تصميم- يوسف أيمن- المنصة

رفعت سلّام: شاعر القبيلة في مهمة حداثية

منشور الخميس 10 ديسمبر 2020

إذا أردت وصف رفعت سلاّم (1951-2020) باختصار؛ فسأقول: الحادُ المثابر، أما إذا أردت أن ألخصه وتجربته فسأجد صعوبة شديدة، إذ لا يكفي أن أكتبُ: الشاعر والمترجم. فهو كان مترجمًا وصحفيًا وفاعلًا ثقافيًا وسياسيًا ومؤسسًا للقصيدة الحديثة، وفي كل هذا وتحته الكثير مما يُكتب ويُحكى.

لم يكن رفعت سلام الذي غادرنا قبل أيام، سهلًا، ولا حياته أيضًا، ولم يكن شاعرًا طيبًا كما يحلو للناس عند وفاة أحدهم أن تكتب. فسلاّم كان متطرفًا فيما ينحاز له، ومواقفه وانحيازاته هذه كانت حادة وجذرية، جعلته يعيش حياته كلها في معارك متصلة لا يأبه فيها لاستمرار صداقة أو مشروع، طالما لم يُرضِ هذا أوذاك ما يؤمن به وما يريد. رفعت سلّام في سيرته الذاتية المهنية: شاعر، وصحفي، ومترجم. شاعر حداثي رائد، ومترجم متميّز له ترجمات شهيرة ومؤثرة، وصحفي في وكالة أنباء الشرق الأوسط قضى حياته كلها بإخلاص ودون تعال على المهنة أو استغلال لحسناتها كما فعل أقران له.

سلّام كشاعر، وجد نفسه هكذا. كما عبّر هو بنفسه عن ذلك في أكثر من حوار: صبيٌ لا يعرف سوى كتب المدرسة في قرية فقيرة بمحافظة القليوبية هي منية شبين، وجد في الفن وسيلة للتعبير عن نفسه، لكن كُتب الدراسة لم تقدم له سوى الشعراء القدامى والكلاسيكيين؛ عنترة بن شداد وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، فتمثلهم وراح يكتب على طريقتهم. حولَ هؤلاء الشعراء وحول حياة هذا الجيل؛ كانت الأغنيات، أو الأناشيد لو شئنا الدقة، المبشرّة بعهد جديد يكون للمواطن الفقير فيه شأن مختلف: يرفع رأسه، ويحصل على حقه في التعليم، ويحارب الأعداء، وينتصر. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث بالنسبة لرفعت سلام ورفاقه في القرى. فقط الأحلام هي ما حصلوا عليه، وهذا ليس قليلًا في الحقيقة.

قرأت حوارًا قال فيه إنه كان يجرّب الرسم وكتابة القصة مع الشعر، لأن الشعر الذي قرأه في الكتب المدرسية لم يكن كافيًا لوجدانه، لكن قصيدة رفعت سلام، وأقصد منجزه الشعري التالي كله، كان يتحرك من النقطة التي تمرد عليها: شاعر القبيلة، وشعرية الفخر. فهو في كل مشروعه التالي كان ينحو إلى الفخر بذاته المثقّفة وقريته وتجربته وإمكانياته، وحتى ترجماته للشعراء المؤسسين كانت تأكيدًا منه على امتداده لهم ومجاورة اسمه لمشروعاتهم.

أولى قصائده المنشورة حملت اسم قريته منية شبين. أو ليس الفخر بالقرية وتسجيلها في قصيدة يشبه تيه الشاعر العربي القديم بانتمائه وبقبيلته؟ الكتاب الذي أصدره العام الماضي عن الشعر بعنوان: ما الشعر؟ توقف فيه في التأريخ للقصيدة عند جيل السبعينيات، أو جيله/ قبيلته هو. وثاني دواوينه حمل اسم إشراقات رفعت سلام، وأعماله الكاملة أصدرها تحت عنوان ديوان رفعت سلام.

إذن نحن هنا أمام طبعة حداثية من شعراء العرب القدامى/ شعراء الجاهلية/ شعراء المعلقات. طبعة حداثيّة تتوسل جمالية مختلفة وخاصة، لكنها ترى جذورها في جماليات كلاسيكيات القصيدة الغربيّة: في وايتمان وبوشكين وبودلير ورامبو، الذين ترجمهم رفعت سلام بإخلاص إلى العربية، واستدعاهم في قصائده ضمن ما عرّفه هو بـ"قصيدة الأصوات المتعددة"، لكنني ما زلت أرى أنه لم يغادر الشاعر العربي القديم، لم يغادر عنترة بن شداد، في الرؤية والعنوان، وهذا سر تميز قصيدته ولا شيء آخر.

في عام 1975 نُشرت قصيدته التي قدمته لجمهور الشعر وللحقل الثقافي المصري منية شبين، صحيح أنه سبقها بقصائد رومانسية، نهاية الستينيات في مجلة الأديب كما قال في حوار للشاعر محمد الحمامصي؛ لكن هذه القصيدة التي حمل عنوانها اسم قريته كانت صوته الخاص الآخذ في التشكّل. لم يكتف سلام بزهوة النشر ولا بإشارة شاعر كبير وصاحب موقع مرموق في الأدب وفي المؤسسة الثقافية هو صلاح عبد الصبور، فراح ينشط مع زملاء الدراسة وأصدقاء له في تأسيس جماعة شعرية لها مجلة هي إضاءة 77، وكانت مغامرة كبيرة أن يقوم مجموعة من الشعراء الشبّان أبناء كلية الآداب (كان رفعت طالبًا في قسم الصحافة) بالتنظير لما أسموه تيارًا أدبيًا جديدًا يتمرد على السائد الراكد والقديم.

