منذ سنة تقريبًا، وتحديدًا في مايو/ آيار2020، وقف رهبان دير الأنبا باخوميوس الشايب بالأقصر، يرددون مديحًا لأبي الرهبنة وشفيع ديرهم "لمّا داويت السقماء.. أثر عليك الوباء.. بنيوت آفا (أبانا الأنبا) باخوميوس"، قبل أن يروي لهم رئيس الدير، الأنبا سلوانس، وقائع ما جرى في عام 348، حين ضرب الطاعون مصر، وأصاب الأديرة الباخومية، وأوقع الضرر بالأنبا باخوميوس نفسه، الذي كان يتنقل بينها، لرعاية المرضي وشيوخ الرهبان، لتصعد روحه إلى السماء بعد 40 يومًا من رقاده، عن عمر بلغ ستين سنة قضى منها 39 سنة في الرهبنة.
استعاد الأنبا سلوانس من التاريخ المسيحي قصة مر على حدوثها نحو 17 قرنًا، لكنها قريبة الصلة بوباء كوفيد-19 الذي اجتاح العالم في نهاية 2019، وكأن رئيس الدير يريد أن يفهِم رهبانه أن إعادة التاريخ لنفسه تحمل إلى جانب المأساة أملًا في اجتياز الإنسان للمصائب، غير أنه لم يكن يعرف وهو يروي الحكاية لهم، أنه واثنين آخرين من الرهبان سيكونون بين ضحايا الجائحة اللاحقين.
تزامن رحيل الرهبان الثلاثة مع احتفال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بأسبوع آلام المسيح (آخر أسابيع الصوم الكبير)، الذي حل في 25 أبريل/نيسان الماضي، وعادة ما ينتهي بسبت الفرح ثم أحد القيامة، وهو يوم العيد، الذي يعقبه ما يعرف بأفراح الخماسين، وهم خمسون يومًا يقضيهم المسيحيون دون صوم بعد عيد القيامة، لكن هذه المناسبات جاءت هذا العام في واحد من أقسى الشهور على الكنيسة، إذ ودعت خلال مايو الماضي 30 كاهنًا دفعة واحدة، وربما يكون ذلك مفهومًا حيث إن الكاهن هو شخص يعمل بالكنيسة ويتعامل مع روادها بخلاف الراهب المنعزل في الأديرة البعيدة فيما يشبه عزلًا اجتماعيًا اختياريًا، وإن كان ذا أغراض تعبدية، لكن ذلك العزل الاختياري، لم يحم الرهبان الذين راح 10 منهم ضحية للفيروس خلال ذلك الشهر.
ويُعد ما حدث تحديدًا في دير الأنبا باخوميوس الشايب ودير مارجرجس الرزيقات بالأقصر نموذجًا ملفتًا لانتشار الفيروس داخل مجتمع صغير منعزل، حيث أصيب عشرات الرهبان وتوفي سبعة في هذين الديرين فقط خلال الشهر الماضي.
والمتوفون السبعة الذين رصدتهم المنصة في الديرين، هم الراهب فيلوباتير الشايب، والأنبا سلوانس، من دير باخوميوس الشايب، والرهبان لوقا الرزيقي، وتواضروس الرزيقي، وموسي الرزيقي، وكاراس الرزيقي، وهم من دير مارجرجس الرزيقات، فضلًا عن الراهب صرابامون الشايب، الذي تنسب رهبنته لدير الشايب لكنه توفي وهو أمين لدير القديسين بالطود (الأقصر).
كذلك رصدت المنصة خلال الشهر نفسه، ثلاث وفيات أخرى، هم: الراهب أندراوس آفا مينا من دير مارمينا العجايبي ببرج العرب، والراهب مرقس من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، والراهب داود سانت أنتوني من دير سانت أنتوني بكاليفورنيا الذي توفي خلال زيارته لمصر.
ولم يقتصر نزيف الرهبنة القبطية علي أحداث مايو، إذ فقدت خلال شهور الجائحة عددًا ليس بقليل من الرهبان من مختلف الأديرة بمناطق متفرقة على نطاق الجمهورية.
هل الرهبان معزولون حقًا؟
قبل قرون، حين انتشر الطاعون في فلسطين بمدن القدس وبيت لحم والناصرة، أصدرت الرهبنة الفرنسيسكانية، وهي رهبنة في الكنيسة الكاثوليكية، قرارًا يعرف باسم Rinserro (ومعناها في الإيطالية الحبس)، يقضي بمنع الرهبان من مغادرة الدير، على أن يجري اختيار راهب واحد فقط منهم لقضاء حوائج الدير، وسُمي هؤلاء بالرهبان المعرَّضون، لأنهم يعرضون أنفسهم لخطر العدوى ومن ثم الموت، وكانت تفرض عليهم العزلة عند عودتهم من الخارج، وعادة ما كانوا يقضون نحبهم بميتة قاسية في أثنائها.
