من بين كل محافظات مصر تأتي المنيا حالة عصية على الفهم، كمصدر إزعاج وتوتر للسلطات المتعاقبة في مصر طوال التاريخ تقريبًا، ربما منذ انقلاب إخناتون على الديانة المصرية وكبير آلهتها آمون رع، واتخاذه تل العمارنة في المنيا مقرًا لدولته وديانته الجديدة لعبادة الإله الواحد آتون، قبل أن يأتي كهنة طيبة فيهدون معابده فوق رأسه ويتركون المنيا التي اتخذت فيما بعد من رأس زوجته نفرتيتي شعارًا لها، وكأن ذلك الرمز المرتبط بصاحب أول تمرد ديني في الدولة القديمة وسم كل تمرد لاحق تتبناه المنيا بالغرض الديني.
في القرن الرابع الميلادي، مثلت مدينة أنصنا في المنيا مصدر قلق للإمبراطورية الرومانية حيث المسيحيين هناك لا يريدون الانصياع لأوامرها بالارتداد عن ديانتهم التي تتعارض مع المعتقدات الرومانية، وإن كان ذلك الشكل من التمرد الذي عرّض المسيحيين للخطر وأودى بحياة الكثير منهم، لا يشبه ما جرى بعد ذلك الحادث بقرون متعددة من تمرد جديد على أساس ديني آخر تزعمته هذه المرة الجماعة الإسلامية التي خرجت من المدينة الجنوبية بقادة أغلبهم من أبناءها: كرم زهدي، وناجح إبراهيم، وخالد الإسلامبولي قاتل السادات، وإن احتفظ ذلك التمرد من تاريخ المدينة الروماني بالعداء للسلطة المركزية والديانة المسيحية.
استهداف المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم في المنيا توالى في حوادث إرهابية وطائفية وقع أعنفها عقب عزل الرئيس محمد مرسي وفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في يونيو ويوليو وأغسطس من العام 2013، وإن كان "مصنع الفتن المنياوي" لم يتوقف قبل تلك الأحداث أو بعدها، فبين كل فترة زمنية قصيرة وأخرى ثمة حادث طائفي جديد. مرة بسبب علاقة بين مسيحي ومسلمة، ومرات بسبب بناء كنيسة جديدة أو حتى تجديد دورة مياه داخلها، كما حدث في قرى الإسماعيلية ودمشاو وعزبة سلطان والزعفرانة، أو بسبب الشائعات التي تلعب دورًا كبيرًا في تأجيج الفتنة، مثل جريمة "سيدة الكرم" في مركز أبو قرقاص، أو الإساءة للدين الإسلامي على فيسبوك، كما حدث مؤخرًا في قرية البرشا بملوي ، لتحتل المحافظة المركز الأول في عدد الأحداث الطائفية التي وقعت في مصر طوال العشر سنوات الأخيرة، حسب تقرير ودراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
المنيا ليه؟
تشترك المنيا ومحافظات الصعيد في عدد من الخصائص مثل الفقر والجهل والقبلية، لكن المنيا تتميز ديموجرافيا من حيث الكثافة العددية للأقباط وتوزيعهم داخل القرى والمدن، وكذلك نشاطهم الاقتصادي وثقلهم المادي، فضلًا عن عدد الكنائس والأديرة المنتشر بطول وعرض المحافظة، صحيح أنه لا يوجد "إحصاء معلن" لعدد الكنائس، لكن طلبات تقنين أوضاع الكنائس يكشف جزءًا من الحقيقة، إذ تتصدر المنيا عدد طلبات التقنين من بين كل محافظات مصر.
في المنيا قرى كاملة يقطنها مسيحيون وتحمل أسماء مسيحية واضحة مثل دير أبو حنس ودير البرشا ودير الملاك، بخلاف عدد من العزب على امتداد المحافظة يطلق عليها عزب النصارى وهي لمسيحيين هاجروا من قرى أخرى، قد تكون من خارج المركز كله، كما حدث في صحراء سمالوط الغربية، التي يقطن أغلبها مسيحيين من قرى مركز ملوي، فقد تجد في قرية واحدة أكثر من خمسة عشر كنيسة وثلاثة أديرة مثل قريتي دير البرشا ودير أبو حنس، وبجوارها أخرى أصغر ذات أغلبية مسلمة، أو من العربان المنتمين لقبائل عربية ومنتشرين في شرق وغرب صحراء المحافظة، إذن فالمسيحيون في المنيا يشكلون كتلًا تتواجد بأكملها في مناطق بعينها وليسوا متفرقين بين قراها، الأمر الذي يراه بعض المتشددين يشكل خطرًا على هوية المحافظة، وترى فيه الجماعات المتطرفة حلقة أضعف لضرب الدولة من خلالها.
