أسمع أحاديث كثيرة خلال الأيام الماضية داخل أروقة مستشفى العباسية للصحة النفسية، وأنا أحد أعضاء مجلس إدارته، عن بدء مفاوضات مع وزارة الإنتاج الحربي لتأجير مساحة من سور المستشفى لمدة 25 سنة بنظام حق الانتفاع، تقوم خلالها بتسويق هذه المساحات كمحال وتوكيلات تجارية.
ثلاثة موظفين كبار في المستشفى أخبروني كل على حدة، بأن هذه المساحة التي سيتم استقطاعها لهذا المشروع، تقع بحدود المستشفى على شارع امتداد رمسيس المواجه لمستشفى حميات العباسية و نقابة التجاريين، بطول 300 متر على واجهة الشارع وبعمق 25 مترًا داخل حرم المستشفى بإجمالي 7500 متر مربع، وذلك في مقابل حصول مستشفى العباسية على نسبة 40% من صافي أرباح العائد من تأجير المحال.
وبحسب هؤلاء الثلاثة، فإن المشروع وصيغة التعاقد عُرضَا على إدارة الأمانة العامة للصحة النفسية التي يتبعها المستشفى، والتي وافقت عليه أمينتها العامة ورفعت الأمر بدورها إلى وزيرة الصحة للموافقة، وذلك حتى يتسنى لإدارة المستشفى توقيع التعاقد مع وزارة الإنتاج الحربي و البدء في المشروع المُشار إليه.
هذه الأخبار التي تتردد في أروقة المستشفى، تبدو متسقة مع ما شهدته بنفسي قبل خمسة أشهر.
سبتمبر 2020
بعد عدة أشهر من تولي مدير عام جديد لمستشفى العباسية للصحة النفسية، تلقيت دعوة لحضور أول اجتماع لمجلس الإدارة بتشكيله الجديد، بصفتي عضوًا فيه.
كان الاجتماع يوم الثلاثاء الموافق 15 سبتمبر/ أيلول الماضي وحضرته مع جميع أعضاء مجلس الإدارة العشرة وبينهم مدير عام المستشفى ونائبيه، باستثناء الأستاذة نشوى الديب عضوة مجلس النواب. وحضر الاجتماع أيضًا مراقب مالي من وزارة المالية بصفة ضيف.
كان البند الثاني في جدول الأعمال "فتح عيون تجارية بسور المستشفى بشارع امتداد رمسيس"، هو السبب الرئيسي وراء حرصي على الحضور. أبديت رفضي التام لمبدأ تأجير أو استخدام أية مساحات من أراضي المستشفى لأغراض تجارية، وأوضحت للحضور أن السعي نحو تنمية موارد المستشفيات لتحسين الخدمة المقدمة للمرضى ودخل العاملين، لا بد أن يكون في إطار الخدمات العلاجية والتأهيلية للمرضى، كاستحداث خدمات طبية جديدة مثل قسم داخلي للطوارئ والأطفال والمراهقين ومركز مستقل لعلاج الإدمان، وتطوير مصنع الملابس والمفروشات الذي كان يساعد على تأهيل المرضى المستقرين ويشكل أيضًا مصدر دخل لهم، وإعادة تشغيله، والتعاقد مع الشركات و البنوك لدخول مرضاهم بالأقسام الاقتصادية، والاعتناء بالأشجار المثمرة بالمستشفى، وغيرها من الأمثلة.
أثبتُّ اعتراضي على هذا البند مختتمًا بسؤال استنكاري "هل تقوم وزارة المالية بفتح عيون تجارية بسور الوزارة على إمتداد رمسيس لتنمية مواردها؟".
لاحقًا، جاءت صياغة هذا البند في محضر الاجتماع الرسمي كالتالي "تم عرض موضوع فتح عيون تجارية بسور المستشفى بامتداد رمسيس، فأنه تم التصويت بإجماع مجلس الإدارة على طرح مناقصة تكون أحد المتقدمين لها وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع ووزارة الداخلية مع تسجيل اعتراض السيد الدكتور/ أحمد حسين عبد السلام".
محضر اجتماع مجلس إدارة مستشفى العباسية للصحة النفسية يوم 15 سبتمبر 2020
طبقًا للوائح المعمول بها، يتم عرض محضر إجتماع مجلس إدارة المستشفى على الأمانة العامة للصحة النفسية للموافقة أو الرفض، قبل اعتماد القرار من وزارة الصحة.
كنت أثق أن هذا البند سيتم رفضه من الإدارة العليا للمستشفى وهي أمانة الصحة النفسية وكذلك ديوان وزارة الصحة وكان لهذه الثقة ما يبررها من خبرات مسؤولي الصحة النفسية و وزارة الصحة من أزمات سابقة سببتها أفكار مشابهة بتأجير أو استقطاع أراضٍ من مستشفى العباسية لأغراض تجارية أو لصالح جهات أخرى.
