وجدت منى* نفسها بحاجة إلى مشاركة تفاصيل حياتها مع وسيط العقارات الذي ذهبت إليه بينما كانت تبحث عن شقة للسكن، لكي تقدم له أسبابًا تقنعه بمبرراتها للاستقلال عن أهلها، بعد أن باغتها بسؤال "أهلك فين" ما أن أخبرته أنها ستسكن بمفردها.
لم يقتنع سماسرة العقارات الذين تواصلت معهم منى، التي يبلغ عمرها 26 سنةً، بمبرراتها للاستقلال، خاصة وأنها تعيش في مدينة طنطا نفس المدينة التي يسكنها أهلها، فرفضوا التأجير لها، حيث لا توجد مبررات قوية، بالنسبة إليهم، تدفعها لتعيش وحدها. تقول للمنصة "كانوا يسألوني لما أهلك في طنطا سايبينك لوحدك ليه؟".
لم تستطع الفتاة التي استقلت عن أهلها منذ عامٍ ونصف بعد محاولات أمها وأخيها المتكررة لإعادتها للمنزل، أن تجد سكنًا يوافق أصحابه على تأجيره، ما اضطرها في النهاية لتأجير منزل من أحد معارفها كان إيجاره أعلى من قدرتها على تحمله، إذ بلغت كلفته الشهرية 4500 جنيهًا، لكنه كان أرحم من مضايقات مُلاك العقارات والسماسرة، الذين طلب أحدهم اصطحابها لمعاينة السكن المفترض "بعد الحادية عشر مساءً متحججًا بانشغاله في الأوقات الأخرى من اليوم".
ألقت حادثة السلام، التي راحت ضحيتها امرأة بحجة استضافة رجل في منزلها، الضوء على شراسة النظرة المحافظة تجاه النساء المستقلات، اللاتي يواجهن تجارب قاسية لم تقف عند اعتياد أصحاب العقارات والجيران والبواب على انتهاك خصوصيتهن كحق مكتسب، بل امتدت لتشمل حالات اعتداء جسدي ونفسي متعددة.
هنا، نحن نقدم تجارب تسرد وقائعها فتيات قررن الاستقلال عن بيوت عائلاتهن، لظروف وأسباب مختلفة، تنوعت بين الحاجة إلى العمل أو استكمال الدراسة أو النجاة من العنف المنزلي، وعوضًا عن مساندتهن، عيَّن "أولاد البلد" من الأهالي أنفسهم رقباء عليهن وعلى أبواب كل بناية يسكنوها.
فين أهلك؟
تبدأ مشكلة الفتيات اللائي يخططن للاستقلال بحياتهن بعيدًا عن منزل العائلة، منذ لحظة البحث عن بيت جديد، إذ يصطدمن بسلوك السَماسِرة الذين تتحول وظيفتهم في حالة التأجير لفتاة بمفردها، من وسطاء عقاريين إلى قضاة يمنحون الموافقة أو الرفض وفقا للحيثيات التي تقدمها الفتاة لإقناعهم بالتأجير لها "بعيدًا عن عائلتها" من عدمه.
ما حدث مع منى لم يكن حالة فردية، فحتى عندما تضطر الفتاة للحياة في مدينة أخرى بعيدًا عن عائلتها فإنها لا تسلم من تدخلات الآخرين في حياتها. تقول نيفين شعبان، وهي أخصائية نفسية تبلغ من العمر 23 سنة، إن ظروف العمل والدراسة اضطرتها لمغادرة محافظتها إلى القاهرة حيث صدمتها "تدخلات السماسرة في حياتي، سائلين إياي مرة عن حالتي الاجتماعية، وأخرى عن سبب رغبتي في العيش وحدي"، لكنها تمكنت أخيرًا من إيجاد منزل مشترك مع مجموعة فتيات لا تجمعهن سابق معرفة، لتكتشف من خلال العيش بصحبتهن قواعد لم تكن تعرفها عن سكن المغتربات.
