22 يناير 1997..
في فجر اليوم دا الدولة استعدت لعيد الشرطة بأهيف قضية أمن دولة في تاريخها، قضية أطلقت عليها "تنظيم عبدة الشيطان"..
الواحد كان بيستنى 25 يناير كل سنة علشان يشوف آخر إنجازات وزارة الداخلية في عيدها. اتعودنا على خبر القبض علي تنظيم مسلح، ضبطية مخدرات كبيرة، جاسوسية، شبكة دعارة دولية.. حاجة كدا تعمل فرقعة إعلامية وتطمن المواطن العادي إن نسور الوطن متيقظين ومحافظين على أمنه وسلامته.
وقتها ما كانش فيه إنترنت، وما كانش فيه فرصة عند المواطن إنه يشكك في مصداقية الدولة اللي كانت محتكرة صناعة الحقيقة وترويجها. وقتها كمان كنا عايشين ظروف مشابهة لدلوقتي من ناحية ترويج الدولة إننا في حرب ضد الإرهاب.
زي اليومين دول من 19 سنة، صحي حاجة وتسعين شاب كل اللي بيجمعهم حب وممارسة المزيكا على اقتحام ظباط لبيوتهم وتفتيشها، اترموا في السجن واتشهّر بيهم في الجرايد في قضية أمن دولة اتسمت "تنظيم عَبَدة الشيطان".
الناس دي كانت أكتر ناس في بداية التسعينات قادرة تنبسط وتعمل لنفسها مساحة بعيد عن ثقافة أهلهم وبعيد عن عركة البلد مع الإسلامجية. صحيوا ولقوا نفسهم في السجون بيتعذبوا ومتهمين بالشذوذ والكفر والإلحاد والماسونية وحتى الانضمام لتنظيم هدفه قلب نظام الحكم.
كان أول مرة شباب الطبقة دي من جيلي يحسوا بالاغتراب، وأول مرة حد يمد إيده عليهم ويؤذيهم معنويا بالشكل المهين دا. أول مرة يفقدوا إحساسهم بالأمان.. وبالتالي الانتماء.
منهم اللي ساب البلد وما رجعش، ومنهم اللي لسه بيعاني من صدمة عصبية، ومنهم اللي فقد فرصته في إنه يقدم على منحة برة البلد، أو فقد شغله جوه البلد. أعرف ناس منهم طفشت وبدأت من تحت الصفر في بلاد تانية.. ومنهم اللي قرر يبدأ على نضافة ووصلت إنه غيّر اسمه.
علشان كدا أنا شايف إن 19 سنة كافية للسكوت على كمية الظلم اللي الناس دي اتعرضوله من ناس كانوا بيدوّروا على ولا حاجة، وفرصة يبدأوا يقولوا روايتهم عن اللي حصل.
القصة طويلة وتفاصيلها كتيرة.. جدا.. وعلشان كدا معايا نجوم كل واحد فيهم هايكتب من منظور مختلف لإثراء التجربة وإطلاع القراء على حقائق وتفاصيل ما اتنشرتش قبل كده.
هنا بقى هنستمتع بتكسير رواية الدولة، وهنحكي قصص الناس اللي مرت بالتجربة. الملف هيفضل مفتوح – بعد إذن الأصدقاء في المنصة – لكل اللي عاصر المشهد المرعب دا، علشان يتشجع ويواجه مخاوفه وذكرياته المؤلمة ويكتب ويعرّف الناس علي تفاصيل تجربته. دي أقل حاجة نرد بيها الاعتبار لمزيكا وجيل اتظلموا، ونفضح بيها أنصاف الموهوبين اللي بيضيعوا مستقبلنا كل يوم بخيبتهم التقيلة.
توكلنا على الله..
