لم يكن يتبقى لدييجو أرماندو مارادونا سوى الموت، حتى يحقق كل مقومات الأيقونة الأبدية الحاضرة في أذهان الناس وذاكرة الأمكنة، يودّعه الشعراء بثقة فاقدي إحدى أهم أعلامهم، يودّعه إيقاع الموسيقى حينما يتحرك بالكرة، يودّعه الأثرياء والفقراء والمدمنون والشحاذون والرؤساء، يودّعه الجميع، حتى يحتفظ به التاريخ.
1
عرفت مارادونا لأول مرة، في وقت لم أكن أحب فيه كرة القدم، كنت أحب الكرة التي يلعبها أخي ليس أكثر، بداية ومنتهى محبة اللعبة يتوقف على المباريات التي يلعبها أخي الكبير في الحيّ. كنا نتشارك غرفة واحدة، أعلى سريره توجد صور للاعبيّ المنتخب الإنجليزي يقف بول سكولز على الكرة بقدمه اليمنى في منتصف الملعب، بينما ديفيد بيكهام متأهب للعب كرة ثابتة، يتشارك الاثنان غطرسة الإنجليز وهيبتهم. بالجوار، كان مارادونا حاضرًا بصورة أعلى سريري، يرتدي تيشرت منتخب الأرجنتين ويبتسم بود.
ليالي الشتاء، التي كنت أنام فيها أحيانًا في الغرفة وحدي، كنت أتخيل سكولز يتحرك بالكرة في وسط الملعب، بينما بيكهام يضرب الكرة الثابتة في وجهي.و لأنني طفل وقتها، كنت أصدق كل ما أتخيل أو أرى، تكرَّر الأمر حتى قلت لأخي ذات يوم أن مارادونا موجود معنا في الغرفة، يستطيع في أي وقت أن يخطف الكرة من بيكهام أو سكولز، يخطف كل الكرات الموجودة في الغرفة ويدافع عني، يراوغ الجميع بخفة ومهارة.
بوكا جونيورز.. برشلونة.. نابولي
تتشابه نشأة مارادونا مع كثير من بدايات نماذج بدأت من الصفر وأصبحت، على اختلاف المجالات، شخصيات ذات حضور وتأثير عالمي. ولد في ضاحية جنوب الأرجنتين لعائلة فقيرة، عرف كرة القدم خلال اثنين من إخوته، منذ حصوله على كرة قدم هدية في الثالثة من عمره، بدأ اللعب، ولم ينتهِ، حتى وهو خارج الملعب، إدراك مارادونا لموهبته الكروية، دفعه إلى اللعب مع الحياة. داخل الملعب أو خارجه، مستعرضًا مهارته في المراوغة والمكر.
بدأ مارادونا مع فريق أرجنتينوس الأرجنتيني في سن الخامسة عشر،و انتقل بعدها إلى بوكا جونيورز. استأجر النادي شقة له، المأوى الأول الآمن الوحيد للعائلة. تقول أخته ماريا مارادونا* "كان عاطفيًا وجميلًا. انتقلنا نحن الثمانية إلى الشقة، أعال مارادونا العائلة منذ الخامسة عشر، حمل ثقيل على شخص واحد".
لعب مارادونا لنادي أرجنتينوس بين عامي 1976 و 1981، ثم انتقل إلى بوكا جونيورز، المحطة الأهم لينتقل من خلالها بعد فترة قصيرة إلى برشلونة، صفقة قياسية بخمسة ملايين جنيه إسترليني. حصل على الكأس الإسباني وكأس السوبر، رغم ذلك، كانت تجربة احترافية متعثرة. نوبات مرضية من التهاب الكبد، إصابة خطيرة في كاحل القدم، خلافات متكررة مع مديري الفريق ومع المدير الفنّي. أصبح دييجو مقيّدًا، ربما لم يكن يعنيه أي من كل هذه العثرات المتكررة، كان يعنيه فقط، أنه أصبح "مقيدًا" في مكان ما. في برشلونة، هناك طفل يكره القيد، تمثل كرة القدم له الحرية والمتعة.
نابولي، الفريق المتواضع في الجنوب الإيطالي يشغل مكانًا متأخرًا بين فرق الكالتشيو. جنوب إيطاليا مساحة جغرافية محتقرة من منطقة الشمال، إيه سي ميلان و يوفنتوس وإنتر ميلان، كل هذه الفرق، ومشجعيها، تحتقر الجنوب الرجعي والمتخلف، بينما مشجعو نابولي متعصبون لناديهم، ربما ردًا على نظرة الاحتقار الشمالية، وتخرج مدينة نابولي لاستقبال مارادونا القادم من برشلونة بـ 6.9 مليون جنيه إسترليني، إيمانا بالأمل الجديد، الذي ربما يحقق لهم الخلاص الاجتماعي من خلال كرة القدم.
