخطوط الحمراء التي لن أسمح لأحد بأن يتخطاها في تعامله معي. وعندما وصلت هناك، سألت "ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي في هذا البلد؟" فجاءتني الإجابة "أن يتم ترحيلك"، ولم أعتبر ذلك سيئًا تمامًا، لكنني، مع الوقت، اكتشفت أن الأسوأ الذي يمكن أن يحدث قد لا يخطر على بال أحد، وإذا خطر على البال، فإنه سيظل ضمن إطار المسكوت عنه دائمًا. سأكتشف، لاحقًا، أن الترحيل هو أفضل ما يمكن أن يحدث، إذا ما قورن بالسجن أو القتل أو الاختفاء القسري إلى الأبد.
أدرك الآن أنني عشت خائفًا طوال السنوات الخمس التي قضيتها في السعودية، لكن هذا الخوف كان مختبئا تحت طبقات من "السلام الاجتماعي" الذي توفره لي دائرة الأصدقاء السعوديين. وعندما أحاول أن أتتبع خيط الخوف الذي كان يلتف على روحي، بدون أن أشعر، طوال إقامتي هناك، سأكتشف أنه يعود إلى الصباح الأول الذي عشته في ذلك البلد. وُلد خوفي مع وجودي هناك، ونما في خط مواز لحياتي التي بدت، على سطحها، سعيدة وهادئة.
جماعة في الخوف
تنقسم الحياة في السعودية إلى حياتين: حياة في الشارع وأخرى في البيت، حياة في الظاهر وأخرى في الباطن، حياة للقول وأخرى للفعل، حياة للسعوديين وأخرى للأجانب، حياة لك وأخرى للحكومة. وأكثر ما يلخص تلك الحياة ما سمعته من رئيس تحرير المجلة التي كنت أعمل فيها عندما قال ممازحًا أحد الزملاء السعوديين بعد عودته من إجازة بلحيةٍ صغيرة "هذه ذقنك أم ذقن الحكومة"؟ سيكون عليك إذا عشت في السعودية أن توازن بين الحياتين، وأن تحذر دائمًا من السقوط في الفجوة غير المرئية بينهما، بكل ما يعنيه المشي على الحبل من خوف. والناس على أرض السعودية سواسية في الخوف كأسنان المشط، لا فرق بين سعودي وأجنبي إلا في الخبرة بالتعامل مع الأنواع المختلفة من الخوف، والقدرة على تحسس مواطئ الأقدام في حقل ألغام بحجم قارة صغيرة.
ليس للخوف منطق يحكمه، وقد لا تكون له مبررات ظاهرة أحيانًا، وهو، في أحيان أخرى، يملأ جزءًا لا تعرفه من تكوينك النفسي. وربما ينبع الخوف في أرواحنا من منطقة عدم المعرفة بالأشياء أو بطبائعها، من غربتها أو غرابتها، أو من عدم فهمنا للسياق الاجتماعي أو الثقافي الذي نعيش فيه. كانت صورة السعودية بالنسبة لي صورة نمطية لدولة قمع عربية متشددة دينيًا وسياسيًا، لكنك تكتشف أن هذه الصورة النمطية، كحال أغلب الصور النمطية، أكثر تبسيطًا وسذاجة من الواقع.
في صباحي الأول، استيقظت في الشقة الفندقية التي أخذوني من المطار إليها، في وسط مدينة الدمام، شرقي السعودية. كانت هذه هي المرة الأولى التي أخرج فيها من مصر، محاصرًا بأفكار مسبقة عن السعودية، وبمخاوف غامضة من المستقبل، وقلق من قدرتي على التأقلم مع مجتمع غريب. كان القلق، لا الخوف، هو الذي يصاحبني في رحلتي من مطار القاهرة إلى ذلك الصباح الجديد. بقيت طويلًا في سريري، إلى أن قررت الخروج إلى البلكونة لاستطلاع المشهد. كان الشارع خليطًا من أجناس مختلفة، والأصوات الآتية إلى مسمعي في الطابق الثالث، خليطًا من لغات غريبة، إضافة إلى لغة عربية مكسرة تمامًا، هي محاولة للتواصل بين هذه الأجناس أنتجت لغة جديدة تمامًا، لا هي عربية، ولا هي غير ذلك. زحام ونداءات بائعين لا أتبين منها شيئًا، وسيارات كثيرة حديثة تنتظرها أفواج المشاة عند أماكن العبور في الإشارات الضوئية، حتى تتحرك في موجات بشرية ملتحمة لا يميزها شيء.