لا تستطيع الفتاة المغتربة استقبال الزيارات العائلية من الذكور، حتى وإن كانوا من أقارب الدرجة الأولى أو الثانية. بالإضافة إلى خضوعها لمراقبة الجيران المنشغلين بما ترتديه ومواعيد عودتها كل يوم إلى المنزل، فبعد فترة من سكن نيفين بمفردها في العاصمة، جاء أخوها لزيارتها، لكن "شركائي في السكن لم يصدقوا أنه أخي، إلا بعدما أخرج بطاقته الشخصية ليثبت لهم ذلك".
أنتِ وحياتك لمالك السكن
تقول هدى*، وهي فتاة تعيش وحدها منذ أن كانت في الثامنة عشر بعد التحاقها بالدراسة في جامعة القاهرة، إن صاحبة العقار التي كانت تسكنه تهجمت عليها ذات مرة لتفتش بيتها بحجة أنها تخبئ رجلًا داخله؛ وذلك بعد أن ساعد رجل في الشارع فتاة من المغتربات اللائي يشاركنها السكن في المنزل، في حمل حقيبتها الثقيلة حتى الباب. وبعد نصف ساعة فقط، تحكي هدى للمنصة "سمعتُ طرقًا هيستيريًا على باب المنزل"، كانت صاحبة العقار وأولادها قد حضروا بعدما أبلغهم أحد الجيران عن وجود رجل غريب "صعد عند الفتيات".
عادةً ما يتابع الجيران الخطوات اليومية للفتيات والأوقات التي ينفتح فيها بابهم بحجة "إحنا خايفين عليكو إنتو زي بناتي"، كما تصف هدى رد فعل الجار الذي أبلغ عنهم مالكة العقار، بعدما تأكد من عدم وجود رجل بالمنزل، بإنه "لم يعتذر حتى، فقط تحجج بأن ما فعله كان بدافع الخوف علينا، لأننا فتيات يعشن وحدهن".
تشير هدى في شهادتها إلى القيود التي يفرضها مجتمع المحيطين على المرأة المستقلة أو المغتربة عن أهلها، من خلال ما اضطرت إليه بعد قرارها خلع الحجاب، فرغم مساندة أهلها لقرارها لم تجرؤ على خلعه أمام سكان العمارة "مما اضطرني لارتداء الحجاب كل يوم في طريقي للخروج من الشارع الذي يقع فيه البيت قبل خلعه، ثم ارتدائه مرةً أخرى بنفس الطريقة في رحلة العودة".
مساعدة طبية بإذن
ألمَّ بيسرا* مرض شديد استلزم أن يزورها طبيب في المنزل ليجري عليها الفحوص اللازمة ويركب لها بعض من المحاليل الطبية والأدوية، وما أن حضر الطبيب لممارسة عمله، حتى أبلغ الجيران مالكة العقار أن رجلًا غريبًا دخل إلى شقة الفتاة التي تعيش بمفردها، فأمهلوهما دقائق ليهجم بعدها مالكة العقار وأبناؤها والجيران لـ "ضبطها متلبسة"، لكنهم وجدوا فتاةً نائمة في حالة من الإعياء الشديد، والمحاليل معلقة إلى جوار سريرها تغذي أوردتها، لكن ذلك لم يمنعهم، بعد أن ذهبت شكوكهم أدراج الرياح، من توبيخها على استدعاء الطبيب دون استئذان.
غير أن تلك الحادثة ليست أقسى ما تعرضت له الطبيبة التي تعيش وحدها في القاهرة منذ سنوات، فخلال حظر التجوال الذي تخلل ثورة 25 يناير، اتصل بيسرا أحد أصدقائها المغتربين بعد أن عَلَق في الشارع بعد سريان الحظر ولم يتمكن من العودة إلى منزله، يطلب منها البقاء بصحبتها وصديقتها التي تتشارك معها السكن في منطقة المنيرة بوسط القاهرة، فوافقت.