في ملعب سان باولو، أثناء المؤتمر الصحفي لانتقال مارادونا إلى فريق نابولي، كان مشجعو المدينة يملؤون المدرجات عن آخرها، يستعجلون الاحتفاء بالمخلِّص الجديدة، يهتفون من خلال فتحة علوية للغرفة أثناء المؤتمر "دييجو.. دييجو.. دييجو".
2
عام 2002، آخر شهر رمضان، في نهائي دورة رمضانية ينظمها شباب الحي، كان أخي يلعب في المباراة النهائية بتيشرت مارادونا مع منتخب الأرجنتين. انتهت المباراة بفوز فريقه لكنه ظل غاضبًا. الهدف، الذي أحرزه بيده، كان واضحًا، ألغاه الحكم وسخر منه المتفرجون.
لم أعرف مارادونا العالمي، عرفت مارادونا المحلي، تحديدًا النسخة التي تبتسم في غرفتي، صنعت عنه مخيلة أنه يحب اللعب مع الفرق الضعيفة ليساعدها على المكسب والسخرية من الفرق القوية، لذلك هو الحل الأمثل للعب مع فريق مدرستي دائم الخسارة. سمعت أخي مرة يناقش أحد أصدقائه "مارادونا غير، تتفرج عليه تحسه بيدلّع الكورة".
أصبح مارادونا صديقًا لي، حينما أنقذني من الشعور بأفضلية أقاربي عليَّ. خلال زيارة من أقاربي القادمين من مدينة بعيدة، بحثت في الغرفة عن شيء فريد، أستطيع أن أحكي لهم عنه باعتباره ميزة تخصني وحدي. قصص الأطفال لم تنفع، لأنهم يعرفون قصصًا أفضل، شهادات تفوقي الدراسية ستفضحني أمام تفوقهم الأعلى. وحده مارادونا، الحل الوحيد الممكن، المهارة والحرفية قبالة أحاديث أقاربي عن لعبة التنس الأرضي التي يتقنوها ولا أعرف عنها شيئًا. ارتديت تيشرت مارادونا، كان أشبه بعباءة قصيرة، وأخبرتهم بثقة "أكيد متعرفوش مارادونا اللى بيدلع الكورة". ووقفت على سريري بجوار صورته على الحائط.
العطاء الإلهي
يقف مارادونا في منتصف ملعب سان باولو، يمسك بالميكروفون، كل شيء هادئ في نابولي عدا المدرجات المكدسة بمختلف الأعمار من الرجال والنساء، يحييهم مارادونا "مساء الخير يا شعب نابولي". لم تكن المدرجة حافلة بمجرد مجموعة مشجعين، كان هناك "شعب نابولي" فعلًا.
لم تكن بدايات مارادونا مع نابولي موفقة. إيقاع اللعب الإيطالي، التدخلات العنيفة، تطلّبت منه إعادة اختبار مهارته في الاحتفاظ بالكرة كي تتماشى مع طبيعة اللعب ضد فرق الدوري الإيطالي، تأخرت بوادر مارادونا كمعجزة تحدث في نابولي، لتبدأ في مباراة ضد يوفنتوس في في نوفمبر موسم 85/86.
مجموعة من أهداف مارادونا مع نابولي
انطلاقة مارادونا كانت تحت الهتافات العنصرية من فريق يوفنتوس ضد فريق ومشجعي نابولي. انتهت المباراة بفوز نابولي بهدف من كرة ثابتة لمارادونا مع حضور مهاري فردي ملحوظ. بعد الفوز على يوفنتوس، بدأ مارادونا عطاؤه الإلهي، المشجعون من ناحيتهم تجمّعوا حوله كمخلّص لهم من الدونية، وأصبح من تقاليد المدينة أن تلتقط صورة مع مارادونا، والأهم، أن تُعلق بجوار صورة المسيح، بدأت نابولي في الاعتراف بإله جديد يقف كل يوم أحد في الملعب.
في كأس العالم 1986، يقود مارادونا منتخب الأرجنتين أثناء رفض جماعي من الصحافة المحلية، ومن الشعب الأرجنتيني نفسه للمنتخب. يقود دييجو الفريق لربع النهائي، مباراة ضد المنتخب الإنجليزي، بعد أربع سنوات من حرب الفوكلاند وهزيمة الأرجنتين ضد المملكة المتحدة، كانت المباراة "حرب أخرى تبدأ" حسب تعبير مارادونا.
