تصوير أحمد دريم، بإذن خاص لـ المنصة
محصول البطاطس في أسيوط

من القطن إلى البطاطس: الزراعة في الفراغ

منشور الثلاثاء 29 ديسمبر 2020

 

للوهلة الأولى، قد تبدو أزمة البطاطس الأخيرة بالنسبة لغير المتخصصين مجرد خلل طبيعي في آليات العرض والطلب حيث تزيد كمية المعروض من سلعة ما عما يمكن للأسواق استيعابه فينهار سعرها، وهذه ليست مشكلة غريبة على الأنظمة الرأسمالية إذ تعدُّ من أكثر عيوبها التقنية بعيدًا عن أي جدالات أيديولوجية. إلا أن نظرة متمعّنة للأمر تكشف عن سوء تخطيط مركزي من الحكومة. 

وشهدت المحافظات المصرية خلال الأسابيع الماضية مشاهد غير معتادة لمزارعين يلقون بفائض محصول البطاطس الهائل في الترع والمصارف، وآخرين يقدّمونه علفًا للحيوانات، بعد أن هوى سعر الطن من متوسط يتراوح بين 1600 إلى 2000 جنيه، إلى نحو 500 جنيه، وهو أرخص من سعر أي علف آخر للمواشي، فيما قدّر رئيس الجمعية العامة لمنتجي البطاطس في مصر أحمد الشربيني خسائر الفدان الواحد بـ 40 ألف جنيه في المحصول الصيفي، و25 ألفًا في الشتوي، حسبما نقل عنه موقع سكاي نيوز عربية.

الخلل التقني في آليات العرض والطلب غالبًا ما يكون تأثيره محدودًا وسريعًا ويتم تداركه بقدر مقبول من الخسائر، وهو ما لم يحدث في أزمة البطاطس التي ما زالت مستمرة وقد وصل سعر الكيلوجرام في بعض الأسواق للمستهلك إلى 70 قرشًا بينما استمرت مشاهد إلقاء المزارعين محاصيلهم في الترع. 

الأزمة هنا تبدو أكثر عمقًا من هذا الخلل، ويأتي أساسها من جهاز إدارى حكومي لم يعد مهتمًا بأداء مهامه في التخطيط الزراعي حيث لا يتعلق الأمر بالبطاطس فقط، فما يحدث اليوم مع ثاني أهم سلعة تصديرية زراعية في مصر بعد الموالح حدث خلال الموسمين الزراعيين الماضيين مع القطن وتكرر في أوقات سابقة مع محاصيل أخرى منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. 

وبلغ حجم صادرات من البطاطس في عام 2020 (تحديدًا من 1 يناير/ كانون الثاني إلى 25 نوفمبر/ تشرين الثاني) نحو 680 ألف طن بنسبة تزيد قليلاً عن 14% إجمالي الصادرات الزراعية المصرية التي تبلغ 4.8 مليون طن.

ورغم أن البيانات المطلوبة لبناء تحليل دقيق ومعمق للوقوف على الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع المزري لم تتوفر بعد حيث إن معلومات القطاع الزراعي التي تمكننا من تقييم أدائه لا تظهر بشكلها وحجمها الحقيقيين إلا عند بدء الموسم الزراعي الجديد أو قبله مباشرة، فإن المرجح هو وقوع خطأ كارثي في تقدير حجم الاستهلاك المحلي والطلب التصديري وعلاقتهما بالمخزون الاستراتيجي الذي كان متوفرًا من البطاطس، كما سنوضح في هذا المقال.

عندما يتفاقم الوضع لدرجة أن يقوم المزارعون بالتخلص من محصولهم لا بد أن نعيد طرح الأسئلة المتعلقة بدور الدولة فى تنظيم وضبط الأسواق، وهو ما يحدث بالمناسبة حتى في أعتى الرأسماليات، ودورها في حصر ما تملك من لوجستيات وبيانات دقيقة وأجهزة رصد ومتابعة يفترض أنها تعمل بكفاءة في متابعة التطورات الاقتصادية في البلاد.

كشفت هذه الأزمة عدم قدرة المسؤولين عن رسم السياسات الزراعية في مصر على تحليل بيانات تطورات الأسواق العالمية والمحلية واحتياجاتها حتى على المدى القصير، فحتى منتصف العام الماضي، عندما تبلورت تلك الأزمة بالفعل ولم تعد تشكل مفاجأة بأي حال، ظلت الحكومة تنفي وجود أي أزمة في البطاطس، بل أشارت وقتها إلى أن المخزون الاستراتيجي من هذه السلعة "مطمئن"، أي أنها كانت تدرك حجم ما لديها ورغم ذلك تركت الفلاحين يزرعونه وكأن الأرض ستطرح ذهبًا.

التفاؤل المُفرط بأن السوق المحلي سيستوعب حجم الإنتاج كان مبنيًا على أرقام نمو الاقتصاد التي لا تستند سوى إلى بعض الشعارات الرنانة التي تشبع رغبات ملء وسائل الإعلام بـ "الإيجابيات"، صحيح أن الاقتصاد المصرى سجل نموًا لا بأس به في عام الجائحة المشؤوم، ولكن من السذاجة المُفرطة الاعتقاد بأن تلك الزيادات تتوزع بنسب ولو شبه متساوية على القطاعات المختلفة.

