لم يبلغ أثر وباء عالمي على حياتنا اليومية، في ذاكرة الأحياء منا، ما بلغه وباء الكوفيد-19. لست بحاجة لتعداد مظاهر هذا الأثر فجميعنا يلمسه بشكل مباشر، ولكننا بعد عام تقريبا من بدء انتشار الوباء وفي خضم موجة ثانية له، لا زال ثمة الكثير من الأفكار المغلوطة سائدا حوله.
ومن بين هذه الأفكار المغلوطة التي لا زالت سائدة تصور أن وباءً بهذا الحجم وهذا الأثر قد أخذ عالمنا على حين غرة وكان مفاجأة للجميع. وأعتقد أن ثمة أهمية خاصة للتخلص من هذه الفكرة، ولكنني سأرجئ إيضاح هذه الأهمية إلى ما بعد الإجابة على السؤال: هل كان كوفيد-19 مفاجأة؟
هل كان مفاجأة؟
المجلس العالمي لرصد التأهب، الذي يصف نفسه بأنه "هيئة مستقلة للرصد والدعوة"، تشكل في مايو من عام 2018، بمشاركة كل من مجموعة البنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، ويتكون من 15 عضوا بصفتهم الشخصية، وهم قادة سياسيون، ورؤساء وكالات، وخبراء، ومهامه "تقييم قدرة العالم على حماية نفسه من الطوارئ الصحية؛ الوقوف على الفجوات الخطيرة الكائنة في التأهب من وجهات نظر متعددة؛ الدعوة إلى تنفيذ أنشطة تأهب مع القادة ومتخذي القرار على الصعيدين الوطني والدولي."
وفي سبتمبر من عام 2019 (قبل شهور من اكتشاف أولى حالات كوفيد-19)، أصدر المجلس تقريره الأول بعنوان "عالم معرض للمخاطر"، وفي التمهيد لذلك التقرير يقول رئيسا المجلس، جرو هارلم برونتلاند والحاج آس سي "هناك تهديد حقيقي بوقوع جائحة سريعة الانتشار شديدة الإماتة بأحد المُمرِضات (أي مسببات المرض) التنفسية فتقتل ما بين 50 و80 مليون شخص وتقضي على ما يقرب من 5% من اقتصاد العالم. وقد يكون وقوع جائحة عالمية على ذلك النطاق كارثيا؛ إذ يؤدي ذلك إلى إحداث فوضى واسعة النطاق وعدم استقرار وانعدام في الأمن. والعالم غير متأهب لذلك".
ويشير كاتبا التمهيد إلى أن المجلس قد استعرض توصيات لجان وفرق بحث سابقة تشكلت في أعقاب أوبئة مختلفة في الأعوام ما بين 2009 وحتى 2016، ووجد أن عددًا من هذه التوصيات قد تم تنفيذه بقدر ضعيف بينما لا تزال هناك فجوات خطيرة في تأهب العالم للتعامل مع طارئ صحي وبائي، ثم يضيفان "لطالما سمحنا بحلقة من الذعر والإهمال عندما يتعلق الأمر بالجوائح: إننا نكثف الجهود عندما يكون هناك تهديد خطير، ثم ننسى بسرعة عندما ينحسر التهديد. لقد آن الأوان منذ وقت طويل لنتصرف".
وفي متن التقرير نفسه يذكر معدوه أن "بين عامي 2011 و2018، تتبعت منظمة الصحة العالمية 1483 حدثا وبائيا في 172 بلدًا. وتنذر الأمراض التي يمكن أن تتحول إلى أوبئة، مثل الأنفلونزا والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس) ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والإيبولا ومرض فيروس زيكا والطاعون والحمى الصفراء وغيرها، بحقبة جديدة من الفاشيات الشديدة الوقع المحتمل انتشارها سريعا والتي يزيد معدل الكشف عنها وتتزايد صعوبة السيطرة عليها".
ماذا نستخلص مما سبق؟
قبل أي شيء كان وقوع جائحة (وباء عالمي) أمرًا متوقعًا، بل في الحقيقة كان حتمي الحدوث (ولا يزال بالمناسبة)، السؤال فقط كان: متى؟ والإجابة جاءت بعد شهور قليلة من صدور ذلك التقرير.
ثانيا، نوع المرض الأكثر احتمالا لأن يتحول إلى جائحة كان بدوره متوقعا، مرض تنفسي، سريع الانتشار، ويصعب السيطرة عليه. في أسوأ الحالات إن كان هذا المرض شبيها بذلك الذي تسبب في جائحة الأنفلونزا الإسبانية في عام 1918، فستكون معدلات الوفاة بين المصابين به مرتفعة مما يؤدي إلى وفاة ما بين 50 إلى 80 مليون شخص حول العالم.