هدفا مارادونا ضد المنتخب الإنجليزي، رؤية مختصرة ومعبّرة لمسيرة مارادونا الكروية، الهدف الأول أحرزته "يد الله" بتعبير مارادونا، لكن في الواقع كان الدهاء التلقائي لدييجو هو الأصل، فالهدف لا بد أن يكون مهينًا للخصم، ليس هناك فرقًا بين مباراة مع الأصدقاء، أو مباراة في كأس العالم، المهم، أن يبدو الهدف في هذه اللحظة من المباراة، هدفًا فارقًا، بسبب كيفية إحرازه، قبل أن يكون ضد من، أو في أي بطولة. الهدف الثاني والأكثر شهرة لمارادونا في نفس المباراة، انطلاقة من نصف الملعب وحتى الثلاثة خشبات، هدف تناسبه مسمّيات عواجيز المقاهي" جون مزيكا ".
يصرخ المعلّق الأرجنتيني عقب إحراز الهدف الثاني "عبقري، جووول، إلهي القدير، أريد البكاء، فلتحيا كرة القدم".
هدفا مارادونا في مرمى إنجلترا 1986
فازت الأرجنتين بكأس العالم 1986، الصحافة العالمية رأت أن مارادونا وحده حصل على كأس العالم، تحت اسم منتخب الأرجنتين، وقف مارادونا، في قاعة تغيير الملابس، يغني مع زملائه بتحدٍ طفولي ضد الصحافة الأرجنتينية "الصحفيون منحطون/ تابعوا الرقص أيها المعجبون/ أرقصوا من قلبكم".
3
وقتما يؤكد أخي في أي صباح على غسل تيشيرت مارادونا، إذًا هناك مباراة مهمة بالنسبة له، انتقل تعبير "مارادونا" من الحيز الكروي الخاص، إلى الحيز العام للتعبير عن التمكُّن المهاري من أي شيء، يسألني أحد من العائلة بعد اختبار دراسي، فأجيب "حلّيت مارادونا" نطمئن على بعضنا في الأوقات الحرجة حينما يقول أحدنا "الحمد لله كله مارادونا"، ليس تعبيرًا فقط عن الكفاءة، بل عن التمكُّن المحفوف بغرور مستحق، مرونة في المجاز تحملها نسختي الخاصة من مارادونا، تتشابه مع مرونة ومهارة ماراودنا العام، المعنيّ بالعالم خارج غرفتي.
هارب من الحب، هارب من الألوهة
بعد فوز الأرجنتين بكأس العالم وعكس كل التوقعات، أصبحت الطموحات البعيدة سبل إغراء مارادونا، تضاعف طموح فريق نابولي من مساحة الفوز على فريق من أسياد الشمال، إلى الفوز بفارق أهداف ثم إلى طموح الحصول على الدوري الإيطالي، حصلت نابولي على الدوري الإيطالي موسم 86/87، خرجت المدينة بأكملها للاحتفال بتحقيق "الخلاص الاجتماعي للمدينة" مثلما يقول مدافع نابولي وقتها تشيزاري فيرارا.
تضخمت شعبية مارادونا من لاعب مميز، يتقدم بالفريق المتواضع نحو البطولات، إلى محبة مارادونا لأنه مارادونا. عقب عودته مباشرة من كأس العالم، كانت رفيقته كريستينا سيناجرا أنجبت طفلهما، صرّحت للصحافة الإيطالية بأن الولد ابن لاعب نابولي الشهير، لم يعترف الأخير به سوى بعدها بثلاثين عامًا في 2016. تجاهل جمهور نابولي، الجنوبي المحافظ، كل الضجيج الحاصل في الصحافة حول دييجو، بعد الحصول على الدوري الإيطالي تمركزت علاقة نابولي بمارادونا حول محبة تتجاوز أي فعل شخصي، سواء كان معروفًا عنه أنه بدأ في تعاطي الكوكايين بشراهة، أو أنجب طفلًا غير شرعيًا ولا يعترف به، أو أصبح أكثر عنفًا وعدائية تجاه الصحفيين، كل ذلك يتلاشى أمام وجود مارادونا كل يوم أحد في الملعب، يرتدي قميص نابولي.
