يصعب أن يصدق المرء أن عشر سنوات مرت على ثورة 25 يناير. أحيانًا تبدو السنوات العشر كما لو كانت عشرة أشهر، وأحيانا تبدو كما لو كانت مائة عام. هل هذا شعوري وحدي؟
عندما أتذكر الأحداث تبدو لي قريبة جدًا، ولا شيء يضاهي حضورها، ولكن حين أنظر للحاضر تبدو الثورة كما لو كانت ذكرى بعيدة، من زمن آخر، وأحيانًا أتخيل أنها شبح شخص ميت. الحسيني أبو ضيف مثلًا، الذي سقط قتيلًا بجواري أثناء مظاهرات 2012 ضد حكم الإخوان، ولم يعد أحد يتذكره لا هو، ولا بقية شهداء الثورة، باستثناء أن هناك محطة للمترو اسمها محطة "الشهداء".
أدرك أن أشياء كثيرةً جدًا تغيرت بعد عشر سنوات على نهاية عصر مبارك، ولكن حين أسمع من يترحمون على عصر مبارك، وهم كثر، أدرك أن شيئًا لم يتغير بعد، وأن نظامه خلف ميراثًا هائلًا من السلبيات الجماعية والفردية التي تحولت إلى ما يشبه الجينات الوراثية.
حين تنظر إلى حال السينما المصرية من خلال بعض الأفلام والأسماء الجديدة، ومعظمها أعمال "مستقلة"، يبدو أحيانًا أن سينما ما قبل 2011، أيام عادل إمام ومحمد سعد وهنيدي وحلمي والسقا، وحتى فيلمي هي فوضى وحين ميسرة، مر عليها عقود، وأنها ولَّت إلى غير رجعة. ولكن حين تتأمل الأفيشات الملصقة الآن على مداخل قاعات العرض، أو الأفلام التي تعرضها القنوات الفضائية، ستشعر أن شيئًا لم يتغير بعد، ولو شاهدت التليفزيون المصري ربما تشعر أن الدنيا ما هي إلا "ماسبيرو زمان".
بشكل عام يمكن القول إن ما لحق بالمجتمع المصري بعد 2011 طال السينما أيضًا، فصناعة السينما تختنق والإنتاج السينمائي يتراجع، والوجوه التي كانت تسيطر على مقدرات الصناعة منذ عشر سنوات هي تقريبًا الموجودة الآن، مع تغيير بعض الأسماء، ومع مزيد من الاحتكار ومزيد من الرقابة والتوجيه.
انخفاض الانتاج وانكماش سوق التوزيع له علاقة بالأوضاع الاقتصادية العامة، وبتراجع صناعة السينما عمومًا، محليًا وعالميًا، لأسباب معروفة، مثل انتشار الوسائط البديلة والمنصات والقرصنة وانخفاض القدرة الشرائية لدى الطبقة الوسطى، التي تشكل عادة النسبة الأكبر من جمهور السينما. ولكن مستوى ما يتم إنتاجه حاليًا ليس له سوى علاقة ضعيفة بالأسباب السابقة، وإنما بما حدث، ويحدث، عقب ثورة يناير، من انفراجة ديموقراطية ملحوظة، أعقبها تراجع كبير في حرية التعبير، وحالة من الارتباك والإحباط مما آلت إليه الأوضاع العامة.
مباشر من الثورة
يقال إن 25 يناير هي أول ثورة شعبية تبث مباشرة عبر الفضائيات والإنترنت من خلال تقارير القنوات الفضائية التي نقلت الأحداث على الهواء، ومن خلال الكاميرات الرقمية الصغيرة وكاميرات الهواتف التي كانت تملأ الميادين.
ويبدو أن هذا الحضور المكثف للصور، من بين أسباب أخرى، شجع الكثير من السينمائيين، خاصة الشباب، على المشاركة في الثورة، كفاعلين ومراقبين بكاميراتهم، وساهمت هذه الكاميرات في توثيق معظم الأحداث، وبعض هذه المواد وجدت طريقها فيما بعد في شكل أفلام وثائقية، بينما بقيت النسبة الهائلة الأكبر منسية ومهملة حتى الآن، إذ لا يوجد كيان رسمي يهتم بحفظها وأرشفتها باعتبارها تاريخ حي لحدث مهم، وإن كان هناك بعض المجهودات الفردية/ الجماعية للأرشفة.