تلاشت هذه الموجات البشرية فجأة، عندما مرت سيارة، كأنها سيارة شرطة، تنادي في ميكروفون، بصوت خشن مخيف حازم "الصلااااة، الصلاة، الصلاة". في تلك اللحظة، شعرت بالخوف للمرة الأولى، فوجدتني أختبئ بشكل لا إرادي في سور البلكونة، وأراقب المشهد من فتحاته الصغيرة. استمر النداء المخيف حتى بعد أن علت الميكروفونات بأذان الظهر، ثم بإقامة الصلاة، فتساءلت في نفسي "متى يصلي هؤلاء الذين ينادون للصلاة في تلك السيارة المخيفة"؟ كانت هذه سيارة الشرطة الدينية المعروفة باسم "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهي الهيئة التي يكفي اسمها، أو شكل أحد أعضائها، لإصابتك بالرعب. لا يمشي أعضاء الهيئة فرادى، فهم شخصان أو ثلاثة، يتبعهم رجل شرطة بخطوة أو خطوتين، لتنفيذ أوامرهم إذا استدعى الأمر. ولن تحتاج إلى خبرة طويلة للتعرف على أعضاء الهيئة، فهم ملتحون تلك اللحى الطويلة غير المهذبة، يرتدون جلاليب قصيرة، لا يبتسمون أبدًا، ويمسكون عصيان رفيعة تلسع من يرون أنه يستحق اللسع بها، بغض النظر عن المخالفة التي يرتكبها، بوعي أو بغير وعي. وهم ينتشرون في الشوارع المزدحمة، وفي المولات التجارية، لمراقبة سلوك الناس، وعقاب من يرون أنه يستحق العقاب من الرجال أو النساء، لا فرق.
تحولت أوقات الصلاة من أوقات طمأنينة إلى أوقات خوف؛ ليس خوفًا من الله، ولكن من هؤلاء الذين يعتقدون أن من حقهم عقابك في الدنيا نيابة عنه، ومن هؤلاء الذين يمكن أن يشوا بك إلى ممثلي السلطة السياسية الذين يؤدون دور السلطة الدينية. تراقبك العيون في كل مكان بحثًا عما يعتبره أصحابها خللًا في علاقتك بالله، أو ما يتصورون أنه تقصير في واجباتك تجاه دينك. تنتقل الوصاية هنا من موظفي هيئة الأمر بالمعروف إلى زملائك في السكن والعمل، الذين يعتقدون أن من واجبهم "تحسين علاقتك بالله"، ليس بهدف هدايتك ولكن بهدف حصاد المزيد من الحسنات عند المخلصين منهم، أو بهدف إظهار الولاء والطاعة لتلك السلطة الدينية، والحصول بذلك على ما يمكن وصفه بأنه شهادة صلاحية للبقاء في العمل، أو للبقاء في "الجنة الاقتصادية السعودية". سيكون عليك أن تصلي، نفاقًا لا حبًا، ورياءً لا تقوى، وخوفًا لا اختيارًا.
الخوف مثل القتل عادة
في أيامي الأولى، بعد أن انتقلت إلى سكن جماعي مع زملاء العمل، ذهبت متأخرًا إلى صلاة الجمعة، وفوجئت بعد انتهائها بمئات البشر يتحلقون حول شيء ما في دائرة كبيرة خارج المسجد. كان المشهد مثيرًا للفضول، لكن خيالي لا يمكن أن يصل إلى السبب. سألت أحد الواقفين، فأجابني "يقصّون شخص". لم أتخيل في أسوأ كوابيسي أن مئات البشر يمكن أن يتزاحموا، بهذا الشكل، للفرجة على قطع رقبة إنسان. لم أستوعب، وكنت على وشك أن أفقد وعيي لمجرد تخيل المشهد، فوجدتني أجري بكل ما أملك من قوة وطاقة وسرعة في اتجاه السكن. وهناك، أغلقت غرفتي على نفسي بالمفتاح، واختبأت تحت الغطاء، وبكيت، خوفًا لا حزنًا. وظني أن هذا المشهد الذي لم أشاهده، كان أكثر المشاهد رعبًا بالنسبة لي طوال فترة إقامتي في السعودية.
