في صيف عام 1986 عندما كنت طفلًا في السادسة يقيم مع عائلته في مدينة الشارقة الإماراتية، تعرفت على دييجو أرماندو مارادونا.
هذه السنة استضافت المكسيك بطولة كأس العالم، وهذا يعني أن المباريات ستبث في أوقات الليل المتأخر أو الفجر. كنت أحاول النوم عصرًا كي أستطيع السهر لمشاهدة المباريات. أتذكر أبي متحمسًا خلال المشاهدة بينما أمي نائمة. عمي الأكبر كان لاعبًا في النادي الأهلي خلال الستينيات ولهذا ربما كان أبي كرويًا قديمًا، يفخر بأنه رأى بيليه وبوشكاش ودي ستيفانو وهم يلعبون مباريات ودية في استاد القاهرة.
مونديال المكسيك هو أول ما أتذكره من كرة القدم، لا يمكنك أن تنسى هدفي مارادونا في مرمى إنجلترا خلال مباراة ربع النهائي؛ أحرز الأول بيده والثاني بقدمه بعد أن انطلق كالسهم من منتصف الملعب و"رقّص" أكثر من نصف لاعبي المنتخب الإنجليزي.
ظن الحكم التونسي علي بن ناصر أن مارادونا أدخل الهدف الأول برأسه. لكن الحارس الإنجليزي بيتر شيلتون أكد أن الهدف كان ضربةً باليد. استعان بن ناصر بحكم الخط الذي أكد صحة الهدف، فاحتسب واحدًا من أكثر الأهداف جدلًا في تاريخ كرة القدم.
لكن جميع من شاهدوا لقطات الإعادة لاحقًا عرفوا الحقيقة، وعندما سُئل مارادونا نفسه عن الهدف، أجاب بجملة بدت وكأن جابرييل جارثيا ماركيز قد صاغها بنفسه ووضعها على لسان مارادونا "دخلت الكرة بمساعدة بسيطة من رأس مارادونا ومساعدة بسيطة من يد الله".
أطلقت الصحافة على هذا الهدف اسم "يد الله"، ولم تنس الصحف الإنجليزية حسابها القديم معه فقررت أن تلخص مسيرة مارادونا عند رحيله بالإشارة إلى هذا الهدف في كل عنوان.
أما الهدف الثاني، فاختير كأعظم هدف في القرن العشرين. مارادونا وحده كان قادرًا على الانتقام من هزيمة الأرجنتين في حرب الفوكلاند أمام بريطانيا عام 1982، محرزًا هدف "يد الله" و"هدف القرن" في مباراة واحدة.
أتذكر اللحظة التي شاهدت فيها أهم هدفين في مونديال المكسيك وربما في أي مونديال آخر. لكن حينها لم أكن أدرك ما عرفته بعد عدة سنوات عن أبعاد الانتقام الأرجنتيني الذي نفذه مارادونا بيده وقدمه وأسباب عدم قدرة الإنجليز على تجاوز تلك اللحظة. بعد نحو عشرين عاما قال مارادونا "حينها لم أكن أستطيع أن أقول الحقيقة. ما وصفته حينها بيد الله كانت في الحقيقة يد دييجو".
تناقضات البطل الخارق
خلال سنوات الثمانينات، كان لدي ثلاثةٌ يتنافسون على لعب دور "البطل الخارق"؛ مايكل جاكسون في الموسيقى، عادل إمام في السينما، ومارادونا في كرة القدم. ربما مايكل جاكسون لم يكن الأفضل موسيقيًا خلال تلك السنوات لكنه كان مختلفًا وسابقًا لعصره، كذلك عادل إمام الذي قدم أفضل أدواره وقتها لم يكن وحيدًا على القمة، فأحمد زكي ومحمود عبد العزيز ونور الشريف كانوا يزاحمونه دائمًا.
أما الأمر مع مارادونا فكان مختلفًا؛ لم يكن هناك من ينافسه على عرش اللعب، حتى مع وجود عظماء مثل ميشيل بلاتيني مع فرنسا وثلاثي هولندا المخيف ماركو فان باستن ورود خولييت وفرانك ريكارد، كاريكا مع البرازيل، وجاري لينكر مع إنجلترا، لوثر ماتيوس ويورجن كلينسمان مع ألمانيا الغربية، وبالطبع سيلفاتوري إسكيلاتشي وروبرتو باجيو مع الآزوري (إيطاليا)، لكن مارادونا كان شيئًا آخر.
جميع هؤلاء كانوا يلعبون الكرة، لكن دييجو يلعب بالكرة، والباء هنا مهمة لأنها الفرق بين المحترفين العظام الذين كانوا قادرين على إحراز الأهداف، ومارادونا الذي كان قادراً على أن يفوز بكأس العالم في المكسيك وحده، أو هكذا بدا لي حينها وما يزال يبدو ذلك لي الآن.
هدفه الثاني في إنجلترا دفع الصحيفة الفرنسية لإيكويب لأن تقول عن مارادونا إنه "نصف ملاك ونصف شيطان". وهكذا كان دييجو في الحياة؛ صاخبًا وغارقًا في كل الملذات والعلاقات مع النساء، رجال المافيا في نابولي، والمخدرات، مولعًا بالسهر والأكل وانفلات الأعصاب. ولكنه في نفس الوقت محب لفيدل كاسترو الذي رسمه كوشم على قدمه، وبرفيقه الأرجنتيني تشي جيفارا الذي وضع له وشمًا على ذراعه. يرفع أعلام فلسطين وفنزويلا وكولومبيا وكوبا ويعبر عن اعتزازه بشعوب أمريكا الجنوبية الرافضة للهيمنة الأمريكية.