خلال العام الأول بعد 2011 حدثت طفرة في حرية التعبير والوعي الشعبي وحركة المثقفين والناشطين نحو تغيير مجتمعهم، وخلال هذه الفترة الأولى أنتجت السينما المصرية عددًا من الأفلام التي تتناول ما حدث من منظور مؤيد للثورة، غير أن معظم هذه الأعمال تنتمي للنوعين الوثائقي والروائي القصير. والأفلام الوثائقية تحديدًا شهدت ازدهارًا غير مسبوق، وأحد أسباب ذلك شروع شبكة قنوات الجزيرة في إنتاج وشراء ودعم الكثير منها، ورغم أن الجزيرة كانت لها أجندتها وأسبابها الخاصة من وراء دعم الثورة، إلا أن الأفلام الأولى التي أنتجتها كانت تنتهج الحياد، وتحرص في البداية على أن تمثل كل قوى الثورة في أفلامها، ولكن بعد قيام جماعة الإخوان بخطف الثورة ومحاولة الانفراد بالحكم، أظهرت أفلام الجزيرة اللاحقة انحيازًا واضحًا ضد القوى العلمانية واليسارية بجانب كراهيتها القديمة لنظام مبارك ومؤسساته، وللجيش الذي تولى الحكم عقب مظاهرات 30 يونيو.
أنتجت الجزيرة ومولت عشرات الأفلام التي ترصد أحداث الثورة والأحداث التي أدت إليها، ولا يوجد أي كيان حكومي أو خاص آخر أنتج مثل هذا العدد أو حتى رقمًا قريبًا منه. قناة بي بي سي أنتجت فيلمًا، والعربية فيلمًا آخر والتليفزيون المصري لم ينتج سوى فيلم واحد عرض مرة واحدة ثم مُنع عرضه، وكل من المصري اليوم والشروق أنتجا فيلمين.
في المقابل فإن أهم الأفلام الوثائقية التي صنعت عن الثورة لمخرجين مصريين أو أجانب معظمها مستقلة أو من إنتاج شركات مستقلة، منها على سبيل المثال الطيب والشرس والسياسي، الذي يتكون من ثلاثة أفلام لثلاث مخرجين، ونصف ثورة لعمر الشرقاوي وكريم الحكيم، ومولود في 25 يناير لأحمد رشوان وكراسي جلد لعماد إرنست والعودة للميدان لبيتر لوم وميدان التحرير لجيهان نجيم، الذي رشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي.
الأفلام الروائية القصيرة التي تناولت الثورة معظمها مستقلة قليلة التكلفة بمبادرات ذاتية، أو ضمن مشروع لعمل عدة أفلام قصيرة ودمجها معًا، مثل فيلم 18 يوم الذي يتكون من عشرة أفلام لعشرة مخرجين. أما الأفلام الروائية الطويلة فأكثر قليلا، منها الشتا اللي فات لإبراهيم البطوط، بعد الموقعة ليسري نصر الله ونوارة لهالة خليل.
مسح الثورة
لن أستطرد أكثر في الكتابة عن هذه الأعمال، فسبق أن كتبت عنها متفرقة أو مجمعة* ولكنني سأتوقف قليلًا عند آخر فيلمين تناولا أحداث الثورة مباشرة وهما اشتباك إخراج محمد دياب، 2016، وعيار ناري إخراج كريم الشناوي، 2018.
الفارق بين الفيلمين يعكس محاولة طمس ملامح الثورة المستمرة طوال الوقت، واعتبارها حدثًا سلبيًا، فمرة توصف بـ"النكسة" ومرة توصف بـ"الفوضى" ومرات يتم تجاهلها وتناسيها كأنها كانت جريمة أو فعلًا قبيحًا على قارعة الطريق. وتشارك في محاولات الطمس هذه تيارات شتى، على رأسها بالطبع المتضررين منها من المنتفعين والمتربحين في عهد مبارك من رجال أعمال وسياسيين وإعلاميين وفنانين وغيرهم، ومن ممثلين لنظام مبارك من سياسيين وعالمين في الداخلية والأجهزة الأمنية الذين لا ينسون قطعًا أنهم كانوا الخصم الأول للثورة، وفي خضم صب لعناتهم على الثورة وتمجيدهم لعصر 30 سنة من الفساد والإفساد، ينسى كل هؤلاء أنهم بذلك يسيئون للنظام الحالي، أو يعتقدون أنه امتداد لحكم مبارك، وهو ليس كذلك.