وكما اقتحم الجيران منزل "سيدة مدينة السلام" منذ أسابيع، اندفع مالك العقار إلى داخل شقة يسرا يحرق مراتب السرائر في جنون، لأنه لم يصدق حكاية الرجل الغريب الذي صعد إلى منزل الفتيات، رغم طلبهن أن يمكث داخل الشقة حتى طلوع النهار ليتأكد من صحة الرواية.
عوضًا عن ذلك، هدد المالك الفتاتين بعملِ محضر "تبديد للأثاث" بعدما حرق بيديه جزءًا منه، حينها اضطرت يسرا وزميلتها والصديق إلى تنفيذ حكم الطرد الفوري، خوفًا من التعرض للعنف والفضيحة و"البهدلة في الأقسام"، على حد تعبيرها، وخرجوا جميعًا إلى الشارع في منتصف الليل لا يعرفون أين يمكنهم المبيت وسط حظر التجول الذي يحيط بكل شيء.
أعين البواب لا تنام
عادةً ما تكون مهمة البواب حماية العقار الذي يحرسه من السرقة، بالإضافة إلى مساعدة السكان قي قضاء حوائجهم اليومية، لكن عندما تسكن البيت فتاة أو عدة فتيات بمفردهن، فإن مهمة جديدة تُضاف إلى جدول أعماله اليومي.
في أحد الأيام، استيقظت زميلة آية* التي تتشارك معها السكن، على طرق صاخب وصراخ هيستيري يأتي من وراء الباب، فعلى مدار أيام قضاها حارس العقار الذي تسكناه في مراقبة تحركاتها، خصوصًا بعدما بدأ أحد أصدقائها في توصيلها يوميًا إلى باب المنزل للاطمئنان عليها، قرر الحارس أن يضبطهما متلبسين داخل الشقة، فبدأ في طرق الباب وهو يصرخ "طلعولي الراجل اللي هنا"، لكن أحدًا لم يكن داخل الشقة سوى زميلة آية التي فتحت الباب فزعة.
تؤكد آية للمنصة أن البواب الذي اكتشفت أنه يراقب تحركاتها اليومية لم يصدق خلو البيت من الرجال إلا بعد أن فتحت له زميلتها وتأكد بنفسه أنها غائبة عن المنزل.
الأمر نفسه تكرر مع إيزيس خليل، وهي فنانة وناشطة في مجال الحقوق والحريات، التي اضطرت إلى طرد صديقٍ من منزلها كانت قد دعته في يوم ليعملا معًا أثناء المشاركة في مشروعٍ اضطرها إلى تأجير بيت في محافظة الإسكندرية، تقول إيزيس للمنصة "حسيت شعور مخزي جدًا وحارس العقار يطالبني بطردِ صديقي من منزلي، خاصةً بعدما اضطررت الرضوخ لطلبه".
تواجه المستقلات قيودًا كثيرة تنغص عيشهن كما تقدم، ولكن في حالة إيزيس فإنها تواجه قيودًا أكثر من غيرها، لأنها مسيحية ومطلقة وتعيش وحدها، الأمر الذي تسبب في تعرضها لمضايقات كثيرة من قبل المحيطين بها.
عن تجربتها تقول للمنصة "عندما قررت الانفصال عن أهلي لم يكن الأمر سهلًا، أنا من أسرة مسيحية، وتزوجت صغيرة، وأردت الطلاق. وقد كان مشوار طلاقي صعبًا، أخذ سنوات طويلة كنت فيهم مُعلقة ما بين الكنيسة ومحكمة الأسرة، حينها فضلت العيش وحدي"، لكن رحلة الطلاق الطويلة بدت بالنسبة لإيزيس أقصر من 12 عامًا تالية قضتهم في الرد على أسئلة من قبيل "اطلقتي إمتى؟ مين بيجيلك؟ عايشة لوحدك ليه؟" لتضطر في النهاية لتأجير سكن بسعرٍ باهظ لتكفل لنفسها القدر الضئيل من الحياة الكريمة.