خلال سنوات الطفولة كنا في الحي والمدرسة منقسمين بين تشجيع الأهلي أو الزمالك، الأرجنتين أو البرازيل، مارادونا أو بيليه. لكن لم يكن أحدنا قد رأى بيليه، فقط سمعنا عنه وربما شاهده بعضنا في لقطات أرشيفية قديمة. صورٌ لأشباح بالأبيض والأسود تركل الكرة وتحرز هدفًا بكرة معالمها غائمة. أما مارادونا فقد كان حاضرًا معنا بصوره الكبيرة وهو يركل الكرة بحذائه "بوما" أو هو يرفع كأس العالم بيدٍ واحدة، ربما هي نفس اليد التي أحرز من خلالها هدفه الانتقامي الشهير وسماها "يد الله".
كانت أحلامي بين مونديال المكسيك ومونديال إيطاليا أن امتلك حذاء كرة قدم "بوما" كالذي يملكه مارادونا، وأن امتلك كرة أديداس كتلك التي لعب بها في المكسيك. في حصص الرسم كنت أرسم مارادونا وهو يستعد لركل الكرة، وهي الرسمة التي كررتها في كل الحصص التي كانت تصيبني بالملل وتدفعني لتخيل مقاطع كاملة من مباريات مارادونا مع نابولي الإيطالي.
سنوات التيه
أما مونديال إيطاليا 1990 فهو الأكثر رسوخًا في الذاكرة. كنت مستعدًا له بكتاب الملصقات "بانيني". كما كنت أيضًا أشعر أن هناك ما يخصني فيه.
أولًا المشاركة المصرية الأولى بالنسبة لأبناء الثمانينات وكل أبناء الأجيال الأكبر. هدف مجدي عبد الغني الذي أحرز التعادل مع هولندا حينما صرخ محمود بكر بجملته الروائية "عدالة السماء تهبط على استاد باليرمو". محمود الجوهري وخطته الدفاعية الأسمنتية من أجل الخروج بتمثيلٍ مشرف. المشجعون المصريون الذين كان أغلبهم من طلاب الأكاديمية البحرية وكانوا يرفعوا أعلام مصر وعلمًا كبيرًا لفلسطين.
ثانيًا روجيه ميلا، لاعب الكاميرون العجوز الذي كان عمره 38 عامًا ومع ذلك استطاع أن يحرز أربعة أهداف وأن يجعل الكاميرون الحصان الأسود للبطولة، وأن يكون أول فريق أفريقي يصل إلى ربع النهائي في تاريخ كأس العالم.
ثالثًا المستوى الذي قدمه لوثر ماتيوس ويورجن كلينسمان في آخر مشاركة لمنتخب ألمانيا الغربية قبل توحيد الشطرين واللعب باسم ألمانيا. كانت الماكينة الألمانية بقيادة القيصر فرانز بيكنباور قادرة على سحق كل من يقف أمامها على أرض إيطاليا حتى وإن كانت هولندا ومثلث رعبها الشهير، أو انجلترا ونجمها المفضل لينكر.
رابعًا والأكثر أهمية؛ مارادونا الذي اقترب من حمل الكأس للمرة الثانية في ثالث مشاركة مونديالية له بعد 1982 و1986. بدأت الأرجنتين رحلتها وهي في مستوى أقل من المتوقع حيث حققت الكاميرون صدمة المونديال عندما فازت عليها بهدف مقابل لا شيء رغم أنها أنهت المباراة بتسعة لاعبين فقط.
كانت الأرجنتين ثالث مجموعتها وصعدت بصعوبة إلى الدور الثاني، ثم شقت طريقها بصعوبة أيضًا نحو النهائي بعد فوزها على البرازيل ويوغسلافيا وصاحبة الأرض إيطاليا. وفي النهائي واجه مارادونا الماكينة الألمانية التي أخذت منه الكأس في الدقيقة 85 بهدف أندرياس بريمه، وتركته مع دموعه.
أنا وأبناء جيلي نتذكر هذه الدموع جيدًا. ربما لأن مشاركته في مونديال أمريكا 1994 كانت باهتة وانتهت بطرده من الدورة بسبب المنشطات. وربما لأنها كانت آخر سنوات مجد بطل طفولتي الخارق الذي استطاع وحده أن يجعل فريق نابولي الإيطالي الفقير الفريق الأشهر والأقوى خلال سنوات الثمانينات.
بعد مونديال 1994 لم أعد أشجع الأرجنتين، أصبحت برازيلي الهوى بعد زمن مارادونا. احتفظت بتقديري للمنتخب الإيطالي وباجيو، وتعاطفت مع أي منتخب إفريقي في المونديال، لكن كل ذلك بلا حماس. زمن اللعب راح.
ثم اكتملت سنوات التيه، وخاض مارادونا معاركه مع الإدمان والعلاقات النسائية الكثيرة التي أسفرت عن أطفال لا يعرف بعضهم، ثم مسيرته المتخبطة في عالم التدريب والتي شهدت خسارته أمام ألمانيا بأربعة أهداف مقابل لا شيء في مونديال جنوب أفريقيا 2010، وبعدها درب أنديةً في الأرجنتين والإمارات والمكسيك ولم يحرز نجاحًا يذكر.
لكنه بقي رغم ذلك بطل طفولتنا الخارق، بقامته القصيرة وجسده غير الرشيق وسرعته الفائقة في الملعب وقدرته المذهلة في إيقاف الكرة وتغيير مسارها فجأة بدون مقدمات، ثم التسديد في زوايا غير متوقعة لحارس المرمى أو الجمهور أو نحن، أبناء الثمانينات المهووسين بأسطوريته.