توالت انتصارات نابولي، فوز بكأس إيطاليا بعد الفوز بالدوري الإيطالي مباشرة، ثم الدوري الأوروبي نسخة 89. خلال هذه الفترة تراجع دييجو الصغير، الطفل الآتي من ضاحية فقيرة في الأرجنتين، وطغى عليه مارادونا الذي يجاري متطلبات الشهرة ومزاياها. أدمن مارادونا تعاطي الكوكايين، دييجو يلتزم بحبه الكبير لزوجته كلوديا، ومارادونا يستمتع بالحفلات الليلية و النزوات الجنسية المتكررة. لا يلتقي دييجو بمارادونا خلال هذه السنوات إلا آخر كل ليلة، حينما يعود مارادونا منتشيًا إلى البيت، يجد ابنته مستيقظة في المنزل، يختبئ دييجو في الحمّام حتى لا تراه.
كأس العالم 1990 في إيطاليا، لم يكن أداء مارادونا جيدًا مقارنة بأدائه في كأس العالم 86، صعدت الأرجنتين بصعوبة إلى نصف النهائي ضد إيطاليا. مفارقات القدر دفعت مارادونا للعب على استاد سان باولو، في مدينة نابولي، بقميص المنتخب الأرجنتيني ضد المنتخب الإيطالي.
قبل المباراة بأيام علّق مارادونا في لقاء سريع على المباراة "يعرفني الناس جيدا الآن، وسيدعمون فريقي الوطني، لا أستطيع طلب المزيد من شعب نابولي، بعد أن عشت معهم 6 سنوات، ولكن إن أرادوا رؤيتي سعيدًا، سيسرني دعمهم للأرجنتين، كما أننا نحتاج لذلك، لطالما ساعدت نابولي عندما احتاجت إلى ذلك".
تصريح مارادونا دفع مشجعي نابولي إلى رد واضح بدعم مارادونا، ظهرت كراهية شمال إيطاليا للأرجنتيني، لأنه أولا ينتمي لمدينة نابولي، ولأنه أَصبح جديرًا بأن يجعل هؤلاء "المتخلفين" كتلة فارقة، تستطيع أن تهدد المنتخب الإيطالي على أرضه. فازت الأرجنتين على إيطاليا، وخسرت في نهائي البطولة أمام منتخب ألمانيا الغربية. الكراهية الموجهة إلى مارادونا تضاعفت بعد البطولة في الصحف، أصبح مارادونا "إبليس يسكن في نابولي".
عصابة آل كامورا، إحدى العصابات المتحكمة في مدينة نابولي، كانت على علاقة بمارادونا منذ وصوله إلى هناك، خلال السنوات التي أدمن مارادونا فيها الكوكايين، كان محميا بهذه العصابة، طالما يوفر للمدينة قيمة اجتماعية ضد الشمال، لكن الصدام الذي حدث بين مارادونا والمنتخب الإيطالي في ملعب سان باولو، دفع آل كامورا إلى رفع يد الحماية عن مارادونا، فخرجت تسريبات مكالمات له تثبت حيازته لمخدرات، ثم يصدر تحليله بإيجابية التعاطي ويتم إيقافه ستة أشهر ويغادرالمدينة.
بسرعة تألق دييجو في نابولي، ثم تراجع ليظهر مارادونا الذي يستطيع مجاراة متطلبات الشهرة خارج الملعب، ولأن الأخير لا يجيد أكثر من تدليل الكرة وعيون المتفرجين خلال المباريات، تمتع دييجو مارادونا بحضور متميز، حتى وهو مشجع في المدرجات، يمكن من خلال احتفاله أن يخطف اهتمام المحيطين بالهدف و بالمباراة، يجتمعوا حوله، كأنّ احتفاله هو الحدث الأكثر جدارة بالاحتفاء. سبقت الدنيا مارادونا بالفقر، لكنه مثلما يراوغ كل شيء، راوغها بالتحرك ناحية خطوات مصيرية مبكرة، خطوات فارقة في مسيرته الكروية، وخطوات أخرى مهلكة لحياته، جميعها شكلّت دييجو آرماندو مارادونا.
4
حينما قرأت خبر وفاته، تذكرت أننا منذ سنوات كثيرة لم نجتمع في غرفتنا القديمة، أنا وأخي الكبير ومارادونا. اتصلت به، كنت أريد أن أعرف، هل يشمل موت مارادونا، النسخة التي أحبها في غرفتي؟ سمعت صوت أخي "إيه الأخبار؟ مارادونا؟" أخبرته "مارادونا مات" ليجيبني بكل ثقة "ما أنا عرفت، ماردونا بتاعهم إللى مات، بتاعنا لسه بيضحك في الأوضة".
* كل الاقتباسات الموجودة على لسان الشخصيات مأخوذة من الفيلم الوثائقي Diego Maradona سنة 2019 للمخرج Asif Kapadia