مع الوقت، تعتاد الخوف، ويصبح الشعور به جزءًا من تكوينك النفسي، وتتطور مهاراتك في التعامل مع مسبباته وتفادي مواضعه. ولكن الخوف يصبح له طعم آخر عندما تعمل صحفيًا في السعودية، وتتشكل له مسارات أخرى، بخلاف الخوف الظاهري الذي قد تواجهه في معاملاتك الاجتماعية. يؤدي اختلاط الديني بالسياسي إلى محاذير مضاعفة يجب أن تتوخاها في كل كلمة تقرؤها أو تكتبها، قبل أن تجيز مرورها، لأن كلمة واحدة غير دقيقة (بالتعريف السعودي للدقة) كفيلة بأن تتحول إلى كارثة، خصوصًا إذا ما كانت متعلقة بالأسرة المالكة أو بأحد أفرادها، أو بشبكة العلاقات المعقدة المحيطة بها.
كان أحد زملائي في المجلة التي أعمل بها لا يحبني، وهذا طبيعي. كان مصريًا من هؤلاء الذين يريدون أن يظهروا التزامهم وولاءهم لمستخدميهم، بالمبالغة في تطبيق المواصفات القياسية للموظف الجيد: يربي لحيته، يصلي، يسمع الكلام، ويضحك إذا ضحك رئيسه في العمل. وكان يعمل في قسم الجمع التصويري، مهمته هي نسخ ما نكتبه على أجهزة الكمبيوتر التي كانت بدائية جدًا في ذلك الوقت، لكن ابتكر لنفسه مهمة أخرى هي الوقوف في وسط المجلة والأذان للصلاة، ثم المرور على كل الغرف للتأكد من أن جميع العاملين ذهبوا للصلاة. في المرات العديدة التي دعاني فيها للصلاة، تعاملت معه بود ولطف بما يعني ألا يتدخل في شؤوني، لكن الرسالة لم تصله. وفي إحدى المرات قال لي "إنت مش هتصلي ولا إيه يا أستاذ"؟ فنظرت في عينيه، وأجبت بحسم وحدة "وأنت مالك"؟ بعدها، أخذ يعاملني بحذر، وفي حدود العمل فقط، قبل أن تتحول علاقته بي إلى الكثير من الامتنان، لأنني أنقذت مستقبله، وربما أنقذت حياته أيضًا.
لم تكن فترة طويلة قد مرت على وفاة زميل مصري آخر كان يعمل مخرجًا صحفيًا في صحيفة يومية تصدر في المدينة نفسها. وجدته زوجته ميتًا ذات صباح، بعد أيام من شهور قضاها في أحد السجون السعودية، بدون أن يعرف عنه أحد شيئًا. كان شخصا هادئًا، شديد التهذيب، ودودًا، يحظى باحترام زملائه ومحبتهم. وكان القبض عليه خبرًا صادما للجميع، لكن أحدًا لا يستطيع الكلام عن السبب، برغم أن الجميع يعرف ما حدث. ذات يوم، صدرت الصحيفة بعد أن دس شخص مجهول في أحد موضوعاتها شتيمة من كلمتين تتبع اسم الملك ولقبه، ومرت الشتيمة على جميع المراجعين. لم يكن منطقيًا، بالنسبة للمحققين، أن تمر هذه الشتيمة على المحرر المراجع (محرر الديسك)، وعلى موظف الجمع التصويري، وعلى المدقق اللغوي، ولم يجدوا لها أي أثر في كل البروفات، فاستنتجوا، بشكل منطقي، أن من دسها فعل ذلك بعد مرور الموضوع بكل هذه المراحل، أي أنه فعلها على أحد أجهزة الكمبيوتر في قسم الإخراج الصحفي. ولذلك انحصر التحقيق في العاملين في هذا القسم، الذي كان يضم الكثير من الموظفين الشيعة، ممن يشكلون أغلبية السكان في المنطقة الشرقية من السعودية. وشهدت هذه المنطقة، طوال تاريخها، الكثير من القلاقل والاحتجاجات ضد الحكم السعودي، خاصة في المدن الشيعية الرئيسية مثل القطيف وسيهات. اختفى زميلنا المصري شهورًا مع عدد من العاملين في القسم، وكنا نعرف أنه في سجن ما، إلى أن سمعنا أنه عاد إلى بيته، وأنه لا يتحدث مع أحد، ولم ينطق بكلمة، حتى لزوجته. بعد أيام من إطلاق سراحه، حاولت زوجته أن توقظه، لكنه لم يستيقظ.