جزء من فهمنا للمشهد الإعلامي والصحفي المزري اليوم يجب أن يكون مبنيًا على معرفتنا بالماضي وأحداثه وخصوصا البدايات، فمن هم على الساحة ليسوا وليدي اليوم، بل أن بعضهم أظهر كرامات وميل مبكر للتطبيل والزمر وقلب الحقائق وليّ عنق الآيات منذ عقود، وأرشيف الصحف خير شاهد ودليل، دعونا نغطس في الزمان للوراء حوالي 20 سنة لنفهم ما كانت عليه الدنيا.
في إجازة نص السنة سنة 97 تليفون البيت رن، قريبنا لواء الشرطة بيكلم أمي وبيقولّها إن فيه حملة بكرة على العيال اللي مربية شعرها و لابسة أسود فى أسود، وخلّي ابنك يلمّ نفسه ويرمي كل الشرائط اللي عنده والبوسترات واكسريله الجيتار، العيال دي اتضح إنها بتعبد الشيطان.
في الثمانينيات ازدادت شعبية موسيقى الميتال أكثر من ذي قبل، وبدأت أصابع الاتهام تشير إلى كونه سببا في تزايد العنف بين الشباب، حتى أنه في التسعينيات تم اتهام موسيقى الميتال بأنها تدفع الشباب إلى الانتحار، ولم يتوقف الأمر عند التسعينيات، بل من فترة إلى أخرى يظهر اتهام جديد.
على مدار السنين اللى فاتت دى كلها كنا بنتقابل ونتكلم فى كل حاجة بلا استثناء؛ بس ماحدش فينا عمره فتح الموضوع ده مع رفاق المأساة. مش عارف إيه السبب؟ بس زي ما يكون بيننا كلنا اتفاق إننا مانفتحش الموضوع ده.
في السنين اللي بعد كده، لما طوّلت شعري جدا، وربيت دقن صغيرة، كان بيتقالي "يا عبد الشيطان" وبعدها بسمع صوت تفّة، ما كنتش بحسّ إني ضحية، بيبقى سخيف إنك تفكر كتير وانت ماشي في الشارع في القاهرة؛ الثقافة هنا فيها كبت وغسيل دماغ وسذاجة للأسف، فيه سور متكهرب حوالين الفكر والإبداع. جوهر الموسيقى هو الثورة، الثورة هي أداة الموسيقى القوية.
أفضت القضية إلى لا شئ كما هو متوقع، وعاد نفس الشباب مرة أخرى إلى ميدان التحرير فى 2011 ، وتحوَّل الميدان إلى "أوضة سامي" كبيرة، تستوعب عدد أكبر من المختلفين والشباب الناقم على هذا المجتمع.
في عام 1997، كنت ما زلت أدرس الأدب الإنجليزي بالجامعة، وبحسب ما كنا نسمع من الإعلام فالداخلية تحقق انتصارات باهرة على الإرهاب في الصعيد. لم يكن هناك إنترنت أو مدونات أو مدونون ينقلون لنا الأحداث من أرض الواقع بعد.
استجاب الإعلامي المصري باسم يوسف للدعوة التي أطلقها مساء أمس باسم حافظ، أحد الكتاب المشاركين في موقع المنصة، ودعا خلالها لنشر شهادات المعاصرين للقضية المعروفة إعلاميا ب"تنظيم عَبَدَة الشيطان"، بالتزامن مع الذكري التاسعة عشرة للقضية.
هو جزء من التعامل المتأخر مع صدمة وحزن 19 سنة يادوب كافيين للنضوج والخروج من الكبت والقهر. فكرة إن الواحد بيتعامل مع الموضوع كأنه الهولوكوست الشخصي بتاعه بقى دمها تقيل. من ناحية، الواحد عدّا بتجارب أكثر كابوسية - خصوصا من بداية الثورة في 2011، ومن ناحية تانية لو الواحد عايزها لطمية تاريخية، يبقى على الأقل يقدم سردية حقيقية تتحدى السرديات الأنتيكة اللي الملف دا بيواجهها.