"تحول لفظ الفلاحين كـ"إهانة" مع الفتح العربي، والامتيازات الضخمة اللي حظى بها الجيش العربي في مقابل أصحاب الأرض اللي اعتبرهم "العربان" فلاحين، ورأوا في اللفظ دونية وأعلوا كثيرا من أصلهم العربي، وبسبب مشاكل كثير حدثت بسبب فكرة النسب للبيت الشريف ولحرية البدوي في التنقل والفروسية، نشأ شكل من أشكال التراتبية، وساعدت القوانين الفوارس العرب امتلاك الفلاحين، وكان على كل بيت الصرف على الفارس إذا زاره وعلى حيواناته التي ياخدها معه في ترحاله، حتى إنهم ظلوا في فرض الجزية على المصريين ممن دخلوا الإسلام منذ بداية فتح مصر حتى لغاها عمرو بن العاص".
الاقتباس السابق من كتاب بنت شيخ العربان لميرال الطحاوي، الذي يمثل دراسة للتاريخ الثقافي والتراثي للعربان في مصر، وطرح الكتاب سؤال الهوية، ومحاولة فهمها، والتي تأخذنا حاليًا، لما يرتبط بقناعات كثيرة لدى أشخاص في مناطق مختلفة، ترفض وصف "الفلاحين".
ترى الكاتبة أنه في تلك الفترة ظهر البدو الذين يختلفون عن الفلاحين في سماتهم، وظل الفريقان لا يستطيعان الاندماج، فالبدوي لم ينشغل بالرزاعة، وعاش عصورًا يحتقرها ويعتبرها خيانة لبداوته، وفي المقابل تكاثرت الأعباء المالية على الفلاحين، ومنهم من اضطر لبيع ورهن أولاده، ومنهم من هجر الأراضي لعدم قدرته على دفع الالتزامات المادية، كما تسبب الصراع بين المماليك والعربان بالشعور بالكراهية من جانب الفلاح المصري للعربان، لفرضهم الإتاوات والسلب والنهب، واحتقار الفلاح.
وفي رمضان الماضي، عُرض مسلسل خلي بالك من زيزي، الذي تطرق في حلقاته للحديث عن مدينة المنصورة، ووصف أحد أبطال العمل سكانها بالفلاحين، ورفض سفر شقيقته للعيش مع زوجها بها، حتى لا تعيش في منزل يضم عائلة زوجها، وتمارس الأعمال المنزلية المعروفة في منازل الفلاحين، وقال لها "إنت بتربيتك وتعليمك تروحي تتجوزي واحد فلاح ياخدك المنصورة في بيت عيلة تخدمي أمه وإخواته"، كما صور المسلسل خلال مشاهده المدينة على أنها عبارة عن قطع من الأراضي الزراعية فقط، على عكس الواقع، بالإضافة لمشهد التنمر الشهير على طفلة اكتشف زملاؤها بالمدرسة أن اسمها عطيات وليس تيتو، فاعتبروها "يا فلاحة"، وهو ما يعكس استمرار تلك النظرة الدونية للمجتمع الزراعي حتى اليوم بين فئات مختلفة.
معركة التحضر وهيمنة المدينة
الربط بين "الفلاحة" وما هو متدني يأتي في إطار ما يسمى بـ "معركة التحضر"، كما يقول الباحث في علم الاجتماع الريفي، صقر النور، الذي يشير في حديثه للمنصة إلى التنميط أو التقليل من الفلاحين يعود للقرن السابع عشر، "حيث بدأ حينها الكتاب ومن يمكن أن يطلق عليهم النخبة رؤية الفلاحين بنظرة دونية، ففي هذا الوقت صدر كتاب هز القحوف ليوسف الشربيني في عصر الدولة العثمانية، الذي كان واحدًا من الطبقة الوسطى الحضرية، درس في الأزهر، ووالده كان أحد التجار في المدينة، فكتب صفحات الكتاب من رؤيته هو فقط التي يحب أن يرى من خلالها الفلاحين برؤية تاريخية هزلية، من خلال جزئين، الأول يشرح عن الفلاحين وفقرهم والحديث عن جهل شعراء الكفور والقرى، والجزء الثاني عبارة عن قصيدة منسوية لشاعر من الأرياف".
