دعني أسرد لك قصتي الشخصية جدًا في 3 لقطات:
مايو 2014
بينما أواجه لجنة التحكيم لمناقشة مشروع تخرجي في كلية الإعلام، تزاحمت في رأسي خواطر متفرقة عن حياتي، كنت في هذا الموقف أسترجع كل ما قادني إليه، منذ اتخذت قراري بأن أكون صحفية، وحتى تلك اللحظة التي عليّ فيها أن أرتب ما سأقول للجنة التحكيم.
كيف يمكن لساعة من البث التليفزيوني أو صفحة في جريدة أن يهزا أركان العالم؟. كان هذا السؤال لغزًا يدفعني صوب الصحافة، تبهرني القوة التي يحوزها شخص قادر على البحث وربط المعلومات ونسجها بشكل مبهر على الشاشة وصفحات الجرائد. وقتها كنت طالبة بالثانوية العامة، تلعب مع معادلات الفيزياء والرياضيات، وينتظر الجميع اللحظة التي ستطأ قدماها كلية الطب. لكن ألغاز الصحافة وما تستطيع أن تغيّره في حياة الناس؛ حولت انتباهي عن كل شيء سوى الإعلام. كان قراري: هذا ما أريد لنفسي!.
مازلت أتذكر تدافع تلك الخواطر يوم قررت أن أكون صحفية، شاركت أصدقائي إياها على سلّم كلية الإعلام جامعة القاهرة في حديثنا عن أحلامنا، وفي معرض نقدنا اللاذع لما نراه من المذيعين والصحفيين وما نقرأه في المقالات، كنّا متشابهين، رغم اختلاف أحلامنا، في إيماننا القاطع بأننا طبعًا لن نكون كهؤلاء، وأن لنا حرية الاختيار وعلى الطريق الصحيح: سندرس علوم الإعلام ونخرج لنطبق ما تعلّمناه.
4 سنوات مرّت من التعليم والتدريب و"التنطيط" من مكان لمكان، ومن تجربة لتجربة. يغلّق باب فنطرق آخر ولا نسنتسلم. أتذكرها وأنا، في هذا الوقت من حياتي، طالبة بكالوريوس وصحفية أنتمي لموقع معروف في قسم تحقيقات وليد، تحلم رئيسته بصناعة صحافة تحترم عقل من يقرأ، وتجيبه عن الأسئلة الحقيقية التي تدور في رأسه عن الأحداث حوله.
يحفّظوننا في الكلية، قسم الإذاعة والتليفزيون، أن السؤال وجب أن يكون واضحًا ومحددًا، لا إيحائيًا أو مركبًا، يمطروننا بمواصفات أخرى لصياغة الأسئلة لا أتذكر نصفها. يغفلون تعليمنا تفصيلة صغيرة: ماهو السؤال؟ كيف أجد طريقي بين أطنان المعلومات؟ وأن ألتقط ما يساعدني على صياغة سؤال محدد ودقيق أوجهه للمصدر المناسب كي تتحقق المواجهة أو الاستيضاح. هذه أشياء لو تعلمتها، لن أحتاج، في اعتقادي، أن أعرف أن السؤال لا يجب أن يكون إيحائيًا، لن احتاج أسئلة إيحائية من الأصل.
تمر الأيام بسرعة فنجد أنفسنا أمام مشروع وأننا على أعتاب التخرج. نختار أن نحاول صناعة تحقيق تليفزيوني، وأن يكون موضوعه عن دور الخطاب الإعلامي في الاستقطاب الذي عانى ويعاني منه المجتمع في مصر بسبب الاختلافات السياسية. ومع كل خطوة في المشروع الذي نختبر فيه قدرتنا على تطبيق ما تعلمناه، نكتشف أننا لم نتعلم الشيء الكثير.
ندرك أن ما نعرفه عن التحقيقات التليفزيونية لا يتخطى كونه قشورًا، لم يكن من بينها "كيف تصنع تحقيقًا تليفزيونيّا، إن أردت". نتعثّر ونتوه، لكننا نحارب عثراتنا. يخرج المشروع في النهاية تحت اسم "شكرًا لحسن تعاونكم".. مشروع تقابله لجنة التحكيم يوم 22 مايو 2014 بنصائح شديدة اللهجة عن أهمية عدم تجرّؤنا على انتقاد قامات الإعلام في الصحف القومية وماسبيرو، خاصة أننا في وقت حرج نحارب فيه الإرهاب. لم يناقشونا كثيرًا في التحقيق وأسلوبنا في التنفيذ؛ تجرؤنا على انتقادهم كان أهم!.
إبريل 2015
أمضينا سنة في قسم التحقيقات الوليد بالموقع الجديد، نحاول أن نصنع مواضيع تشبه ما حلمنا به، تعاملنا الإدارة كما يعامل بائع الخضار زبائنه: بالكليو. نحاول الوصول بإنتاجنا إلى قدر يريحهم ويشبه أحلامنا، لكنهم لا يكتفون من الجداول المملوءة بالمنشور على موقعهم من هراء لا يفيد ولا يضيف لأحد، ولا يصنع مضمونًا مختلفًا خاصّا بنا وبالمكان. نحاول أن نترك بصمتنا؛ لكن قلة الأدوات وضغط المطالب اليومية يجعل البصمة قابلة للمحو والنسيان.