تكررت تلك الأزمات مع حكومات مختلفة وانتهت أغلبها إلى تأكيد مبدأ عدم استغلال أرض المستشفى سوى في أغراض الخدمات الطبية.
من مسؤول إلى آخر: لا تعليق
اتصلت هاتفيًا باللواء وائل الساعي مساعد وزير الصحة للشؤون المالية و الإدارية وسألته عن تلك الإجراءات، وهل تم عرضها على وزارة الصحة من قِبَل الأمانة العامة للصحة النفسية، فأجاب بعدم علمه بالموضوع ووجهني للتواصل مع الدكتورة منن عبد المقصود أمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية، والمتحدث الرسمي لوزارة الصحة.
تواصلت بالفعل مع الدكتورة منن وطلبت تعليقها على تأجير جزء من المستشفى لوزارة الإنتاج الحربي، وسألتها عن قانونية استخدام الأماكن المخصصة لوزارة الصحة في غير الأغراض العلاجية، وعما إذا كان سيتم تطبيق هذه الإجراءات أو السماح بها في مختلف مستشفيات الصحة النفسية بمحافظات الجمهورية المختلفة، إلا أنها في نهاية الأسئلة وجهتني للتواصل مع إدارة الإعلام في وزارة الصحة.
وبتوجيه نفس الاستفسارات إلى الدكتور حاتم ناجي حمادة مدير عام مستشفى العباسية للصحة النفسية، إضافة إلى سؤالي عن السبب وراء قيام إدارة المستشفى بتلك الإجراءات، جاء الرد مشابهًا؛ "برجاء التواصل بإدارة الاعلام بالأمانة العامة للصحة النفسية حيث أنها الجهة المنوطه بالتصريحات الرسمية". و بالفعل تواصلت هاتفيًا مع الأستاذة منى تمام مدير إدارة الإعلام و العلاقات العامة بأمانة الصحة النفسية التي أكدت أنها لا تستطيع الرد إلا بتصريح من المتحدث الرسمي لوزارة الصحة طبقًا لتعليمات وزيرة الصحة، حسب قولها.
حاولت التواصل هاتفيًا مع المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة خالد مجاهد على هاتفه وتركت له عدة رسائل، ولم أتلقَّ ردًا.
البرلمانية نشوى الديب عضو مجلس إدارة المستشفى التي لم تحضر اجتماع سبتمبر، أكدت أنها لم تطلع على تفاصيل هذا المقترح وقالت "أنا لم أُدعَ لحضور اجتماع مجلس الإدارة من مدير المستشفى، وذهبت مرتين للمستشفى لأقابله لكني لم أجده، ومش عارفة أتواصل معاه، وهذا يعتبر تقصير من إدارة المستشفى".
ولكن الديب في الوقت نفسه لا تمانع مبدئيًا فكرة استغلال منشآت المستشفى في أنشطة غير طبية تدر ربحًا إذ قالت لي في مكالمة هاتفية أخبرتها مسبقًا أن محتواها سيُنشر في موقع المنصة إن "هذه الرؤية طرحناها أثناء فترة الدكتور مصطفى شحاتة، المدير السابق لمستشفى العباسية للصحة النفسية، وإزاي ندخّل موارد للمستشفى في ظل ضعف مخصصات الوزارة لقطاع الصحة النفسية".
وأضافت لي "المستشفى في موقع استراتيجي، موقع رائع جدًا، والمشاهدة فيه عالية، والحاجة التانية إن أرض المستشفى مترامية الأطراف وجزء منها يطل على شوارع رئيسية ومش هيأثر على عمل المستشفى خالص، بالعكس هيعمل دخل كويس، حتى إحنا فكرنا في الإعلانات"، موضحة أن "اقترحنا إن حوائط السور يتعمل عليها إعلانات، فقالوا بدل الإعلانات ممكن ناخد مساحات صغيرة، زي المساحات التي تم استقطاعها من نوادي الزمالك و الترسانة. المحلات دي مش واخدة قوي من مساحة النوادي، لكنها في نفس الوقت بتعمل دخل كويس للمكان. ده كان التفكير من أيام مدير العباسية السابق و كنا طرحناه في مجلس الإدارة واتوافق عليه".
هذه شهادة يكتبها الدكتور أحمد حسين عضو مجلس إدارة مستشفى العباسية للأمراض النفسية، والعضو السابق بمجلس نقابة أطباء مصر. وقد وثقتها المنصة واطلعت على جميع الوثائق المشار إليها وتحققت من هوية المصادر المُجهلة التي فضلت حجب أسمائها.