ويحتفظ تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية بأسماء العديد من الرهبان الذين قدموا حياتهم لأجل تلك المهمة، ووصل عدد الرهبان الذين لقوا حتفهم بسبب الطاعون، إلى 407 رهبان على الأقل، حسب الوثائق الأرشيفية لحراسة الأراضي المقدسة.
لكن دور الرهبان المعرَّضون لم يعد صالحًا للتطبيق حاليًا، رغم ما قد تمثله وسائل الحماية المعاصرة من ضمانة أكبر للوقاية من العدوى أو نقلها، لأنه ليس ثمة راهب واحد في أي دير غير مُعرض للإصابة بالفيروس، خاصة مع ممارسة كافة الأديرة لأنشطة اقتصادية مختلفة، تستدعي غالبًا وجود عمال وسائقين، وحركة بيع وشراء داخل أسوارها.
يقول الباحث القبطي صفوت سمعان، المُقيم بمدينة الأقصر والقريب من الأحداث التي وقعت في ديري الشايب والزريقات، في تصريحات للمنصة إن "دير الأنبا باخوميوس الشايب، ليس منعزلًا عن العالم بالمعنى الحرفي، إذ يضم داخله ورش أخشاب وحديد ومزارع طيور وعجول، فضلًا عن النشاط الزراعي واستصلاح الأراضي الذي يشرف عليه، الأمر الذي يعني أن ثمة حراك دائم لمجموعة بشرية ليست بقليلة داخله، وهو ما يؤدي إلى اختلاط بالرهبان أثناء العمل أو القداسات".
وهو ما يؤكده المسؤول الإعلامي للدير، الراهب ويصا الشايب، في تصريحات للمنصة، " الدير ليس مغلقًا بشكل كامل، بل ويمارس أنشطته الاقتصادية، والرهبان ليسوا بمعزل عن عمليات البيع والشراء التي تجري داخله".
هذا الشكل اليومي من التعامل مع الجمهور من خارج الأديرة، جعل من الصعب تحديد كيف بدأ تفشي الإصابات في داخلها، ويفسر تصريح أسقف شبرا الخيمة، والنائب البابوي المشرف على دير مارجرجس الرزيقات، الأنبا مرقس، أنه يجعل الطريقة التي انتقل بها الفيروس للدير، قائلًا في تصريحات للمنصة إنه "ربما من أحد العمال".
لكن أحد المقربين من رهبان الدير، رفض الكشف عن هويته، قال للمنصة إن السبب الرئيس لانتشار العدوى في دير الشايب يعود إلى قداس جماعي أقامه رئيسه الأنبا سلوانس لرهبان الدير وعددهم 17 راهبًا، ولم يكن يعلم بإصابته بالفيروس، وبعد أيام ظهرت عليه الأعراض، لكن العدوى كانت انتشرت بشدة بين الرهبان.
وهي الرواية التي رفض الأنبا مرقس التعليق عليها، فيما قال الراهب ويصا الشايب للمنصة، إن الأنبا سلوانس أقام قداسًا بالفعل للرهبان، لكنه ظل أسبوعًا بعده في قلايته، قبل أن يُنقل لأحد مستشفيات العزل، حتى توفي في الخامس والعشرين من شهر مايو الماضي، دون أن يستطيع ويصا الجزم بحقيقة ما حدث تحديدًا، معتبرًا أن تفشي الإصابات في الدير نتيجة لتفشيها في محافظة الأقصر عمومًا، كذلك استبعد الأنبا مرقس، أن يكون هناك رابطًا بين ما حدث في دير الشايب وما حدث في الرزيقات، حيث إنه لا توجد أي زيارات متبادلة بين رهبان الديرين إلا فيما ندر، موضحًا أن الأمر برمته سيخضع لدراسة من قِبل الدير بعد خروج آخر راهب من العزل.
الجائحة لم تمنع المولد
بعد تفشي الجائحة، ومع إعلان الدولة غلقًا جزئيًا منتصف السنة الماضية، أعلنت معظم أديرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إغلاق أبوابها أمام الزائرين، واقتصار الصلوات على الرهبان وحدهم، لكن ذلك لم يمنع دير مارجرجس الزريقات من إقامة الاحتفال السنوي بالمولد، الذي استمر لمدة سبعة أيام من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وسط حضور شعبي كبير، وقد سبقه بشهرين دير السيدة العذراء بدرنكة في أسيوط، الذي أقام احتفاله السنوي دون أي إجراءات احترازية تذكر.