أصابتنا الحادثة بالرعب الذي ضاعف حذرنا في مراجعة الموضوعات أضعافًا، ولم يعد كافيًا أن نقرأ البروفات قراءة سكرتير التحرير العابرة، التي تلتقط الأخطاء بالخبرة البصرية، وكان علينا أن نقرأ البروفات كلمة كلمة، بل حرفًا حرفًا. يعرف الصحفيون الخطوط الحمراء جيدًا، ويحفظونها عن ظهر قلب، ولذلك لا يوجد في الصحافة السعودية ما يمكن أن يشكل قلقًا سياسيًا أو اجتماعيًا، ولكن الحذر قد لا يمنع القدر. وكانت هناك الكثير من المحفوظات في الصحافة السعودية، ومنها الألقاب الطويلة للعائلة المالكة، التي تختلف حسب مكانة كل شخص فيها، ويحب أن تتكرر في كل مرة يذكر فيها الاسم. وكان أطول الألقاب هو لقب الملك "خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله"، هكذا في كل مرة.
ابتكر زميلي في المجلة، الذي لم يكن يحبني، طريقة لكي يتغلب على ملل تكرار اسم الملك ولقبه في كل الموضوعات، فبرمج الاسم واللقب على زر واحد في الكمبيوتر، بحيث يضغط عليه مرة واحدة بدلًا من أن يكتبه في كل مرة، لكن هذا الحل أوشك أن يتحول إلى كارثة. كنت أراجع بروفات المجلة بالحذر المضاعف الذي اكتسبته بعد القبض على زميلنا في الصحيفة الأخرى، ووفاته الغامضة، فاكتشفت أن زميلي في المجلة برمج اسم الملك ولقبه بشكل خاطئ. يقع حرف الخاء بجوار حرف الحاء في كيبورد الكمبيوتر، فحل الخاء محل الحاء في كلمة "الحرمين". اعتقدت في البدء أن الخطأ حدث مرة واحدة، لكنني اكتشفت أنه متكرر أينما ذكر اسم الملك ولقبه في المجلة.
لا يجب أن يعرف أحد ما حدث، ولا أن يشعر أحد بأن شيئا يحدث. ذهبت إلى زميلي، وأخذته إلى المسجد الملحق بالمجلة، بعد أن أخفيت البروفات في مكتبي، وأغلقت عليها الدرج. جلست معه، وقلت له إن هذا سيبقى بيننا فقط، ولن يعرفه أحد، وشرحت له ما حدث، وقلت إننا سنبقى، أنا وهو فقط، بعد انصراف كل الزملاء لنصلح الأخطاء. سهرنا حتى الصباح، وقرأنا البروفات حرفًا حرفًا، إلى أن تأكدنا تماما من أن كل شيء أصبح صحيحًا. وبعد أن انتهينا، قال "شكرا"، وبكى. لم يفارقني الخوف، وظني أنه لم يفارق أحدًا ممن عملوا في الصحافة في السعودية، بمن في ذلك السعوديون أنفسهم الذين يعرفون أن شيئًا لن يحميهم إذا ما وقعوا في خطأ، حتى لو كانوا من أقرب المقربين إلى العائلة المالكة.
يمكننا أن نفهم المستقبل إذا استطعنا أن نفكك الماضي جيدا لنفهمه. ولذلك، قد لا يكون بإمكاننا أن نفهم ما يجري في السعودية من تغييرات وتحولات في السنوات الأخيرة، بدون أن نستعين بكلمة مفتاحية أساسية في تركيبة تلك المملكة، وهي الخوف. إذا أردنا أن نفهم السعودية، يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها أحجارًا من الخوف، متفاوتة الحجم مختلفة الأنواع، تتراكم فوق بعضها البعض، بانتظام، لتشكل هرم السلطة، وتحفظ توازنه، وتضمن استمراره. في قاعدة الهرم، يرقد الخائفون ممن لا سلطة لهم من أي نوع، وفوقهم أصحاب السلطة، دينيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا، وفوقهم المقربون من أهل الحكم، وفوقهم العائلة المالكة، وفوقهم الحاكمون من العائلة المالكة، لنصل إلى هرم السلطة: ولي العهد، ثم الملك.