لحسن الحظ فكوفيد-19 تنطبق عليه كافة المواصفات المذكورة ما عدا معدل الوفاة والذي (لا يزال) منخفضا مقارنة بعدد المصابين، ولكن ليس ثمة ما يضمن ألا يتحور فيروس الكورونا في هذه الموجة أو موجة تالية مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفاة.
لم يكن وقوع كوفيد-19 مفاجئًا إذن، ليس فقط بالنسبة لمن يمكن أن يكون هذا التقرير قد وصل إلى أيديهم (جميع حكومات العالم)، ولكن لمن كانوا يعلمون بمحتواه قبل صدوره (جميع حكومات العالم أيضا)، فإذا قرأت التقرير، وأنا أدعوك لأن تفعل ذلك، ستكتشف أنه لا يرصد مدى تأهب دول العالم لمواجهة جائحة متوقعة في فراغ، ولكن يراجع مجموعة من الالتزامات الدولية بإجراءات محددة تضمنتها لائحة صدرت في عام 2005، أي قبل أكثر من 15 عاما من اليوم. ومحصلة هذه المراجعة كانت اختصارا أن دول العالم (جميعها) قد أخفقت تماما في الوفاء بالتزاماتها وفي تنفيذ الإجراءات سواء كانت منفردة أو جماعية للتأهب لمواجهة جائحة عالمية أو أوبئة أقل انتشارا.
مهمة التقرير لم تكن التحذير من الجائحة القادمة، فهذا كان أمر معروف بالفعل وقبل سنوات طويلة؛ مهمته كانت الوقوف على مدى تأهب العالم لمواجهة هذه الجائحة.
لماذا نهتم؟
يرتاح أغلبنا إلى فكرة أن وضعا كارثيًا مثل وباء عالمي قلب حياتنا جميعا رأسا على عقب، هو أمر نادر الحدوث وغير متوقع.
هذا ببساطة يعني، إن كان حقيقيا، أن حياتنا في أغلب الأحيان آمنة ومستقرة. في المقابل تخيل أن خطرًا بهذا الحجم أمر متوقع الحدوث والتكرار من شأنه أن يشعرنا بهشاشة عالمنا، وبصفة خاصة هشاشة أمننا واستقرارنا. يرتاح أغلبنا أيضا إلى التمسك بأي سبب محدد وواضح وفردي لنشأة وضع كارثي كهذا. ولذلك فإن قصة انتقال فيروس كورونا من وطواط ما بشكل مباشر إلى شخص بعينه في مدينة ما في الصين، تظل حتى اليوم الأكثر تصديقا حول العال، في حين إنها تكاد تكون رواية كاذبة، ولكن لا أحد سيهتم بتكذيبها.
الأكثر أهمية هو أن التعلق بمثل هذه القصة أو أخرى شبيهة بها يعطي شعورا خادعا بإمكان السيطرة على مثل تلك الوقائع التي قد تؤدي إلى انتشار وباء بهذه الخطورة. واقع الأمر أن مثل هذه القصة حتى وإن كانت صحيحة، تؤكد حقيقة بسيطة، وهي أنه طالما تطورت سلالة فيروس ما بحيث أمكن أن تصيب الإنسان، فإن ثمة آلاف السبل التي لا يمكن السيطرة عليها والتي سيؤدي أحدها حتما إلى انتقال الفيروس إلى إنسان ما لتبدأ سلسلة الانتشار التي ستكون عالمية في وقت قصير.
أين؟ ومتى؟ وكيف؟ أسئلة تبقى مهمة في حد ذاتها ولكن لا قيمة لإجاباتها إذا كان الأمر يتعلق بمنع انتشار فيروس ما. الحقيقة هي أن المنع التام أو حتى النسبي مستحيل. ولذلك فليس أمامنا إلا الاهتمام بمدى تأهبنا للوباء القادم حتما، اليوم أو غدا، ولكن ليس في مستقبل بعيد بأي حال.
المفزع حقا هو ما يكشف عنه التقرير من إهمال فادح شاركت فيه كل دول العالم (بما في ذلك ما نسميه بدول العالم المتقدم) في اتخاذ إجراءات ضرورية كانت قد تعهدت أصلا بالالتزام بها، وذلك لسنوات طويلة، وهو ما يعني أن هذه الدول برغم تأكيدات خطورة الوضع وفداحة الخسائر البشرية المتوقعة لم تجعل من هذه الإجراءات أولوية لها، وبعبارة أخرى فهي لم تضع حياة وموت مواطنيها كأولوية لسياساتها، يستوي في ذلك ديمقراطيات الغرب بحكوماتها المتراوحة بين اليمين والوسط واليسار، وديكتاتوريات العالم الثالث القومية والعسكرية والوراثية.