الأسماء والطعام كانا حاضرين في الكتاب، فالمؤلف يرى أن الفلاحين يسمون أبنائهم بأسماء غريبة، بعكس أسماء أهل المدن التي تعكس الوجاهة، وأيضًا شرح طرق طهي الأطعمة، والفرق في المذاق والوصفات بين أهل بلاد البحر وأهل الكفور والصعيد والأتراك ممن سكنوا مصر حينها، كما أن القرية في الكتاب لا تعرف المراحيض، فيكون مكان قضاء الحاجة وسط "الزريبة"، أو إلى جوار شجرة، أو في أي نُقرة، أو في منطقة حول القرية اعتاد الناس قضاء الحاجة فيها.
صقر النور يرى أن تلك الكتابات رسَّخت هيمنة المدينة في العقل الباطن، ليصبح كل ما هو ليس عاصمة؛ فلاحين، وهنا حدث مزج بين الريف والأقاليم، مشيرًا في حديثه للمنصة، إلى أن "الدرامًا أيضًا لعبت دورًا كبيرًا، والتي أخذت من الكتاب الذين نقلوا تجارب خاطئة عن الريف، فمنهم من نقل تجارب لم يعشها، وآخرون نقلوا تجارب غير حقيقة عن ريف لم يروه من قبل، لتصبح كلمة الفلاح مصطلحًا يطلق على كل من دون المستوى، أو شخصًا ملابسه متسخة، لا يعرف أداب الطعام أو الحديث التي تفرضها المدينة".
رفض الصعيد لمصطلح الفلاح يراه باحث علم الاجتماع الريفي أمرًا يعود لتاريخ العرب ممن سكنوا الصحراء، وكانوا حكامًا لفترات تاريخية، وساعدوا في تكوين نظرة دونية للفلاح أنه في مرتبة أقل، وعند امتهان العر ب الزراعة أطلقوا على أنفسهم مزارعين بدلًا من فلاحين تجنبًا لهذا المصطلح المرفوض حتى الآن، رغم تغيُّر حياة الفلاحين عن الماضي.
الوضع يختلف قليلًا في الريف كما يشرحه صقر، فوفقًا للإطار المرجعي لسكان الريف، وهو الإطار الذي يختلف عن مواطني الطبقة الوسطى، ما زال يتباهى الفلاحون في القرى بكونهم فلاحين، ولكن في المقابل ووفقًا لما تعامل معه من حالات في عدد من محافظات الدلتا، يشير إلى أنه رغم فخر الفلاحين باللقب، إلا أنهم لا يرغبون في توريثه للأبناء، لأنه أصبح مصطلحًا نقيضًا للتعليم "في أوراق كتير شوفتها لسكان من الدلتا مكتوب لهم في خانة المهنة في البطاقة "فلاح"، لأنهم غير متعلمين، فهي مبقتش مهنة على قدر ما بقت حاجة بتوصم صاحبها إنه جاهل".
هنا يعرِّف عالم الاجتماع الكندي، إرفينج جوفمان، الوصم في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، بأنه كل خاصية يمكن أن تنزع عن الفرد رمزية العادي. وتٌبعده عن معايير المجتمع الأخلاقية والجمالية وتمنحه في المقابل صفة الدوني، فالوصم الجغرافي نوع من العلاقة بين خاصية معينّة وصورة نمطية.
البداية من "الباشاوات"
الكاتب سعيد المصري الذي تحدث للمنصَّة، قال إن الأزمة بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عند وجود فئة من كبار الملاك، التي يمكن تلقيبها بـ"الباشاوات"، هم من استحوذوا على كافة الأراضي الزراعية في تلك الحقبة، وعمل تحت أيديهم فئة معدومة لا تملك أي مقومات، وهم الفلاحين في هذا الوقت، كانوا يصابون بالأمراض لقلة النظافة وعدم الاهتمام بالطعام، وعدم توافر مأوى مناسب لهم، لتصبح تلك الكلمة وصفا لحالة "البؤس"، التي عاشتها تلك الفئة في تلك الفترة، ومع قيام ثورة 23 يوليو منحت الفلاحين قدرا من الحقوق، لتتغير أحوالهم، ولكن تزال الكلمة تحمل نفس المعني.
