على غير عادتي، استيقظت في ذلك الصباح باكرًا، وعلى جبيني قطعة قماش مبلَّلة، بينما كانت والدتي تجلس على مقعد في المواجهة، غلبها النعاس فمالت برأسها جانبًا وتحوَّل كوم الثلج على الطاولة المجاورة إلى مياه، وكان مؤشر الترمومتر يقف عند درجة حرارة 41 مئوية.
بعد انتشار كورونا السنة الماضية، عدت من القاهرة إلى قريتي الأم الخيام، وهي إحدى قرى سوهاج، تقع على بعد 550 كيلو متر جنوب العاصمة، ما يجعلها هادئة نهارًا وشديدة الهدوء ليلًا، تحتضن النيل من الغرب، وترمي أطرافها إلى قرى مجاورة في الشرق، يأتيها رزقها من العاملين في الخارج، والعاملين في الوجه البحري والمدن السياحية، وقليل جدًا من الزراعة، التي تعاني تراجعًا منذ تسعينيات القرن الماضي.
نصف موت
على سرير خشبي ألقيت بجسدي المنهَك منذ أيام بسبب ارتفاع درجة حرارة الجسم والطقس، دون أن أبرحه إلا متنقلًا بينه وبين دِكة وضع عليها مفرش من الصوف ذو الصناعة اليدوية المتقنة، أستنشق هواءً باردًا يخترق أنفي كأنه مبيدًا حشريًا، وأخرجه من رئتي حارًا كالسُموم.
قيل لي ذات يوم إن النوم على أي دكة، من ذات المفارش الصوفية المصنوعة يدويًا بعناية، يمنح الجسد قوة وتجعله "أشد"، وهي أسطورة لا أعرف مصدرها؛ لكني تمسكتُ بها وتنقلتُ كثيرًا بين النوم على السرير وتلك الخشبة الصلبة، حتى بدت لي الدِّكة في أحد كوابيس المرض، كحمَّالة نقل الموتى فانتبهت فزعًا.
استنكرت أن أفزع من الحلم بالموت.. فهل أخاف الموت؟
الإجابة هي أن البشر جميعًا يجتمعون في مشاعر الخوف تلك، هو خوف فطري حتى وإن تغلبنا عليه أو أخفيناه، يبقى الموت من أكثر المخاوف التي تشير إلى التوقف وتناقض الكمال، وتقف أمام رغبة البشر في الخلود، تبدَّل شكل هذا الخوف بتبدل النوازل والأحداث التاريخية الكبرى.
يحزن الناس في قريتنا على موتاهم، بل يتوارثون طقوسًا خاصة للموتى كالعديد وإقامة السرادق، وتوزيع النفحات، لكنهم مع ذلك تجاوزوا خوف مواجهته. نعم هو مخيف لكنهم يواجهون ذلك الخوف بقلوب مستسلِمة، ويدعونها شجاعة وجرأة.
بعد انتشار كورونا، تحوَّلت أكثر الجنائز إلى عزاء على المقابر، واختفت بشكل كبير السرادقات، التي ما لبثت أن عادت رويدًا رويدًا فيما بعد بنفس تقاليدها، وأصبح هناك انتقائية في الطقوس، ومع ذلك ظلت حركة السوق الأسبوعي يوم الخميس كما هي.. المزيد من الزحام والتكدس، وقليل جدًا من الكمامات.
في قريتنا، دائما ترتبط الكوارث والمصائب بالخطيئة، أي أن الوباء ما كان ليدخل القرية لو كان الناس مؤمنون حقًا، وإذا كان الناس على ثقة بالله فلن يضرهم حاملو عدوى كورونا، القادمون من الخليج أو القاهرة أو المدن السياحية. أشارت أصابع الاتهام لانتشار كورونا في القرية إلى تلك الفئات التي يعتمد عليها اقتصاد المنطقة.
لا يقين طوعي
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، تقف على ظهر يدي بعوضة، لا تلبث أن تطير بعيدًا دون أن تأخذ حصتها من الدماء؛ هل عرِفتْ أن هذا الدم أصبح ملوثًا بالمضادات الحيوية، أم أنها لم تتحمل درجة حرارة جسدي فطارت بعيدًا؟ لأول مرة أشفق على تلك البعوضة.