اشتباك لا يتعرض لأحداث 2011، وإنما يعرض بعضًا من أحداث 30 يونيو 2013، والمظاهرات التي اجتاحت البلاد ضد حكم الإخوان، ثم مظاهرات الإخوان ضد عزل محمد مرسي، ومن خلال حيلة درامية تقليدية يضع محمد دياب ممثلي التيارات المتعارضة داخل عربة سجن، حيث يواصلون تبادل الاتهامات والتراشق فيما بينهم.
الفيلم الذي اختير للعرض في قسم نظرة ما في مهرجان كان أثار ضجة في مصر قبل حتى أن يُعرض، حيث اتهمه بعض الإعلاميين بمعاداة الداخلية وتأييد الإخوان، والحقيقة أنه ليس كذلك، إن لم يكن العكس، وقد حاول مخرجه ومؤلفه أن يكون محايدًا و"توفيقيًا" وأن يركز على الحالة العامة التي يؤدي إليها الشقاق وعدم التوافق الديموقراطي.
عيار ناري يعبر بوضوح عن رأي وزارة الداخلية في الثورة: الذين يشاركون بالتظاهرات مجموعة من الهمج، و"الشهيد" الذي يسقط في بداية الفيلم وتحصل أسرته على تعويضات من الدولة يتبين في النهاية أنه قتل على يد أخيه عقب مشاجرة عائلية.
هذه هي السردية التي يتم ترويجها حاليًا ضمن سرديات أخرى هدفها النيل من 25 يناير، منها اعتبار كل ما حدث منذ استفتاء مارس 2011 هو نتيجة ارتكاب خطأ أو جريمة الثورة وليس نتيجة الصراع على السلطة الذي حدث بعدها.
من ناحية الكم فإن عدد الأفلام التي تناولت الحراك السياسي الكبير الذي هز المجتمعات العربية في 2011 لا يزال قليلًا جدًا، ولا يفي بحجم هذا الحراك. هذا القصور يمكن إرجاعه جزئيًا إلى مستوى الوعي العام في مجتمع بدا مثل شخص جوعان أكل أكثر مما يستطيع فأصيب بعسر هضم، أو سجين لم ير الضوء لعدة عقود خرج إلى العالم فجأة فسقط مصابًا بالوهن وضربة شمس: مجتمع انقسم على نفسه وتفتت، كما يحدث عادة بعد الطفرات المفاجئة، يحتاج إلى وقت طويل ليلتئم ثانية، أو ربما يكون دخل في ثقب أسود من انهيار لا رجعة عنه، وهذا ينطبق على بلاد عربية أخرى مثل سوريا وليبيا أكثر حتى مما ينطبق على مصر.
من ناحية الكيف هناك أفلام حماسية، ساذجة، مفرطة في التفاؤل قام بصنعها شباب شارك في الثورة، أو كان مؤيدًا لها. وهناك أفلام "رجعية"، بعضها اتخذ من الثورة مطية ليطعنها، من منطلق تجاري مثل تك تك بوم إخراج أشرف فايق وبطولة محمد سعد، أو من منطلق سياسي مثل عيار ناري سابق الذكر.
من الناحية الفنية لم تترك الانتفاضات العربية تغييرًا يذكر على مستوى السرد أو الأفكار أو الأساليب أو الموضوعات التي تتناولها السينما العربية. ربما تحرر صناع السينما التونسية قليلًا من وطأة النظام السابق، وأصبح الشباب يشعر بثقة أكبر في النفس ويناقش قضايا لم يكن مسموحًا له بمناقشتها من قبل، ولكن في مصر حدث العكس، فهامش الحرية الذي كان مسموحًا به في عهد مبارك أكبر بكثير من المتاح حاليًا.
مستوى الأفلام المصرية لا يزال متواضعًا، في أغلبه، ونادرًا ما يظهر فيلم على مستوى الأفلام الكبيرة العالمية، ومن ناحية الموضوعات التي تناقشها هذه الأفلام فهي لا تختلف كثيرًا عما كانت تناقشه منذ عشر سنوات مضت. ولكن هل يعني ذلك أن ثورة يناير لم تترك أثرًا، وأنها، كما يحب أن يصور خصومها، زوبعة في فنجان؟
الثورة لم تبدأ من "التحرير" ولم تدفن فيه
ولدت الثورة المصرية من رحم ثورة الديجيتال بأشكالها المتعددة: فضائيات وكاميرات دقيقة الحجم وهواتف ذكية وأجهزة كمبيوتر وإنترنت ومواقع تواصل اجتماعي..إلخ، والحقيقة أنه لا يمكن فصل الحدث التاريخي باللحظة التكنولوجية التي ولد فيها هذا التاريخ.