الجميع كانوا سواء في إهمالهم شبه المتعمد لحياة مواطنيهم، وعدم اعتدادهم بالدليل العلمي والعملي الواضحين لوجود خطر حقيقي لا يهدد فقط بقتل عدة ملايين من البشر وإنما بضرب الاقتصاد (الهم الكبير لأغلب حكومات العالم) وإحداث الفوضى وتهديد الأمن (الهم الأكبر كثيرا من غيره لجميع حكومات العالم). في المحصلة يبدو أن دول العالم بأنظمتها المختلفة أشد الاختلاف (على الأقل ظاهريا) اجتمعت على شيء واحد فيما يخص خطر الجائحة العالمية وهو العمى الكامل غير المبرر، ولكن إن لم تكن دول العالم غير متأهبة عندما ضربها الوباء (على حين غرة)، فكيف كانت استجابتها؟
عالم تسوده الفوضى
"عالم تسوده الفوضى" عنوان التقرير الجديد الذي أصدره المجلس العالمي لرصد التأهب في سبتمبر الماضي (2020) بعد عام من تقريره الذي عرضت بعضا مما جاء فيه، وبعدما أصبح كوفيد-19 واقعا نعيشه ونتنفسه (إن لم نلتزم بارتداء كماماتنا على الأقل). الفوضى هي العنوان، ولكن أي فوضى؟ يفتتح التقرير بهذه العبارة "لقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن إخفاق جماعي في أخذ مقتضيات الوقاية من الجائحات والتأهب والاستجابة لها على محمل الجد وإعطائها الأولوية التي تليق بها. كما سلطت الضوء على هشاشة الاقتصادات والنظم الاجتماعية الشديدة الترابط ومدى تضعضع الثقة. لقد استغلت هذه الجائحة التصدعات القائمة داخل المجتمعات وبين الشعوب فعمقتها، مثلما استغلت أوجه عدم المساواة وذكرتنا باستحالة تحقيق الأمن الصحي بمعزل عن الأمن الاجتماعي. إن جائحة كوفيد-19 قد استغلت في الواقع الفوضى الذي تعصف بعالمنا".
"الفوضى التي تعصف بعالمنا"، ليست تلك التي أحدثها كوفيد-19، كما يتصور أغلبنا، إنما هي فوضى قائمة ومستمرة قبل أن تتفشى الجائحة لتستغلها موقعة بنا هذا القدر الهائل من الخسائر، التي كان يمكن تجنب معظمها، ليس فقط بالتأهب المسبق بل بالقدرة على الاستجابة لها كطارئ غير متوقع. الفشل كامن في عالمنا وليس طارئا عليه، وهو فشل يهدد حياة كل واحد منا.
يكرر التقرير عرض الإجراءات التي طالب بها التقرير السابق عليه ثم يؤكد أن "التقدم المحرز في تنفيذ هذه الإجراءات كان محدودًا، رغم الفرص العديدة التي أتيحت أمام العالم لتنفيذها. فقد تعددت النداءات إلى العمل في هذه المجالات على مدى العقد الماضي، لكن أيًا منها لم يفض إلى التغييرات المنشودة. ولم تكن الاستثمارات المالية والسياسية في مجال التأهب كافية، وهو ما ندفع جميعنا ثمنه اليوم".
تتكرر الإشارة طوال التقرير إلى عنصرين رئيسيين تتعلق بهما إمكانية استجابة المجتمعات حول العالم لخطر جائحة كوفيد-19، التي برز الفشل بصفة خاصة نتيجة لعدم توافرهما؛ هذا العنصران هما: القيادة المسؤولة، والمواطنة الملتزمة. القيادة المقصودة هي القيادة السياسية بالطبع، وفي كل مكان حول العالم كان الفشل واضحا في مظاهر منها: عدم تقدير حجم الخطر للاستهانة بالبيانات والمعلومات العلمية المقدمة بخصوصه، والتشكيك في قدر الخطورة، ونقل هذا التشكيك إلى الجماهير، وبناء عليه التقاعس في اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة الخطر في الوقت المناسب، ثم الموازنة بين الأثر الاقتصادي لهذه الإجراءات وبين الكلفة البشرية لعدم اتخاذها أو للإهمال في تنفيذها، وعدم السماح بالحرية الكاملة لتداول المعلومات الذي وصل في حالات كثيرة إلى التعتيم الكامل خاصة فيما يتعلق بأعداد المصابين ومعدل الوفيات، مع عدم الشفافية فيما يتعلق بالاستعدادات والتجهيزات الصحية المتوفرة.