الرجال أيضًا تحت سلطة "الشومة"
تربط لمياء لطفي، وهي منسق برامج في مؤسسة المرأة الجديدة، أزمة الوصاية المجتمعية على الأفراد بمعايير "الطهر والنجاسة" في الثقافة الشعبية، مُشيرة إلى أن مشكلة التدخل في حياة الأشخاص الذين يعيشون وحدهم لا تقتصر فقط على السيدات، بل تطول الرجال أيضًا من غير المتزوجين.
وتوضح لطفي للمنصة أن أفراد المجتمع " يربطون عادةً بين طهارة المكان الذي يسكنون فيه وقيام علاقة جنسية خارج إطار الزواج، إذ يعتبرون ذلك دليلًا على تحول المكان من "الطهر" إلى "النجاسة"، وبالتالي يصبح بالنسبة إليهم مكانًا غير صالح للعيش أو السكن ما لم يجري تطهيره، وهو أمرًا، بحسبها، لا يُفرق بين رجل وامرأة.
لكن اختلافًا جوهريًا يظهر في الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع كل من الرجل والمرأة في مسألة "العقاب" على ما يعتبره "تعد على الطهارة" المفترضة، توضح منسقة البرامج في مؤسسة المرأة الجديدة أنه في حالة الرجل "يعمل الجيران أولًا على تحذيره أو معاتبته خوفًا من قوته البدنية، وقد يأتي الطرد كحل بديل في النهاية إذا لم يكف عن سلوكه، أما اقتحام المنازل والطرد والترويع والعنف، فيكون من نصيب النساء أكثر".
في عام 2016، تعرض محمد وليد، وهو طبيب صيدلي يبلغ من العمر 28 سنة، لواقعة اعتداء من قبل جيران أحد أصدقائه، عندما قرر زيارته بصحبة صديقة لهما، وبعد أن توجها إلى حيث يسكن في حي حدائق المعادي بالقاهرة، وأثناء صعودهما السلالم إلى شقته فوجئا بتجمهر الجيران أمام الباب يسألونه عن الفتاة التي يصطحبها "كانوا ماسكين شومة"، يقول وليد للمنصة.
حينها اضطر لإخبارهم أنها زوجته وأنهما في زيارة لصديق مقرب، ويضيف الطبيب الشاب أنهم لم يصدقوا ادعائه، وطلبوا منه تقديم ما يثبت ذلك بدعوى أن الوقت قد تأخر على الزيارات المنزلية، قائلين "إحنا مش أرايل، إزاي بنت تزور شاب عازب بعد الساعة 11؟".
تطور الأمر، بحسب محمد وليد، إلى تعنيف وتهجم باليد وجذب من الملابس، فضلًا عن التهديد بتبليغ الشرطة، يقول عن ذلك "اضطريت لأخذ صديقتي الخائفة والرحيل وسط هذا التجمهر، لكن الإساءات لاحقتنا حتى خروجنا من العقار والوصول للسيارة".
لا يجرّم القانون المصري العلاقات الجنسية الرضائية بين الرجال والنساء خارج إطار الزواج، ما لم يكن أحدهما متزوجًا أو إذا كانت العلاقة بمقابل مادي. ولكن عندما يصدر ملاك العقارات والبوابون والجيران أحكامهم فإنها لا تلتفت كثيرًا إلى الحقوق التي يكفلها القانون للمواطنين.
المحامية آية حمدي تؤكد أن العقوبات التي أقرها قانون العقوبات المصري لجريمة "الزنا" لا تسري على أي علاقة تقيمها امرأة غير متزوجة، وتقول للمنصة "ليس هناك في القانون المصري أية مواد تمنع إقامة المرأة في مسكن وحدها، أو تمنعها عن استقبال الزيارات في منزلها، أو إقامة علاقة رضائية مع رجل، طالما أنها غير مرتبطة بعلاقة زواج"، أما الاعتداء على المنازل، وحرق الأثاث، وطرد الفتيات، فهي ما تصنف أعمال خارجة عن القانون، بحسب قولها.