ويمكن الرجوع هنا إلى بعض كتابات المفكرين حول علاقة التكنولوجيا بالثورة: في البيان الشيوعي، يربط ماركس وإنجلز بين فكرة الثورة العمالية ووسائل التكنولوجيا والاتصالات الحديثة التي تجيد استخدامها الطبقة العاملة باعتبارها أداة وعي تميز هذه الطبقة وتؤهلها لاحداث التغيير. بالطبع كلام ماركس وإنجلز لم يعد ينطبق على طبقة العمال ولكن على من يجيد استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، مثل الشباب الذين كانوا طليعة ثورة يناير.
في كتابه التكنولوجيا والعلم باعتبارها إيديولوجية، الصادر 1968، يوضح يورجن هابرماس هذه الفكرة بشكل تفصيلي، وفي كتابه الشهير الوسيط هو الرسالة يبين رائد الإعلام الأمريكي مارشال ماكلوهان الكيفية التي غير بها المصباح الكهربائي والتليفزيون العالم ليس فقط في أنماط الحياة ولكن في أنماط التفكير، حيث أحدث كل منهما ثورة اجتماعية بغض النظر عن الطريقة التي يستخدم بها المصباح أو المضمون الذي يبثه التليفزيون. وطور المفكر الأمريكي المصري إيهاب حسن طور أفكار ماكلوهان وقال إن "الكمبيوتر سيصبح بديلًا للوعي أو امتدادًا للوعي الإنساني". وهو ما يؤكده أيضًا المفكر الفرنسي جان بودريار الذي كتب في بداية الثمانينيات أن "وسائل الإعلام تُحدث ثورة، بل أنها في حد ذاتها ثورة بغض النظر عن محتواها" وأن تطورها يحدث بالضرورة تغييرات اجتماعية وسياسية.**
حين نفكِّر في العلاقة بين ثورة يناير والسينما المصرية من خلال هذا المفهوم ينبغي ألا نتوقف، إذن، عند هذه الأفلام الوثائقية والروائية التي صنعت على عجل بعد تنحي مبارك مباشرة، ولكن علينا أن نتتبع تأثير هذه الثورة على معالم الحياة الفكرية والاجتماعية في مصر وتأثير ذلك بالضرورة على السينما.
هناك بالفعل تغيير يمكن ملاحظته في السينما والدراما، بدأ بالفعل قبل 25 يناير على استحياء ولكنه اتخذ مسارًا متسارعًا ومسيطرًا منذ 2011: من ناحية الكم هناك عدد هائل من الأسماء الشابة التي ظهرت بكثافة بعد 2011 واحتلت الساحة الفنية على مستوى التمثيل والإخراج والتصوير وبقية العناصر الفنية، واللافت ظهور وصعود عدد كبير من المخرجات وكاتبات السيناريو، في مقابل تراجع الأسماء القديمة وانسحابها أو انحسار شعبيتها بشكل ملحوظ.
من ناحية الكيف، فرغم قبضة الرقابة الحديدية التي تزداد ضغطًا على المبدعين هناك موضوعات وأفكار أكثر طزاجة، ولا نقول أكثر جرأة، في بعض الأفلام أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: باب الوداع لكريم حنفي، يوم الدين لأبو بكر شوقي، أخضر يابس لمحمد حماد، ديكور لأحمد عبد الله، لا أحد هناك لأحمد مجدي، رمسيس راح فين لعمرو بيومي، لما بنتولد لتامر عزت، وقابل للكسر لأحمد رشوان، ومن أعمال المخرجات الخروج للنهار لهالة لطفي، هرج ومرج لنادين خان، يوم للستات لكاملة أبو زكري، عاش يا كابتن لمي زايد، سعاد لأيتن أمين، وغيرها.
حتى على مستوى الدراما التليفزيونية يمكن ملاحظة هذا التغيير في الوجوه والموضوعات، أذكر أيضًا على سبيل المثال اثنين من الأعمال الأخيرة التي أثارت جدلًا مجتمعيًا: سابع جار للمخرجة هبة يسري، ليه لأ للمخرجة مريم أبو عوف، ومسلسل نمرة اتنين الذي قام باخراج حلقاته عدة مخرجين وناقشت معظم الحلقات موضوعات جريئة بمقاييس التليفزيون. وهذا المسلسل تحديدًا ينقلنا إلى النقطة التالية.