أما الاعتماد أثناء التخطيط على الأمل في فتح أسواق خارجية وتصديرية غير موجودة في الواقع الفعلي، خلال أشهر قليلة فقط، فكان نوعًا آخر من السذاجة، لأن فتح هذه الأسواق عملية استراتيجية مُعقدة لا تشبه الذهاب إلى محل البقالة لشراء علبة جبن، ولكنها تحتاج إلى سنتين أو ثلاثة على أقل تقدير لتؤتي بثمارها وتنعكس على المعروض بالأسواق المحلية، خاصة في ظل وجود منافسة شرسة بكافة أنواع السلع من دول أخرى لها مكانتها وتملك العديد من الإمكانيات.

 

تكدس محصول البطاطس في أسيوط - تصوير: أحمد دريم، بإذن خاص للمنصة

هذا تحديدًا ما حدث مع محصول القطن في الموسمين الماضيين حيث زادت المساحات المزروعة به زيادات مطردة في فترة زمنية قصيرة جدًا ولم تكن أسواقه التصديرية موجودة سوى على الورق، ما أدى إلى عجز الحكومة وقت الحصاد عن استلام الكميات التي تعاقدت عليها مع المزارعين لتتسبب لهم بخسائر فادحة دفعتهم بالطبع إلى الانصراف عن زراعة القطن مُجددًا، مما أحدث خللًا هيكليًا في سوق القطن لا زلنا نعاني من آثاره حتى هذه اللحظة على أصعدة مختلفة تجاوزت سوق القطن الخام وامتدت إلى منتجات الغزل والنسيج بمفهومه الأكثر اتساعًا في القطاع الخاص وقطاع الأعمال العام.

غياب دور الإرشاد الزراعي والبحث العلمي من جانب الدولة كان سببًا رئيسيًا إذن في تفجر هذه الأزمة، فمن واجب الأجهزة الرسمية المعنية في وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي أن تمد المزارعين بالبيانات ونتائج أحدث الأبحاث العلمية المتعلقة بكيفية الزراعة، من مسافات العزل وطريقة البذر إلى آليات استخدام الأسمدة والمبيدات، وطريقة فصل تقاوي البطاطس عن تلك التى ستطرح في الأسواق للاستهلاك أو التصدير. بالإضافة طبعًا إلى دور الوزارة ممثلة في مركز البحوث الزراعية والإدارة العامة لإنتاج التقاوي والإدارة العامة لاعتماد التقاوي في توفير تقاوي عالية الجودة والإنتاجية.

هذه الأدوار التي كان مفترضًا أن تلعبها وزارة الزراعة كانت ستقلل من خسائر المزارعين التي تراوحت من 25 إلى 40 ألف جنيه في الفدان الواحد، حيث ما زالت كفاءة الزراعة لدى الفلاح المصرى منخفضة في معظم الأحيان بسبب اعتماده على الأساليب التقليدية المتوارثة التي لم تعد تُجدي في كثير من الأحيان ولا تراعي التقدم التكنولوجي الذي حدث في العقود السابقة، مما يقلل القدرة التنافسية في الأسواق العالمية.

وفى هذا السياق يجب أولًا، عند الحديث عن البطاطس تحديدًا، إدراك أنه ليس محصولًا كثيف الاستهلاك محليًا وتتفوق عليه منتجات مثل الأرز بأنواعه والمعجنات كمصدر للكربوهيدرات، وبالتالي فإن النظر إلى الخارج يبدو أكثر أهمية من النظر إلى الأسواق الداخلية. كما سيتطلب الأمر أيضًا تشديد الرقابة على جودة المُنتج الزراعي المصري كي لا تتسبب الممارسات الزراعية الخاطئة في تقليص الصادرات وبالتالي زيادة المعروض المحلي عن الحد المقبول سعريًا، ولنا عبرة في محصول البطاطس المصرية أثناء أزمة العفن البني الشهيرة والمتكررة في أعوام 2011 و2012 و2018، وإن كانت الحكومة إحقاقًا للحق أحرزت تقدمًا ملموسًا في هذا المجال بتطبيق نظام "تكويد" المزارع.

زيادة الصادرات ستتطلب أيضًا تكثيف ودعم مجال تصنيع الأنشطة المرتبطة بالإنتاج الزراعي مثل أنشطة التعبئة والتغليف، خاصة تلك التي تؤدي إلى زيادة فترة صلاحية المُنتج مما يزيد فرصه في التصدير بشكل ملموس.

وأخيرًا لا مناص من المزيد من الشفافية في رسم السياسات الزراعية ومشاركة الفلاح فيها مشاركة مباشرة منذ البداية حتى يكون مُدركًا لنتائج ممارساته الزراعية. أما استمرار التعامل معه باعتباره عنصر عديم الإرادة في المنظومة الزراعية عليه أن يتحمل تبعات قرارات الدولة حتى لو لم يكن مشاركاً بها، فهذا أمر ستكون عواقبه حتمًا وخيمة ولن يطيقها أي من الأطراف في ظل الوضع الاقتصادي المأزوم أصلًا.