التجربة لم تستمر طويلًا رغم شهرتها آنذاك، إذ اختلف بشكل حاد مع توجهات وانحيازات زملائه وانفصل عنهم وراح يحاول التعبير عن آرائه في جماعة ومجلة جديدة. تلك كانت بدايات رفعت سلام في العمل الثقافي العام، وهي بداية لها دلالة، إذ أن أغلب مجايليه كانوا ينضّمون لتنظيمات يسارية سرية ويحمّلون إبداعاتهم ضمن المشروع السياسي للتنظيم، وحتى في أشغالهم، إذا جاز التعبير، كانوا يلتحقون بالعمل في الصحف اليسارية القومية أو الماركسية، لكن رفعت سلام انضم لوكالة أنباء حكومية كمترجم في البداية، وواصل العمل فيها حتى خروجه على المعاش قبل سنوات قليلة من وفاته.

سألتُه ذات مرة كيف استطعت، مع إنتاجك الأدبي والفكري ومنجزك في الترجمة، أن تصمد داخل مؤسسة صحفية حكومية مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط. أجاب: "بالفصل، والضمير. أن تفصل بين إبداعك الشخصي وانحيازاتك، وبين عملك الصحفي مصدر دخلك. وأن تُعمل ضميرك المهني والأدبي أيضا في عملك. الموضوع ليس سهلًا".

صحيح، لم يكن "الموضوع سهلا"، حيث عمل بكل إخلاص داخل المؤسسة الصحفية الحكومية دون تورط. واختط لنفسه طريقًا مختلفًا في الحياة على ثلاث مسارات: العمل في المؤسسة الصحفية. والمُنجز الأدبي الخاص المتمثل في دواوينه الشعرية. والترجمة بنوعيها: ترجمة لـ "أكل العيش" والإنفاق على أسرته، والترجمة الأدبية المُكمّلة لمشروعه الأدبي وإن لم يتقاض عنها أجرًا مهمًا.

النوع الأخير من الترجمات كانت مشروعًا في حد ذاتها، وتضمنت ترجمة لقصائد من شاعر روسيا بوشكين (صدرت عام 1982)، وترجمة لقصائد مايكوفسكي (1985)، ويرمنتوف (1991)، ثم مختارات يانيس روتسوس (1992)، تلاها مجموعة من الترجمات لمختارات مختلفة من الشعر الكرواتي وللشاعر اليوناني كفافيس، فحصل على الجائزة التي تحمل اسمه، وهي جائزة أدبية عالمية ورفيعة، لكنه ومنذ عام 2010 ركّز جهوده كمترجم في مشروع كبير لترجمة آباء الشعر الحديث. فترجم الأعمال الكاملة لـ شارل بودلير (صدرت عام 2010)، والأعمال الكاملة لـ قسنطنين كفافيس (2011)، والأعمال الشعرية الكاملة لـ آرثر رامبو (2012)، والأعمال الشعرية الكاملة لشاعر أمريكا العظيم والت وايتمان، أوراق العشب، (2017)، ثم الأعمال الكاملة لواحد من أنبياء الشعر هو يانيس ريتسوس (2018) تحت عنوان سوناتا القمر.

كانت هذه الفترة التي بدأت عام 2010، وهو في الستين من عمره، وعقب عودته من الجزائر حيث أوفدته وكالة أنباء الشرق الأوسط مديرًا لمكتبها، فترة إنتاج وافر له كشاعر ومترجم. ترجم الكثير ونشر ديوانين من أجمل دواوينه الشعرية هكذا تكلم الكركدن (صدر عام 2012)، والذي تحدث فيه بصوته الشعري المتفرد عن ثورة يناير، وهو الشاعر الذي لا يهتم بالآني والمباشر والقريب، ثم أصدر في 2018 ديوان أرعى الشياه على المياه الذي أعتبرُ عنوانه من أجمل عناوين المجموعات الشعرية العربية إطلاقًا.

ابتعد رفعت سلام ومنذ أن كان طالبًا في الجامعة عن الانخراط المباشر في العمل السياسي، صحيح أن انحيازاته كانت واضحة لكنه اختار أن يكون فاعلًا ثقافيًا أكثر منه سياسيًا، غير أن الأقدار التي لا نملك لها قرارًا، والديكتاتورية غير الشعرية، وضعته في التجربة رغمًا عنه باعتقال ابنته يارا عام 2013، ليجد نفسه منغمسًا في المطالبات المتكررة بالإفراج عنها، ومواجهًا بشاعة العسف في صورته الكلاسيكية التي نقرأ عنها في الكُتب والقصائد.

مَن هم مثل رفعت سلام يؤمنون أن الإنسان لا يموت وقت فناء جسده، فذواتنا محملة برسالة عامة ننقلها عن السابقين، وأخرى شخصية، ورفعت سلام، بدون مجاز، نقل رسالتيه بكل إخلاص.


اقرأ أيضًا مقال محمود الورداني عن رفيق رحلته رفعت سلّام: وردة الفوضى الجميلة


 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.