يقول الباحث بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إسحاق إبراهيم، للمنصة إنه "لو فهمنا هذه التركيبة السكانية للمحافظة من الداخل ربما يمكننا وضع أيدينا على جرح المنيا الغائر، حيث يمثل الأقباط نسبة معتبرة من عدد السكان، لا يوجد إحصاء رسمي يحدد أعدادهم، لكن مؤشرات من مصادر محلية متنوعة قدرت نسبتهم بنحو 30% من سكان المحافظة، وهو ما يخلق مساحات من التعامل اليومى بين المواطنين، بما يتضمنه ذلك من خلافات ومشاجرات يسهل تحريكها طائفيًا".
يضيف إبراهيم للمنصة "تضم المحافظة عددًا من أبناء القبائل العربية، بعضا منهم يحمل الجنسيتين المصرية والليبية، ويعيشون في قرى بالقرب من الظهير الصحراوي الغربي للمحافظة، تأثر عدد منهم بأفكار التنظيمات الإرهابية والمتشددة المنتشرة في ليبيا، وانخرط نفر منهم في هذه التنظيمات خصوصا خلال السنوات الأخيرة".
يؤرخ الباحث الحقوقي لظهور الاتجاهات المتطرفة في المنيا بعقدي السبعينيات والثمانينيات، يقول "خرج من المحافظة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تورطت في اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، ورفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، كما أن كثيرًا من قادة حزبي البناء والتنمية التابعة للجماعة الإسلامية، والوسط الذي خرج من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وبعض قادة التيارات السلفية الحاليين هم من أبناء المحافظة مثل محمد سعد الكتاتني وأبو العلا ماضي وعبد المنعم الشحات، وقد عانت المنيا من أعمال إرهابية واسعة خلال تلك الفترة التي أعقبت الإطاحة بمحمد مرسي".
غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية أيضا يمثل جانبًا من الأزمة التي تجمع المنيا بعدد من المحافظات الأخرى، يقول عن ذلك إبراهيم في تقرير عن الطائفية في المنيا، صادر عن المبادرة المصرية عام 2016 (لينك تاني التقرير) "على الرغم من تعدد الموارد الطبيعة والاقتصادية للمحافظة، تغيب عنها العدالة بأوجهها المختلفة، سواء كانت عدالة اقتصادية، ممثلة في ضعف مخصصات التنمية، وعدم فاعليتها، أو عدالة اجتماعية، ممثلة في تزايد نسب الفقر والأمية، وحتى عدالة ثقافية ناتجة عن ضعف المراكز الثقافية وبيوت الشباب".
يشير الباحث إلى أن نسبة الأمية، بحسب ما توصل إليه في تقريره، في المرحلة العمرية 15 سنة فأكثر تقدر بنحو 44.5% ويتركز معظمهم في الريف، أما السكان الحاصلين على مؤهل تعليمي متوسط أو أعلى فلا تزيد نسبتهم عن 19.2% من السكان فوق سن 15 سنة، وهى نسبة كبيرة تعكس فشل برامج محو الأمية بالرغم من وجود مخصصات مالية سنوية لهذا القطاع، واستمرت نسب الأمية المرتفعة تلقى بظلالها على نوعية المشكلات التي تواجهها المحافظة وخطط التنمية بها.
ويرى إسحاق أنه في ظل هذه المشكلات تبرز دور الجمعيات الدينية مثل أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية، التي تملأ الفراغ الذي تركته الدولة، فمن جانب تقدم للمواطنين احتياجاتهم الأساسية عن طريق المستوصفات الصحية والحضانات والمدارس والمساعدات الاجتماعية، ومن جانب آخر تغذي فيهم رؤية محافظة ومنغلقة للدين ترى الآخر مواطنًا من الدرجة العاشرة ليس له حقوق متساوية.
يشير الباحث في تصريحات للمنصة أن العمل الأهلي ينشط في المنيا منذ سنوات طويلة، حيث يقدر عدد الجمعيات الأهلية بنحو ألف جمعية تعمل في مجالات تنمية المجتمع المحلي والرعاية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الأضعف والتصدي للمشكلات القومية مثل المشكلة السكانية، والأمية، والبطالة، وحماية البيئة، لكن دورها في التصدي للعنف الطائفي غائب ومغُيب من أطراف كثيرة مستفيدة من الوضع الحالي، وينطبق ذك، وفق رأيه، على جامعة المنيا التي لا تقوم بواجبها الأكاديمي أو المجتمعي، فلم تضع هذه المشكلة على خطورتها على أجندتها البحثية كما لم تفتح نقاشاً حول سبل التعامل معها، وكأن دورها منعزل عن المجتمع الذي يحتضنها وأنشئت من أجله.