كما أن قانون العقوبات المصري اشترط لمحاكمة الزوجة المتهمة بـ "الزنا"، أن يحرك الزوج حصريًا الدعوى الجنائية، بحسب المادة 273 التي تنص على "لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها"، ولم يمنح المُشرع هذا الحق للجيران والبواب وملاك العقارات.
هذا ما أكده أيضًا المحامي سامح سمير الذي يقول للمنصة إن الوضع القانوني للفتيات المقيمات وحدهن لا يختلف عن وضع الرجال، إذ يشير القانون إلى أن الأفراد يصبحون كاملي الأهلية ما أن يتموا الـ 21 من العمر، على عكس ما يحدث في "الواقع الفعلي"، مضيفًا أنه "من المفترض أن يكون رد فعل الفتيات الطبيعي على اقتحام منازلهن، أو الاعتداء عليهن، هو طلب النجدة، لأن القانون يكفل لهن ذلك".
يصنف سمير حوادث الاقتحام جرائم جنائية من الممكن أن تتسبب في أحكامٍ بالسجن لسنوات على المعتدي، لكن على الرغم من وضوح مواد القانون الخاصة بوضع الفتيات، لكن الواقع الفعلي يضعهن تحت الرحمة الكاملة لـ "ضابط الشرطة" الذي ينظر في الدعوى ويحركها، خاصةً في حالة كانت "أهواءه الشخصية" هي ما يحركه وليست مواد القانون، حسبما يقول سامح.
أما بالنسبة لمخاوف اتهام الفتيات اللواتي يمارسن علاقات رضائية بممارسة الجنس المدفوع، فقانونًا يجب أن تقترن جريمة "الدعارة" بتقاضي المرأة أجرًا مقابل ممارسة الجنس مع رجال عديدين، بحسب آية حمدي، كما يجب أن تثبت النيابة العامة "اعتياد" الفتاة على ممارسة الجنس بمقابل مادي.
كتيب للإرشادات
ترى الحقوقية ماجدة عدلي أن ما تواجهه النساء المستقلات من مضايقات متعددة في السكن سببه "أن المجتمع ما زال ينظر للست كناقصة عقل، وأداة لتحريك غريزة الرجال، وبالتالي فإنه ينظر للمرأة التي تعيش وحدها كخارجة ليس عن تقاليد الأسرة المصرية فقط وإنما خارجة عليه نفسه".
لذلك إذا أشيع عن المرأة أنها تستقبل رجال في منزلها، حتى وإن لم يكن ذلك حقيقيًا، فلن تجد دعمًا لا من الأهل أو الأصدقاء والأقارب، وهو ما تؤكده لمياء لطفي، منسقة برامج في مؤسسة المرأة الجديدة، التي تقول للمنصة إن "المجتمع تفرق معاه طبيعة العلاقات الأسرية جدًا"، لذا فإن الاستغناء عن دعم العائلة لصالح الاستقلال له ثمن يدفع، حسب قولها.
تضيف لطفي "ما بالك بالاستغناء عن دعم المجتمع، بعيش حياة متحررة واستقبال الفتيات للزيارات الرجالية"، عندها يصبحن أكثر عرضة للتعرض لمضايقات إذ يبدأ المحيطين في إصدار أحكام أخلاقية عليهن، خالقين لأنفسهم مبررات للتدخل في شئون الغير.
تبدأ علاقاتنا بعضنا ببعض في المجتمع سواء كنا إناث أم ذكور، من لحظة الولادة، التي تعلن انضمامنا لأسرة ما، تمهيدا لحملِ عادات وتقاليد المجتمع فيما بعد، وهي المعايير التي ترسم طريقة عيشنا، بحسب شيماء طلبة، الكاتبة وباحثة الأنثروبولوجيا، إذ تشير للمنصة أن تلك المعايير تمثل "كتيب الإرشادات" لما يجب أن تكون عليه تصرفاتنا، ولكن "تكمن الأزمة عندما تبدأ تلك المعايير في التحول من "الإرشاد" إلى "الإلزام"، وكأنها قوانين لا يجوز الخروج عنها".