وهنا يفسر صاحب كتاب ميراث الاستعلاء، أن هذا هو تأثير التراث الشعبي والثقافي، فربما تتغير الأحوال ولكن تظل الكلمة والمصلح بنفس التأثير، فمثلًا هناك واحدة من أشد النكات قسوة على المرأة السوداء تلك التي تقول "واحدة سمرة حملت عشر شهور... ليه؟ تسعة منهم حمل، وشهر تحميص"، وهذا مثال على التميز ضد فئة معينة مستمر حتى الوقت الحالي، كما رسمت السينما المصرية عبر تاريخها صورة ذهنية سلبية عن الأسود النوبي بأنه كسول وساذج وجاهل ومحدود القدرات الذهنية إلى حد الغباء، وله طريقة في الكلام تدعو للسخرية، وأن أغلب النوبيين يعملون في مِهن دنيا كخدم وطباخين وسفرجية وحراس وسائقين.
الأفلام كذلك كان لها دور في تنميط شخصية الفلاح ومن ثمَّ تحول الصفة إلى وصم، بحسب المصري "هناك مشهد مميز في فيلم الزوجة الثانية، حين حاول شكري سرحان وزوجته سعاد حسني الهرب، لم يحملا إلا حصيرة لتمثِّل متاعهم كله، وتعد إشارة لحياة الفلاحين في تلك الفترة، ومع الوقت تبدلت الأحوال، وبدأت الحياة الفلاح تتحسن حتى أصبحت مشابهة لحياة أهل المدن، لكن استخدام الكلمة لم يتغير، بل صار ممتدًا لكل ما دون المستوى، وهنا نشأ استخدام كلمة "فِلح"، لوصف الذوق غير المناسب في الملابس أو الأثاث غير المتحضر، لتصبح الكلمة بعيدة عن مكان أو فئة معينة، لتشمل كل من يراهم الشخص في مستوى أقل".
"استمرار صور التمييز الثقافي في المجتمعات العربية يستمد خصوصيته من إخفاق مشروع الدولة الأمة في تحقيق الاندماج الاجتماعي والثقافي لجميع الجماعات والفئات الاجتماعية، ومن ثم إخفاق المؤسسات الثقافية في ضمان الحقوق الثقافية لجميع الجماعات والفئات بلا استثناء، بحسب مضمون الخطاب الحقوقي في المواثيق الدولية التي تقرها الأمم المتحدة ضد كل صور التمييز"، حسب المصري في كتابه.
يرى المصري أن الناس مدفوعون في الغالب إلى تدعيم تصور إيجابي للذات عن أنفسهم، وأن هذا التصور الذاتي الإيجابي نابع من عملية التماهي مع جماعة، وأن الناس يؤسسون هويات اجتماعية عن طريق المقارنة التفضيلية للجماعة الداخلية التي ينتمون إليها مقابل الجماعة الخارجية المختلفة عنهم؛ فلو كانت الاختلافات تخص الجماعات التي ينتمون إليها فإنهم يقدرونها، أما إذا كانت تتعلق بجماعات أخرى خارجية مختلفة عنهم فإنهم ينتقصون منها. ولهذا يمكن لعملية المقارنة الاجتماعية الداخلية أن تحرك الصراع بين الجماعات، حتى في ظل غياب خصومة واضحة أو تنافس فيما بينها.
وأن هناك عوامل أخرى تساعد على قبول وتبني كثير من الناس للصور النمطية، أهمها أنهم عندما يواجهون وضعًا متناقضًا أو مريبًا أو خسارة أو تغيرًا محيرًا يصبحون أكثر عرضة للتأثر باستخدام الإعلام للصور النمطية. ففي مثل هذه الظروف يمكن لمجموعة من الصور النمطية المحفوظة أن تعزز عدم التسامح بشأن الاختلاف الاجتماعي والثقافي.