في الصباح التالي، لم أستطع تناول شيئًا، وعندما حاولت لم أحس مذاقًا للطعام، تناولت قطعة جبن قريش، والكثير من عصير الليمون، الكثير جدًا حتى لا أشعر بالغثيان.
استدعيت سيارة، سألني السائق: إلى أي طبيب نذهب هذه المرة؟ طلبت منه التوجه إلى الأقرب من البيت، فدرجة الحرارة ليلة أمس لم تكن تُحتَمل، وكنت أعلم أن الطبيب سيمنحني مجددًا محلولًا لخفض تلك الحرارة ومضادًا حيويًا بتركيز 1500 ملجم كالعادة.
في عيادة رحبة تقع إلى جوار المناطق الزراعية وتبتعد عن العمران، يخترقها عنوة هواء رطب، ويأتي إليه من بعيد صوت ماكينات ري الأراضي، علَّق لي الطبيب صغير السن محلولًا لخفض الحرارة، أخبرني على استحياء أن أعزل نفسي احتياطيًا، سألته: هل كورونا؟ رد باقتضاب: اعزل نفسك احتياطي.
في الواقع، عدت إلى المنزل واستسلمت لنوم عميق كالعادة، وأنا أشكك بكلام الطبيب الصغير السن، لم أشعر بمرور أكثر من 3 ساعات وأنا نائم، بينما كان العرق يتصبب من جبيني ووجهي، كحبات مطر كبيرة الحجم.. تفاءلت بالنشاط القليل المفاجئ، أو أوهمت نفسي بعد انخفاض درجة الحرارة.
في المساء تكررت موجة ارتفاع درجة الحرارة مرة أخرى، فتحت باب البيت وجلست أمامه، قلت لنفسي بصوت مسموع: النفَس خارج مني كأنه نار، لم أعبأ بتعليق ابن اختي ذي السبعة أعوام أنني ربما أتحوَّل فيما بعد إلى "تنين يخرج النار من فمه وأنفه".
ابتسمت رغم الكآبة، وتوجهت إلى كيس الأدوية، راجعت محتوياته، مستغلًا بعض النشاط الذي دبَّ في جسدي على غير العادة، أو توهمته، انتقلت إلى متصفح جوجل، وبحثت عن أعراض الإصابة بكورونا، لم تكن تنطبق جيمعها عليَّ. في الحقيقة كان بعضها ينطبق لكنني تجاهلت ذلك، وفي الليل تجدَّد ارتفاع درجة الحرارة.
ما الذي أحلم به؟ هل تحمل هذه الأدوية مركبات تسبب الهلوسة؟ كنت أحلم بنيران تقترب من بيوت عالية فتلتهمها، وقطارات تلتحم معًا فتدمر بعضهًا بعضًا، وآلات تشبه المحاريث تحصد مخلوقات عجيبة وغريبة.. ويدور في ذهني أغنيات لا علاقة لها بأي شيء: لماذا نحن هنا، والليل بيطول وياهم، روح يا نسيم لأرضها، ثم أتساءل: ماذا لو قال المغني روح يا نسيم لقبرها، أليس هذا المعنى أقوى، لأن الموت أطول عمرًا من الحياة؟
"مات في هذا اليوم خلق كثير".. قرأت هذا التعبير كثيرًا في مذكرات المقريزي التي سماها المواعظ والاعتبار، لكن هذا التعبير كان يناسب هذه الفترة جدًا، هناك أكثر من 6 وفيات في هذا اليوم ماتوا متأثرين بكورونا، ونحو 15 شخصًا أعرفهم شخصيًا يشتبه في إصابتهم، وهم مثلي لم يعزلوا أنفسهم.
في الحقيقة حاولت إجراء هذا العزل منزليًا، لكن الأسرة لم تتقبل فكرة إصابتي أصلًا.. في الحقيقة لم أكن أتقبل هذه الفكرة مثلهم، وتمسكت بطمأنة طبيب آخر قال إن الأمر قد يكون مجرد "ضربة شمس" أو "حمى".
