تصميم: يوسف أيمن

خمسة أشياء يمكن أن تفعلها بدلًا من قتل مدرسٍ فرنسيّ

منشور الأربعاء 11 نوفمبر 2020

 

ربما لم يتوقع مَن رسم الكاريكاتير الساخر الذي يسيء إلى الرسول أن يدفع حياته ثمنًا لها في عملية اغتيال ستجد حشودًا تباركها. يعيش الرجل في بيئة لم يجد فيها ملحدًا متشددًا يقتله ما إذا ما سخر من أفكاره عن الإلحادية ويتوقع ردود فعل مشابهة من بقية الناس الذين يسخر من أفكارهم أو ينتقدها. 

وإذا نحينا خيار القتل جانبًا، يمكننا الحديث عن خمسة خيارات أخرى يمكن أن يلجأ لها الإنسان عندما يجد ما يؤذي مشاعره، وهي تصرفات جديّة ولكنها مسالمة. جديّة دالّة على غضب واستياء، وفي الوقت نفسه لن تشكل جريمة قتل تخالف القانون وترسخ صورة المسلم العنيف الذي لا يمانع أن يستل سيفه ويشق عنق شخصًا ضايقه.

نحن نأمل ألا يحدث مثلما حدث مجددًا، سواء من قتل للمسيئين، أو سخرية من الأديان والمقدسات، ولهذا سنوضح هذه الأشياء الخمسة التي يمكن فعلها بدلا من القتل، لنعطي خيارات أخرى للغاضبين يمكن لمن يريد أن يختار منهم شيئًا أو اثنين، أو ثلاثة، حسبما يحلو له، آملين ألا يستل سيفه وينقض على أحدهم.

اكتب

ألف باء تعبير عن الاستياء؛ أن تقول إنك مستاء، هكذا، ببساطة. تكتب وتقول، على سبيل المثال، إن "هذه الرسوم الكاريكاتيرية آذت مشاعري، رجاء ألا تفعلوها مرة أخرى". تظهر على الهواء في محطاتهم وتقول "تلك الأفكار التي تعتبرونها مجرد أفكار، تمثل لنا الحياة، نحن نقول بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أي أنه أعلى منزلة في قلوبنا من الأب والأم، وعليه، فنحن لا نقبل أن يتم السخرية منه أمام العالم"، يمكنك أن تعقد المؤتمرات حول العالم وتدعو أصحاب الرسوم الساخرة لتشرح لهم كيف أن ذلك الأمر لا يطيقه المسلمون، فهو بمثابة قضية حياة أو موت بالنسبة لهم.

بالطبع ستواجه مشاكل في إقناع الطرف الآخر بكلماتك، لن يكون سهلًا أن تقنعهم أن يكفوا عن القيام بأمر ما لأنه شديد الحساسية بالنسبة لك، سيرون أنك تهذي، أو تريد أن تجعلهم يتوقفون من أجل التوقف ليس إلا.

وبما أن ذلك الحل لا يحمل في طياته أي وسيلة من وسائل الضغط بل الإقناع، فنسبة نجاحه ضعيفة؛ لا تتوقع ممن تقول له "لا تسخر مني من فضلك" أن يتوقف عن سخريته منك، بل بالعكس، ربما يجعله ذلك يزيد من الأمر، فتصير مطالبتك بالتوقف حافزًا له للاستمرار في سخريته.

كما أن رد الفعل هذا، بالنسبة للغرب، غير مبرر ولا مطروق؛ لقد تعودوا على السخرية من الأفكار والرموز، ولم يجدوا من قبل أحدًا يبدي استياءه، هم يعلمون أن من يستاء لا يُظهِر استياءه علنا، وأن بإظهاره أنه مستاء، سيكون ذلك إعلانا خفيا بأنه يرفض أن يمارس الآخر حريته في التعبير.

وبالتالي فخيار إبداء الاستياء لن يكون منتجًا لأثره ما لم يكن خيارًا جماعيًا جماعيًا، فيتحول إلى وسيلة للضغط، ولكن في كل الأحوال عليك أن تتوقع ردودًا على شاكلة "لو كنت مستاءً، فلا تتابعنا وتجاهلنا في صمت".

وهنا، تظهر أهمية الخيار الثاني، الذي يمكن نمارسه بالتوازي مع الأول، فيحققان معًا كل فائدة مرجوة.

قاطع.. ولكن

يعتبر هذا الحل من الحلول المشهورة، والذي دخل حيز التنفيذ بالفعل في قضيتنا، ولكن الرهان عليه صعب؛ فلينتج أثره يجب أن تتوافر شروط اقتصادية معينة، أولها أن نتحقق من أنها ستنتج أثرها، وأن الشعوب العربية والإسلامية ستجمع عليها فردا فردا، وفي الأغلب هذا لا يحدث كثيرًا، وبالتالي فالجدوى من المقاطعة الاقتصادية ليست مؤكدة، والشاهد منها هو إعلان رسالة رمزية تفيد بأن المسلمين مستاؤون، ولذلك فقد تكون المقاطعة لها فاعلية أكبر إن تم ممارستها بالتوازي مع إعلان الاستياء.

ناهيك بالطبع عن الخسائر التي ستلحق بالموظفين الوطنيين الذين يعملون لدى الشركات الممثلة لأصولها الفرنسية بالخارج؛ فإن كان لهذا الحل فاعلية، وإن كانت ضئيلة، إلا أنه يعد مخاطرة غير محمودة العواقب، بتعطيل الحياة العملية لأبناء نفس الشعب الذي يدعو للمقاطعة.

هذه مفارقة لا حل لها تقريبا؛ ما يجعلنا نقفز قفزة إيمان للأمام، متوجهين إلى الحل الثالث الذي لم نمارسه بطريقة منهجية من قبل.