انفصال طائفي
تتركز غالبية الأحداث الطائفية بالمنيا في القرى المكتظة بالسكان مقارنة بالحضر: في مطاي، وبني مزار، وسمالوط، وملوي، وأبو قرقاص، وهي كلها مراكز تشهد قراها فتن طائفية تكاد سناريوهاتها تتطابق، فالمحافظة التي يصل عدد سكانها إلى 6 ملايين حسب تقدير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لسنة 2020، يقطن أكثر من 73% منهم بالقرى ويعمل أغلبهم بالزراعة؛ أربعة ملايين ونصف مواطن تقريبًا موزعون على مئات القرى والعزب والنجوع مترامية الأطراف، حتى جارت على الغيطان وتعمقت في صحراء المنيا شرقها وغربها.
ولعل ذلك التوزيع مع ارتفاع البطالة أحد أسباب اختلاف المنيا عن غيرها في حجم الأزمات الطائفية، بحسب القيادي السابق ومؤسس الجماعة الإسلامية في المنيا، الدكتور ناجح إبراهيم، الذي يقول للمنصة "هناك محافظات كثيرة أفقر من المنيا، لكن المواطن المنياوي معروف عنه أنه لا يحب السفر أو العمل خارج قريته، بخلاف السوهاجية مثلا، المتحكمين في جزء كبير من اقتصاد محافظة الإسكندرية، أو الأسايطة وغيرهم، الذين يعملون في التجارة وسوق العقارات خارج محافظاتهم، أما المنيا فأغلب أهلها فلاحين، يحبون الأرض والزرع حتى لو مش لاقي ياكل. فطبيعي الفقر مع الجهل والبطالة يخلي الشباب الصغير هدف لمروجي الأفكار المتطرفة والتعصب الديني والقبلي أيضا".
وجهة النظر التي طرحها القيادي السابق في الجماعة الإسلامية تؤكدها دراسة جامعية أعدها عضو هيئة التدريس بكلية الزراعة في جامعة دمنهور الدكتور أحمد إسماعيل، والتي تصنف المنيا كأحد المحافظات الطاردة، أي أنها لا تخلق بيئة مناسبة للعمل والإعاشة للغريبين عنها، بينما تأتي في مرتبة أقل من قنا وأسيوط من حيث عدد سكانها الذين اختاروا الخروج منها للعمل في أماكن بعيدة.
بجانب المشكلات السابقة التي تنفرد بها المنيا، تأتي نسبة الأمية في المحافظة التي تصل إلى 37.5%، بينما تصل نسبة الحاصلين على التعليم الجامعي 5% فقط من سكانها، حسب تقدير لجهاز الإحصاء عام 2019. هذه النسب المرتفعة في الأمية والمنخفضة في التعليم الجامعي لم يكن ليلزمها إلا القليل لتتحول إلى كرة نار تحرق استغلته التيارات الدينية المتشددة، وشيوخها طوال أربعين عامًا مضت. وصلت إلى إتجاه كثير من المسيحيين إلى بيع بيوتهم الواقعة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة ليعيشوا إلى جوار "قرايبه المسيحيين"، ومثلهم يفعل المسلمون.
شوارع وجزر
تباعد البيوت أحدث الأمر نفسه بين النفوس والأفكار وصار هناك حالة من التربص بين الطرفين ألقت بظلالها على الأجيال الجديدة، التي لم تجد فرصة للتقارب في ظل خلو القرى من النوادي الاجتماعية والأنشطة التفاعلية، وصار منطقيًا أن يكون وقود النزاعات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين صبيانًا وشبابًا تتراوح أعمارهم بين 14 إلى 22 عامًا، ذلك الميراث من الكراهية التي تحمله تلك الأجيال ظهر بوضح خلال المظاهرات التي خرجت تهتف لدولة إسلامية وعودة الخلافة بعد فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية، وانتقلت للتخريب بعد خلعه.
في المقابل دخلت الكنيسة على الخط المجتمعي، بجانب دورها الروحي، ما جعل المسيحيون يتقوقعون داخل كنيستهم تاركين المجال العام، ولعل ذلك غذى ما يصفه ناجح إبراهيم بـ"صراع التدين" بين أهالي المنيا مسلمين ومسيحيين، فكل طرف يريد إثبات أنه أكثر إيمانًا وعددًا وقوة من الأخر، و"دائمًا يحولون المشاكل البسيطة إلى صراع وجود"، بحسب تصريحه للمنصة.