وفي خضم الموجة الحالية ووصولها الذروة، وتحديدًا في 29 مايو الماضي، أعلن دير السيدة العذراء، المعروف باسم السريان، بدء استقبال الزائرين من جديد، بعد فترة إغلاق طويلة، مع مناشدة بالالتزام بالإجراءات الاحترازية، رغم زيادة عدد الإصابات، وكذلك أعلن دير العذراء مريم بجبل الطير في يوم 31 من الشهر نفسه عن فتح الزيارة "للجميع لنوال بركة زيارة المغارة المقدسة" التي أوت العائلة المقدسة في رحلة الهروب إلي مصر، وأوضحت المطرانية أن لديها أماكن متعددة للسُكني لمن يرغب، فيما شهدت محافظة سوهاج تجمهر مسيحي كبير أثناء مطلع يونيو/حزيران الجاري للاحتفال بعيد القديس الأنبا توماس السائح في ديره الأثري بالمحافظة، على الرغم من أن سوهاج من أكثر المحافظات التي تضررت أثناء الموجة الحالية.
الدولة تستيقظ أخيرًا
خلال الأيام القليلة الماضية، انتقلت فرق التطعيم ضد فيروس كورونا بمديرية الصحة والسكان بالأقصر، إلي العديد من الأديرة، حيث قامت بتطعيم جماعي لرهبان أديرة مارجرجس الزريقات ودير الأنبا باخوميوس الشايب ودير الأنبا متاؤس بالأقصر، الذي فقد راهبًا في موجه سابقة للفيروس، غير أن الأب ويصا الشايب، أخبر المنصة أن الدير لم يكن سجَّل بعد رغبته في تلقي اللقاح، لكن وزارة الصحة وصل لها توجيهات بسرعة تلقيح الرهبان وعمال الدير.
ذلك التصريح أكدته صفحة مديرية الصحة بالأقصر على فيسبوك، التي أعلنت أن مديرية الشؤون الصحية تجري جولات متنوعة لتطعيم جميع الأماكن المغلقة ورهبان الأديرة والكهنة بناء علي تعليمات وزيرة الصحة والسكان الدكتورة هاله زايد، بضرورة الوصول لكل فئات الشعب غير قادرة على التوجه لمراكز تلقي اللقاح وحمايتهم، دون إشارة على أن ذلك التحرك جاء بسبب تفشي وبائي في تلك الأديرة.
صوت وحيد في صحراء الأقصر
قبل تلك الأحداث كلها ومع تزايد الإصابات بين الرهبان داخل ديري الأقصر، بدت الاستغاثات المتتالية للأمين الراحل لدير القديسين بقرية الطود، الراهب صرابامون الشايب، بضرورة إغلاق الأديرة والكنائس لإنقاذ الرهبان والكهنة وروادهم من المواطنين، وذلك بعد إصابة عدد كبير من الكهنة بالفيروس، أشبه بصرخة يتردد صداها في الصحراء دون مجيب.
كان الراهب صرابامون يرى أن تفشي الوباء ناتج عن قلة حرص من أفراد الكنيسة وإنكارهم الإصابة بالفيروس، ودائمًا ما كان ينصح الآباء الكهنة بأن يدققوا في اختيار معاونيهم من الشمامسة، مستشهدًا بمن اكتشفهم شخصيًا سواءً كانوا مصابين أو مخالطين ويريدون حضور الصلوات معه رغم ما يمثلونه من خطر عليه وعلى زملائهم، لكن الأيام لم تمهله كثيرًا حتى أصابه الفيروس وأودى بحياته بعيدًا عن ديره بعد عزله في أحد المستشفيات بالقاهرة.
هذه الدراما المأساوية التي غلفت أيام الراهب الأخيرة، لم تكن وحدها المرتبطة بأثره، إذ أغلقت صفحته الشخصية على فيسبوك، لكن كثير من متابعي الراهب وأصدقائه الافتراضيين احتفظوا بصور من تدويناته كوثيقة على الإهمال المتعمد والإنكار للخطر الداهم الذي كان يهدد رواد الكنائس ورهبانها وكهنتها، وكأنها وصية صرابامون الأخيرة غير المعلنة، أن يبقى شيئًا منه شاهدًا على ما فعله كورونا بالرهبان، في مفارقة لوصية الأب باخوميوس الذي حمل صرابامون لقبه، الذي أوصى تلميذه تادرس بعد أن ضرب الطاعون جسده بأن يخفيه ويغير موضع دفنه، حتى لا يصير مزارًا مع الأيام يستعمله الناس للربح والتجارة.