على جانب آخر، فقد تعامل المواطنون أنفسهم مع خطر الوباء بإهمال واضح برغم إدراك أن إهمالهم لا يعرض حياتهم وحدهم للخطر وإنما حياة من حولهم باختلاف درجة قربهم. بصفة عامة عكس سلوك القيادات والمواطنين على السواء قدرا فادحا من عدم الاعتداد بالعلم وما يقدمه من معلومات، وكان أثر ذلك كارثيا في أحوال كثيرة. ويمكن القول أن عدم التصديق في العلم يرتقي إلى مستوى العقيدة التي يعتنقها عدد ضخم من الناس حول العالم على اختلاف مجتمعاتهم ودرجة تعليمهم، وهذا في حد ذاته أمر مفزع.
ماذا بعد؟
كوفيد-19 لم يرحل بعد، ولا تشير المعلومات الحالية إلى أنه سيرحل بالسرعة التي نتمناها. اللقاحات التي بدأت تصل إلى الناس في أماكن مختلفة من العالم لا يزال يحيط بها شكوك كثيرة، حتى وإن كان معظمها وهمي، ولكن بعضها على الأقل مبرر. التأكد من أن يقبل الناس في أنحاء العالم على تلقي اللقاح ليس سهلا على أفضل تقدير، وفي الحقيقة يبدو أن غالبية ذات شأن ستقاوم تلقيه لبعض الوقت على الأقل.
ولكن مصير عالمنا لا يتعلق بكوفيد-19 وحده؛ فما حاولت إيضاحه في هذا المقال هو أن كوفيد-19 لم يكن مفاجأة لمن ينبغي أن يهمهم الأمر، والأهم أن جائحة شبيهة وربما أكثر فتكا لا تزال أمرا حتمي الحدوث. نحن نعرف يقينا أنها ستأتي، ولكننا فقط لا نعرف متى. والمفزع أن تأهب العالم لا يزال غير كاف لتجنيبنا الأسوأ بين آثار تلك الجائحة. المفزع أكثر أننا لم نبدأ بعد البحث في الأسباب الحقيقية والعميقة لحالة التقاعس العالمي عن اتخاذ ما يلزم لنكون مستعدين لمواجهة خطر داهم كهذا. لا يمكن بأي حال تخيل أن الأمر هو مجرد إهمال أو جهل اجتمع مصادفة عليه كل حكومات العالم باختلاف أنواعها، ثمة بالتأكيد تفسير كامن في طبيعة النظم الحاكمة لعالمنا وللمنظومة العالمية التي تجمعها أو تفرقها.
إثارة الذعر لا ينبغي أن تكون هي هدف أي محاولة لنقل المعلومات إلى الآخرين، وفي هذا الشأن لست بالتأكيد أرغب فقط في أن أتسبب لمن يقرأ هذه السطور بالفزع الذي من شأنه أن يشلنا أو يشعرنا بالعجز. الخطر حقيقي وهو أكبر من ألا نسأل أنفسنا عما ينبغي لنا أن نفعله بخصوصه، فهو لا يتعلق بالبعض دون الآخر وإنما يهددنا جميعا، ولا يهدد ما هو أقل من حياتنا وحياة من نحبهم، بينما نحن الآن مشغولون بالالتزام بإجراءات السلامة المتاحة لتجنيب أنفسنا وغيرنا خطر الإصابة بكوفيد-19 ربما ينبغي أن ينشغل بعضنا بالبحث فيما هو مطلوب حتى يكون استعداد عالمنا لمواجهة الجائحة القادمة أفضل ليجنبنا نتائج أسوأ.
التقارير العالمية مثل ذلك الذي عرضت له في هذا المقال تقدم توصيات مهمة، ولكن لدي أسباب عدة للتشكك في أن تكون الجهات التي تصدرها معنية بالبحث أعمق عن أسباب المشكلة، ثمة قدر كبير من العمى يصيب الباحثين المتخصصين في مجال بعينه بحيث لا يمكنهم أن يتتبعوا مشكلة تتعلق بتخصصهم إلى أسبابها التي غالبا ما تكون موضوعا لمجالات بحث أخرى لا علم لهم بها، ومن ثم فإن تقريرا كهذا على أهميته لا يقصر فقط عن تقديم إجابات كافية بل هو في الأغلب لا يمكنه طرح كل الأسئلة الضرورية، وربما آن لغير المتخصصين في مجال الصحة والسياسة الخارجية وحدهما أن يبدؤوا في طرح الأسئلة الأكثر عمقا، والأكثر مصيرية.