ارتفاع عدد الوفيات
واجهت الخيام (60 كيلو مترًا جنوبي سوهاج) كورونا، لأول مرة في أبريل/ نيسان 2020، قبل ذلك التاريخ لم يكن أحد يعرف عن هذا المرض الجديد شيئًا، حتى بعد أن صنَّفته منظمة الصحة العالمية جائحة في مارس من العام نفسه، كان الناس في قريتنا يستنكرون: هل يمكن أن تصل هذه الأمراض التي يعاقب الله بها خلقه إلى بلدنا المحمية بالأولياء والعارفين؟
محمد عبد العال، باحث في الكيمياء التحليلة، وصاحب معمل تحاليل، قال للمنصة إن من بين ثلاثة مرضى يجرون تحليلًا عنده، هناك حالة على الأقل اشتباه كورونا خلال هذا الشهر (أبريل2021) تحديدًا، مقابل حالة واحدة كل 15 تحليل في أبريل من العام الماضي.
كنت عائدًا من عند طبيب مشهور في مركز دار السلام (الذي يضم قرية الخيام)، أخبرني أن الأمر بسيط ومجرد "ضربة شمس"، ومنحني مضادات حيوية 1500 ملجم، كالعادة، وعند مدخل الخيام، توقفت عند صيدلية لشراء العلاج، هناك التقيت حفار القبور، عبد الحميد، وهو شاب في مقتبل الثلاثين، بادرني بسؤال: كيف حالك اليوم؟
ضحكتُ رغم الثقل الذي أشعر به في رئتيّ، لأن سؤال حفار القبور يحمل مزحة خفيّة؛ ففي ظل كثرة الوفيات بالقرية أصبح اطمئنان حفار القبور على أي من الناس بمثابة سؤال عن جثة قادمة في الطريق إليه؛ الرجل يسأل عن عمله ورزقه.
يعمل عبد الحميد، في مهنته تلك منذ خمس سنوات بعد وفاة والده، يقول للمنصة: ضحايا كورونا، أكثر من المعلن عنهم بشكل رسمي بكثير، فخلال الشهرين الماضيين، واريت في التراب ما بين 40 إلى 50 ميتًا من ضحايا كورونا أكثرهم كانوا يمارسون حياتهم في المنزل دون عزل، وأقل من 15 حالة منهم كانوا وفاة بكورونا تسلمها الأهالي من المستشفيات أو العزل.
يعمل حفارو القبور دون غطاء رسمي، ما يجعلهم يتقبلون دعم الأهالي في الحصول على الأدوات الاحترازية خلال دفن وفيات كورونا، مثل: البدل الواقية، والقفازات، وزجاجات الكحول والكولونيا.
في السنة الماضية أشيع أن فيروس كورونا، يمكنه الانتقال من الأموات إلى الأحياء حتى بعد مرور أشهر من دفن الميت، لذلك بدأ عبد الحميد تجنُّب دفن ميت جديد في قبر سبق دفن فيه أحد ضحايا كورونا "نحن حفارو القبور أكثر المتعرضين للعدوى ونقلها، خاصة إن شغلنا كله بيكون في تجمعات، ودا ممكن يعمل كارثة لو حد فينا مصاب" يقول عبد الحميد.
في بداية انتشار كورونا العام الماضي، كان الناس يحاولون دفن موتاهم من ضحايا كورونا في جو من الكتمان، لكن هذا الأمر فشل تمامًا، وأصبح الناس يعرفون السر بسهولة، إذ يظهر ذلك واضحًا في طريقة التعامل مع ضحايا كورونا والإجراءات الاحترازية والبدلة الواقية التي يرتديها حفار القبر، كما يُترك إنزالهم إلى القبر للتربي فقط، على غير ما اعتاد عليه الأهالي.
في العادة، من الصعب أن يبوح التربي بأي تفاصيل عن الميت، حتى وإن كانت بسيطة ويمكن استنباطها بسهولة، إذ يعتبَر ذلك من أسرار الموتى التي يجب أن يدفنها أيضًا ولا يخبر بها أحد.
علاج بدائي
في الفجر، لم يحدثني والدي كعادته، بل مرَّ سريعًا من أمامي، فتح باب البيت، وعاد بعد 10 دقائق ومعه أحد أقاربي. اسمه عباس وهو رجل كبير السن طيب القلب، تخطى السبعين، لكنه يحتفظ بقوة الشباب، ويتقرب إلى الله بصنائع الخير، ويتحدث دائمًا بصوت مرتفع.