المنصات: مستقبل وطن؟
مع تراجع دور العرض السينمائي وقنوات التليفزيون الرسمية والخاصة في العالم بشكل عام، وفي مصر بشكل خاص، شهدت المنصات الرقمية، التي يمكن مشاهدتها بواسطة الإنترنت على شاشة التليفزيون أو أي شاشة أخرى، صعودًا متزايدًا خاصة بعد أزمة كوفيد-19 المستجد، والحظر الذي فرض في معظم البلاد.
هذه المنصات هي صورة مصغرة لمستقبل الوسائط الإعلامية والفنية، وهذه يصعب أكثر فأكثر أن تفرض عليها رقابة، وسوف يشكل ذلك خطرًا داهمًا على أنظمة الرقابة القديمة، مثلما فعلت الفضائيات ثم الإنترنت من قبل.
وقد ساهمت منصة نتفليكس مثلًا في تغير عادات المشاهدة العربية، فهي تعرض أعمالًا "غير مراقبة" مترجمة إلى العربية، وبعضها عربية الإنتاج والمضمون واللغة، وأصبح بمقدور قطاعات كبيرة من الناس مشاهدتها بسهولة، بجانب طبعًا القرصنة التي تتيح الحصول على أي فيلم على الإنترنت. وهناك أيضًا منصات عربية سيكون عليها توسيع هامش الحرية المتاح للمواد التي تبثها إذا أرادت المنافسة والبقاء على الساحة. ومنصة شاهد vip الخليجية مثال على ذلك، والتغيرات الكبيرة التي تشهدها دول الخليج نسمع بها ونراها كل يوم. ورغم أن الأعمال السينمائية المصرية التي أنتجتها المنصات حتى الآن تقليدية ومتواضعة المستوى: صاحب المقام والحارث نموذجًا، إلا أن هذه المنصات قد تصبح منفذًا ونافذة أكثر حرية أمام الأجيال السينمائية الجديدة.
في فيلم وثائقي حديث بعنوان الأزمة الاجتماعية Social Dilemma يمكن التعرف على ملامح هذه المشكلة العويصة التي بات يعاني منها العالم كله، ولكنها قد تتحول إلى قنبلة نووية أو هيدروجينية في مجتمعنا إن لم نسع لحلها، وتنبأ هذا الفيلم تحديدًا بأحداث العنف التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية عقب هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، فهي إحدى ثمار الاستقطاب والانقسام الذي تتسبب فيه مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة.
تغير شكل الحياة إلى درجة مرعبة خلال السنوات العشر الماضية. وفي مصر تحديدًا أصبح الانقسام الطبقي أكثر حدة، مما يهدد بعواقب وخيمة إن لم يتم تداركه، ولكن الانقسام التكنولوجي أكبر وأكثر حدة. هناك من لا يزالوا يشاهدون قنوات التليفزيون فقط، ولكنهم يتناقصون طوال الوقت، فيما تحل الوسائط الحديثة مكانها تدريجيًا، خاصة لدى الأجيال الصغيرة التي لم تعد تشاهد التليفزيون.
هذه الأجيال التي نشأت وشبَّت أثناء الثورة تعيش في عوالم افتراضية مصغرة، منعزلة، تزداد الهوة بينها وبقية المجتمع وبين بعضها البعض، وتساهم السينما والوسائط الأخرى في اتساع هذه الهوة.
ربما، في نهاية المطاف، لم تكن ثورة 25 يناير سوى إعلان عن عالم جديد يتشظى وينقسم على نفسه وصولًا إلى لحظات أعنف من الانفجار والتصادم، وربما سنحتاج أن ننتظر عشر سنوات أخرى قبل أن نرى العالم يتعلم فن التعايش من جديد.
* لمزيد من التفاصيل والتوثيق يمكن الرجوع إلى كتابي أفلام الثورة.. متحف لذاكرة الوطن- منشورات مهرجان الإسماعيلية– 2012، أو بحث السينما وثورة 25 يناير المنشور ضمن كتاب السينما والثورة- مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة- 2013.
** لمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة يمكن مراجعة مقالي التحليل الماركسي لثورة يناير – صحيفة الفجر- فبراير 2011، ومقالي: فيسبوك وأفلام ومقاطع فيديو: قراءة في أحوال الصورة بعد ثورة يناير– موقع جدلية- أبريل 2013.
قراءة ملف "تلك الأحداث" على هذا الرابط