لفظ بغير معناه
المصري يؤكد، أن خريطة التمييز الثقافي في المجتمع المصري موازية لخريطة التباينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة ومرتبطة بها أشد الارتباط، فتتمثل العنصرية من الناحية الثقافية في نسق من المعتقدات يعتمد على بنية اجتماعية قائمة على ثنائية التفوق والخضوع الثقافي، وهو ما يعني تفوق جماعة بثقافتها وقيمها وهيمنتها على سائر الجماعات الأخرى، في مقابل خضوع بقية الجماعات، خاصة الأقليات، وقبولها لهذه الهيمنة عبر مجموعة من الممارسات والعادات والتقاليد والأعراف العاكسة لهذا النسق الاعتقادي، ويصاحب العنصرية الثقافية صور من العداء ومشاعر الاستياء المتبادلة بين الجماعات المختلفة، ومن ثم فإن عنصرية الجماعة المتفوقة تُقابلها عنصريات أخرى لدى الجماعات الخاضعة.
الكاتب سعيد المصري يؤكد أن المسألة بها جانب لغوي مرتبط باستخدام اللفظ بغير معناه، وكيف تحول مصطلح توصيفي لا يحمل في حد ذاته إهانة مثل كلمة "الفلاحين" إلى مصطلح يدل على الإهانة، كما هو الحال مع كلمة "النصارى"، والتي تحولت لمصطلح مسيئ بسبب سياقات اجتماعية معينة، فيوصف المسيحيين المصريين كغيرهم من الديانات الأخرى، بأوصاف لا تخلو من التمييز؛ حيث يطلق عليهم في الثقافة الشعبية "النصارى"، وما يرتبط به من نظرة اذراء لهم.
ازدراء العمل اليدوي
أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، الدكتور سعيد صادق، يرى أن ثقافات العالم جميعها تنظر نظرة دونية لمن يعمل بيده "العامل أو الفلاح يصور على أنه شخص حياته بدائية، لا يحظي بقدر من النظافة أو العلم"، موضحًا أن السبب في تلك النظرة يعود للأفلام القديمة التي رسخت تلك النظرة، مثل أفلام الحرام وأدهم الشرقاوي، التي ظهرت بها "الباشا صاحب العزبة"، والفلاحين في المرتبة الأقل.
ورغم تغير حياة الفلاح عن الماضي، فإن النظرة لم تتغير وفقًا لصادق، الذي قال في حديثه للمنصة "الفلاحين دلوقتي في القرى بقى عندهم تكييف وإنترنت، وبيوت مصممة على أحدث طراز، وزارعة مميكنة، مع ذلك النظرة ليهم متغيرتش كتير"، وفي المقابل يرى أن اللفظ لا يطلق ليس على سكان الريف وحدهم، بل يعمِّمه بعض مستخدميه على كل من يعتبرونه أدنى "بتاكلي بطريقة وحشة هيقولوا عليكي فلاحة، أو هدومك أو لبسك مش متفق مع اللي حواليكي فهيقولوا فلاحة، فالقصة مبقتش وصف لسكان منطقة واحدة"، وتابع "مسرحية سيدتي الجميلة مثلا شويكار مكانتش فلاحة بس كانت من طبقة فقيرة، وهنا طلعت للمشاهد على إنها فلاحة علشان مش بتعرف تتكلم أو تلبس أو تاكل، في الإمارات بيبصوا للبدو إنهم طبقة أقل، ونفس الوضع هنا للبدو، دايمًا الصورة اللي بتيجي في الأذهان أنهم على جِمال مع إنهم بيركبوا عربيات تويوتا حاليًا".
تلك النظرة لا تقتصر على مصر، كما يؤكد صادق، بل هي نظرة عالمية "في أمريكا أصحاب الرقاب الحمراء، علشان قعدوا في الشمس بيتبص لهم بنظرة أقل، وفي المنطقة العربية إيران مثلًا بتشوف الفلاح إنه مش ذكي"، ويتفق صادق مع صقر النور في أنه هناك فجوة بين الدراما وتلك النظرة التي لم تتغير في الوقت الحالي، فما زالت الدراما والمسلسلات تصور الفلاح على أنه شخص في مرتبة أقل، فالدراما تنقل صورة الفلاح التي كان عليها في الثلاثينيات والأربعينيات، والتي تغيرت حاليًا.