تعيش شيماء وحدها هي الأخرى منذ سبعة سنوات، بعد طلاقها في سن 32، لكن كونها أمًا لطفلين، سهل عليها الكثير، تقول للمنصة إننا "أفراد بالغة عاقلة تمامًا، تحتاج للتعامل معها بطريقة محايدة، نحن لا نحتاج الرحمة ولا التجبر، سوى في الظروف الاستثنائية التي تتطلب فعل الرحمة، كما أننا قادرون على رعاية أنفسنا".
تعتقد شيماء أن هناك أفرادًا، بدعوى ممارسة رحمتهم على الآخرين، يصلون للتجبر، وآخرون تتحول رعايتهم سواء للأبناء أو للآخرين إلى ممارسة التسلط والتدخل في شؤونهم. وهو ما تقول عنه طلبة إنه ينعكس على علاقتنا مع المحيطين، ويحدد ما إذا كانت العلاقة سوية أم سامة.
"لا يمكن إنكار أن هناك فئات مجتمعية تتعرض نسائها لعنفٍ أقل في المجتمع، وهي الطبقات العليا، نظرًا لما يكفله ذلك للنساء من ثراء". تقول طلبة "لكن كلما قل دخل المرأة، ازدادت معاناتها مع الوصاية المجتمعية، وذلك نظرًا لارتفاع معدل الهيمنة الذكورية على الطبقات الاجتماعية الأقل".
يُنظر إلى المرأة في تلك الطبقات، وكأنها كائن أضعف بحاجة إلى الرعاية ممن حوله. بالنسبة إليهم هي غير قادرة على حماية جسدها بنفسها، وهو الخوف الذي يصبح فيما بعد مبررًا للوصاية، "أليس للمرأة الحق في امتلاك جسدها"، على الرغم من أن القانون يكفل لها ذلك، تسلبها الوصاية المجتمعية هذا الحق، بافتراض ضعفها وعجزها.
تلك الوصاية تضطر الفتيات إلى اتخاذ قرارات مواربة، بحسب طلبة، للاختباء من السلطة الممارسة عليهن داخل منازلهن. وهو ما اضطرها شخصيًا للاختباء لسنوات خلف أمومتها، تقول"ما الذي على الفتيات الصغيرات فعله، هن اللواتي تجبرهن الظروف على الخروج للعمل والدراسة بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين، حتى لا يصبحن أسيرات النظرة المجتمعية للمرأة سيئة السمعة"؟
وجود رجل في دائرة معارف الفتاة، يثقل كاهلها، بحسب شيماء لأنه يجعلها مضطرة طوال الوقت للدفاع عن نفسها، ضد تهمة "سوء السمعة" التي تلاحقها. تقول طلبة "تلك الصورة القاصرة لاستقلال المرأة عن منزل العائلة، التي تحدد مسبقًا علاقتها بالرجال في محيطها. تسحب منها الأهلية التي منحها لها القانون، وتجعلها تبدو وكأنها مسلوبة الإرادة بإمكان أي فرد استباحة جسدها، وهو تفكير غير منطقي".
تعتقد شيماء أن المجتمع لا يعي بشكلٍ كامل تنوع العلاقات والروابط التي قد تربط الرجل بالمرأة، إذ تتحكم بهم المخاوف الهستيرية الموروثة بخصوص "الجنس". تقول شيماء في نهاية حديثها إن السلطة الممارسة على الفتيات من قبل المجتمع والحكومة حاليًا بغرضِ تقويمهن، تؤثر بادئ ذي بدء على مسار تنفيذ القانون، وعملية لجوء الفتيات للشرطة من أجل حمايتهن، إذ تتشكك الفتيات حينها في دعم الدولة والقانون لموقفهن، وهو ما ينتج عنه خوفهن من اللجوء للسلطة، حتى وإن كانت مواد القانون تعمل لصالحهن.
* أسماء مستعارة بناءً على طلبهن.