تعلو أصواتنا رافضين، فيردوا بتغيير رئيس القسم. نمضي مع الرئيس الجديد في نفس الطريق، فيردون بحل القسم. قالوا إنهم لا يحتاجون للتحقيقات، وأن ما نحاول عمله يستطيع المحرر المسؤول عن أي ملف صنعه في تخصصه. يتم نقلنا، دون رغبة منّا، إلى القسم السياسي، وتزداد التعليمات الخانقة: تقريران في اليوم، ليس هناك مساحة للعمل على موضوع أكثر من ثلاثة أيام، كشوف إنتاجكم أساس لتسلم رواتبكم، نريد إنتاجًا أكثر.. إلخ. لا وقت للتفكير في الأسئلة إذا بدأ التفكير في كشف الإنتاج.
أقع في مأزق شخصي بين ما يريده عملي ومصدر دخلي، وبين ما أريده وما التزم به أمام نفسي، أتذكر لقطتين في حياتي كمتدربة: الأولى في بوابة إلكترونية كمحررة ثقافية، أعمل على الملف مع زميلتين لأربعة أشهر، ثم وحيدة تقريبًا لخمسة أخرى، أنتج الكثير من الأخبار والفيتشرات. عملت كآلة كل يوم دون توقف حتى تعطّلت قدرتي على العمل وانطفأ حماسي. أتذكر عندما كنت أتصفح نتاج عملي هناك فلم أجد موضوعًا مميزًا أعتز به، لم أكن أجد وقتًا لذلك، الوقت كله كان لخدمة تضخم كشف الإنتاج.
أتذكر أيضَا يوم انضمامي لقسم الأخبار بملحق أسبوعي لجريدة كبيرة، لم يكتب له الصدور، أتذكر كل قصة عملت عليها هناك، أضعها كوسام على صدري، وأحكي عنها رغم عدم نشر أي منها. فمع كل حرف أكتبه هناك كنت أتعلّم دروسًا ما زالت في رأسي إلى الآن. هناك صنعت أول تحقيق في حياتي، وتيقّنت أن بإمكاني أن أكون صحفية كما أحلم، تلك كانت جنتي التي لم تًمض على كوكب الأرض سوى ثلاثة أشهر انتهى بعدها المشروع بسبب مشاكل المؤسسة المالية.
تتصارع الأفكار في رأسي، ينصحني الأصدقاء بأن أربط الحمار في المكان الذي يبغيه صاحبه، لكنّي لست حَمَّارة وعملي ليس الاهتمام بالحيوانات. تسحبني أحلامي إليها، بعيدًا عن كل المغريات الأخرى. أفقد الشغف بالعمل، وأفقد إحساسي بأني أنجز شيئًا ذا قيمة، فأستقيل.
يونيو 2015
أحضر ورشة للصحفيين المبتدئين، أعمارنا المهنية تتراوح بين السنة والثلاث سنوات. يحكي الزملاء كلٍ عن ظروف عمله، عن الضغط الذي يواجهه والمشاكل التي يقابلها، يخبرنا المدرب أننا لسنا مندوبي علاقات عامة لأحد المصادر، ولا يجب علينا نشر البيانات والمعلومات على عواهنها دون بحث وتدقيق وتساؤلات. يعترض أغلبنا على صعوبة التطبيق، متى نفعل كل هذا؟، هل تعلم كم خبر علي تسليمه في اليوم؟، لن يسامحوني في مكان عملي لو تأخرنا في نشر البيانات عن منافسينا. استفهامات واعتراضات يضعها الصحفيون كعقبات أمام تنفيذ تعليمات المدرب.
نتحدث معًا في أوقات الاستراحة، أحلامنا واحدة، نحلم بمواضيع تصنع تغييرًا وتجعلنا بين مصاف الأسماء التي يشار إليها بالاحترام في عالم الصحافة، نجوب الشوارع كل يوم بحثًا عن الأفكار والقصص، نكتب ونكتب ونكتب، نقبل على عملنا دون إعارة اهتمام للمخاطر المحيطة بنا من كل جانب، فهذا مواطن لا يعجبه المؤسسة التي تنتمي لها فيجد أن من حقه الاعتداء عليك أو منعك من أداء واجبك، وهذا قانون يرى أنك منتحل لصفة صحفي لأنك لا تحمل عضوية نقابة الصحفيين، وهذه مؤسسة تستخدم حلم التعيين ثم كارنيه النقابة لتضغط عليك لتقبل عملاً بأجر أقل، ومهام أكبر وأكثر من طاقتك أحيانًا كثيرة، يضيع الحلم الأول في وسط كل تلك العقبات فلا تدري ماذا تفعل وأين هي أولوياتك.
يقيم المدرب نموذجًا لمؤتمر صحفي يعلن هو من خلاله بيانًا علينا أن نتعامل معه كصحفيين. نمطره جميعنا بأسئلة مختلفة ليس من بينها الأسئلة الصحيحة. ينبهنا المدرب لفشلنا في وضع السؤال، وأسال أنا نفسي: ماذا يفعل جميعنا خلال سنوات نمارس فيها هذه المهنة وسنوات قبلها في الدراسة، نسهر الليالي ونغيب عن منازلنا ونهمل حيواتنا الاجتماعية، نفترش الطريق ويغرقنا التعب، إذا لم نكن قادرين على وضع أيدينا على سؤال صحيح نسأله لمصدر يلقي بيانًا في مؤتمر صحفي؟