فراغ الدولة الذي يظهر في أبسط صوره بغياب الأنشطة التفاعلية للشباب، يعود بحسب تقرير إسحاق إبراهيم إلى استئثار الجهات الأمنية بملف الأقباط واعتباره ملفًا أمنيا فقط "إذ يتم النظر إلى المشكلات كحوادث منفصلة في غياب أية رؤية شاملة للأسباب أو المظاهر أو الحلول، وعادة ما تكون الحلول قاصرة، وقصيرة النظر، لفرض تهدئة سريعة بدون إزالة أسباب الاحتقان".
أحلام اليانصيب
أدى الوضع الطائفي في المنيا إلى اتجاه عدد كبير من الشباب للبحث عن الهجرة، وذلك بخلاف مئات الأسر التي تهاجر بكامل أفرادها عن طريق القرعة العشوائية الأمريكية السنوية للهجرة؛ حلم كل المسيحيين في مصر تقريبًا، خصوصا في الصعيد، الأمر الذي نتج عنه تناقص مستمر في أعداد مسيحيي المنيا في آخر خمسين سنة، وإن كان الوصول إلى حصر بأعداد المهاجرين سنويًا من المسيحيين صعبًا لأنه مثل غيره مما يخص المسيحيين المصريين باعتباره شأنًا يخص "أمن الدولة".
لكن ذلك التناقص لا يمكن بالتأكيد تفسيره بالهجرة وحدها، حيث تساعد على ارتفاع نسبته عوامل أخرى مثل زيادة نسبة المتعلمين من النساء في الصعيد، وتشجيع الكنيسة برامج تحديد النسل، ناهيك عن انتفاء تعدد الزوجات في المسيحية، غير أنه، وباختلاف أسبابه، أدى في ظل تلك الجزر المنعزلة التي يعيش أهل المنيا داخلها، واستنادًا إلى مبدأ القوة القبلية السائد في الصعيد، إلى إظهار المسيحيين كأقلية يمكن التغلب عليها.
اللافت في الأمر أن تلك النزعة القبلية التي تفاقم من الأزمة لا يمكن الاعتماد عليها للخروج منها، فالحلول المتبعة في معالجة ملف الطائفية في المنيا غير مجدية على أرض الواقع، حيث إن جلسات الصلح العرفية في بيت العائلة المصري الذي دعا إلى تأسيسه في المحافظات شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، يرفضها الجانبان من الأساس، ويفضلون إعمال القانون، لكن تدخل الأمن لا يزيد عن حبس بعض الشباب من الطرفين، يفرج عنهم بعد الصلح الذي تتضمن بنوده شروطًا جزائية مالية ضخمة على الجانب الذي بدأ الاعتداء على الآخر، كذلك فإن الأحكام القضائية التي صدرت في بعض القضايا، جاءت مخيبة لآمال الجميع، كما حدث في قضية تعرية "سيدة الكرم" في المنيا وبراءة المتهمين فيها.
تحتاج الأزمة الطائفية فيما يبدو إلى إحلال القانون النافذ محل الجلسات العرفية في تنظيم العلاقة بين الطرفين، حيث إن الأحداث التي شهدتها المحافظة لا يصدر فيها أحكامًا تدين متهمين بأعينهم، فرغم تأكيد رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة على تطبيق القانون، فإن ما يحدث على أرض الواقع مخالف لذلك، فقد نظمت جلسات عرفية في أحداث قرى نزلة يعقوب ودموا وصفط الخرصة، وأفرج عن عدد كبير من المقبوض عليهم فيها، لكن الأحداث الأخيرة رغم خطورتها، تمثل فرصة مناسبة لمحافظة المنيا لوضع قضية تصحيح العلاقات بين المسلمين والمسيحيين وترسيخ التعايش المشترك على أجندتها، واستخدام جزء من موازنتها في دعم الأنشطة المشتركة، وتبني برامج تخاطب الشباب والأطفال من الجانبين، وأن تنظم لهما أنشطة ورحلات ولقاءات منتظمة، بما يساهم في توثيق العلاقات وغرس قيم القبول بالتنوع واحترام حقوق الآخرين، إلى جانب السماح للجمعيات الأهلية في الصعيد بالعمل في التنمية والثقافة ورفع الوعي، دون قيود، ودعمها بالمال والقوانين، وتمكين الفنانين من تنظيم مسارح في الميادين والشوارع لفرق الهواة بالمحافظة التي يكثر عددها في مدنها وقراها، وزيادة عدد المكتبات ودور السينما المستقلة.