طلب عباس حبتي ليمون، وقليلًا من الزيت، وبعض الملح المطحون، وعصر الليمون في الزيت ثم وضع الملح، وطلب تسخين هذا الخليط على نار هادئة. ثم أحكم قبضته على رأسي، وربطها بشال صوفي وبدأ وضع المحلول على جبهتي وأعلى رأسي. وبدأت أسمع أصوات طرقعة، ثم شد أذنيَّ، وعضَّ جبهتي حتى ظهرت علامات أسنانه. وعندما استوى محلوله الخاص، بدأ في وضعه على رأسي وذراعيّ.
- دانتو عيالنا.. قوم يا واد هاتخف دلوقيتي.. اشرب ليمون بزنجبيل ونام، ولما تصحى استحمى بمية سخنة أو مية بملح، وهاتخف.
كنت أتمدد على السرير وأسمع حكايات الأصدقاء الزائرين عن مصابي كورونا، وكأنني لست منهم، في أحد الحكايات شاب قدم من السعودية مريضًا بكورونا، وخالط أسرته جميعًا فأصيبوا معه، ثم انتقلت العدوى للشارع.
وفي الحقيقة تتكرر هذه القصة كثيرًا، وإلا فكيف يمكن لهذا الوباء أن يدخل إلى القرية، أو حتى إلى سوهاج المهمَّشة، لكن السؤال الذي كان يجول برأسي: من هذا الشخص الذي نقل إليَّ العدوى؟
عندما ضربت الجائحة سوهاج مثل غيرها من المحافظات، وفَّرت المحافظة مستشفى للعزل، ثم زاد عدد المستشفيات حتى بلغ 17، ومع ذلك فإن كثير من الناس يخشون الذهاب إلى أي منها، لأن أمامهم مثالًا سيئًا لمستشفيات القرى والمراكز، حتى بعد أن تغيَّر تقبل الإصابة بكورونا من الخوف والحزن الشديد إلى اللامبالاة.
هناك رأي عام بشأن القطاع الصحي في سوهاج، أن الحكومة لا تهتم بهم وتعتبرهم هامش، وأن الخدمات الصحية هي أحد أسوأ ما يُقدَّم للأهالي، خاصة في القرى التي ينعدم فيها الثقة في الوحدات الصحية والمستشفيات الحكومية.
السلوكيات التي تبناها الناس بعد انتشار كورونا العام الماضي، بدأت تتراجع شيئًا فشيئًا، فما كان يعرف بالخوف أصبح أمرًا طبيعيًا، وشيئًا فشيئًا اختفى أولئك الذين يوزعون رشات الكحول والكمامات على المارة. بل قلَّ طلب الناس على الكحول أصلًا.
قرارات العزل التي يتخذها الناس في القرى هشة ولا تلبث أن تنهار، خاصة لدى الرجال، إذ يقومون بأدوار اجتماعية لا يمكن تبادلها مع المرأة، مثل: جلب حاجات المنزل، وتأدية واجبات العزاء، والمشاركة في الأفراح، وهي أنشطة تلزمها مخالطة.
في المساء استيقظت على رائحة البخور النفاذة الذي وضعته أمي إلى جانبي، لم يكن رأسي يؤلمني، تحسَّست جبهتي، كانت الحرارة مرتفعة قليلًا لكن لا بأس ليست كالسابق، لم أتخلص تمامًا من الشعور الدائم بالغثيان، لكن أوهمت نفسي بالعافية، وشربتُ مجددًا الكثير من عصير الليمون، لا أقول إن العلاج الشعبي كان سببًا في هذا النشاط المفاجئ، لأن كان مرَّ على مرضي 15 يومًا، وأظن أنها مدة كافية ليقضي جسدي على المرض، أو يقضي المرض على جسدي، ليخرج أي من الفريقين منتصرًا.
عندما جاء ميعاد مراجعة الطبيب، ذهبت إليه بعدة تحليلات طلبها مسبقًا، سألته دون ترتيب: هل يعقل أن تستمر هذه الحمى 15 يومًا؟ رد باقتضاب: كانت كورونا وخفيت منها.. قلت بس لصاحبك اللي كان معاك عشان معنوياتك... عمومًا ألف سلامة.