اسخر

لا يفل الحديد إلا الحديد؛ محاربة الرسوم الكاريكاتيرية برسومات كاريكاتيرية مضادة، حل جديد علينا تقريبا. 

حسنًا، نحن لا نحب السخرية من ثوابتنا، لقد تربينا على ذلك، جئنا إلى هذه الدنيا لنجد آباءنا يخبروننا بذلك، علمونا أن هناك خطوطًا حمراء علينا الحذر من الاقتراب منها. ولكن هنا نحن لا ندعو إلى السخرية من ثوابتنا نحن، حاشا لله، ولكن ماذا عن ثوابت الآخرين؟ هؤلاء لا يعنونا ولا تعنينا ثوابتهم، فإذا كانوا يسخرون من ثوابتنا فلماذا لا نسخر نحن من ثوابتهم، ولينتصر الأخف دمًا؟

تبدو هذه فكرة جذابة، ومثيرة، محاربة الغرب بما لا يتوقعون صدوره منا، إنها ضربة قاصمة، وسيكون لها فاعلية كبيرة إن اتحد العرب والمسلمين في السخرية من كل شيء يتعلق بالغرب، فلنمارس التنمر كما تعلمناه جيدا، ولنُخرج ما في جعبتنا من أسهم نارية تضرب أسس وثوابت الغرب في مقتل.

فلنسخر من كفارهم وملحديهم، الغنوصيين واللا أدريين. اسخروا من أديانهم الوضعية، لكن احذروا، لا تسخروا من رموزهم المسيحية كي لا تشعلون فتنة طائفية في صفوف شعوبكم، ولكن إن كنتم أرثوذوكسيين فلتسخروا من تعاليم البروتستانت والكاثوليك، لا ضير في ذلك. اسخروا من سياساتهم وساساتهم وقادتهم.

اسخروا من عاداتهم وتقاليدهم، هؤلاء قوم لا يضعون شطافات في حماماتهم، اسخروا من إباحيتهم الجنسية، أخلاقهم الديّوثة، علاقاتهم المشبوهة، ممارسة الجنس الفردي والجماعي والحمل قبل الزواج. اسخروا من المثليين، المتحولين، أفلام البورنو، السياحة الجنسية، الدعارة العلنية.

اسخروا من ثقافتهم الضحلة. اسخروا من تاريخهم الأسود المليء بالمذابح والإبادات ولا تلتفتوا كثيرًا إلى أنهم تجاوزوا اليوم هذه المراحل. ذكروهم بمحاكم التفتيش والويلات، الحروب الأهلية والعالمية، وإنسان النايندرتال الغبي الذي سيطر عليه الهومو سابيانز الأفارقة منذ عشرات آلاف السنين. 

اسخروا، إنها دعوة عامة ومفتوحة للسخرية، مارسوا حرية التعبير بأريحية، ولن يجرؤ حينها أن يقول لنا أحدهم ثلث الثلاثة كم. 

نقطة القوة التي تضاف لهذا الحل، أنه رد بنفس السلاح، حرية التعبير مقابل حرية التعبير، ولنرى من منا سيغلب الآخر في النهاية، هل الفرنسيين أخف دمًا منا؟ هل يستطيع ألماني أن يطلق إيفيهًا بنفس قدرتنا كمصريين؟ 

قديما كان جرير والفرزدق يهجوان بعضهم بعضا شعرا، وعندما كتب الغزالي تهافت الفلاسفة، رد عليه ابن رشد بتهافت التهافت، وحديثا رد ويجز على الفنان محمد رمضان بدورك جاي، ولا ينفك الفنان محمد هنيدي يقصف جبهات الفنانين من حوله بصورايخ تغريداته. إنها المعادلة المثالية التي نجدها في كل شيء حولنا؛ المناظرات، المجادلات، النقاشات الفكرية، وغير الفكرية، المنافسات، الانتخابات، الحضارات.

كل شيء من حولنا يتلخص في نقد أفكار الآخرين. يبدو أنه حل مثالي. ولكن، ما زال هناك حلان أكثر فاعلية من السخرية المضادة.

لا تكن مُضحِكًا

لماذا يسخر الآخرون من مقدساتنا؟ بل لماذا يسخر الناس عموما من أي شيء؟ هل يسخر المرء من الشيء الحسن، أم من الشيء القبيح؟ هل يسخر من الأمر الصحيح، أم من الأمر الخاطئ؟ السخرية هي نقد لاذع، وفن في نهاية المطاف، غايته إبراز مساوئ قضية ما، فيظهرها بصورة كاريكاتيرية، ويقوم بتضخيم مساوئها، لتظهر كم هي قميئة، وهنا يكون الساخر قد عبر عما يريد أن يقوله حيال تلك القضية، بطريقة استهزائية، فكاهية في كثير من الأحيان.

إذن، فلابد من وجود خلل ما يستفز دماغ الساخر ليكتب المقالات ويؤلف الكتب ويرسم الكاريكاتير ويصنع الأفلام والبرامج الساخرة، فلنبحث عن أي مادة للسخرية، سنجد أن بها خلل واضح وصريح، وأن هؤلاء القوم لا يسخرون من فراغ.

وفي حالة المقدسات الدينية، لن تجد من يسخر من بر الوالدين مثلا، ولا من معاملة الآخرين بالحسنى، ولا من التعاليم الإنسانية الرفيعة، بل ستنصبُّ السخرية على تفاصيل أخرى، بحاجة إلى إعادة تدوير، وفلترة وتهذيب؛ كإرضاع الكبير مثلا، أو التبرك ببول الإبل وبول النبي، أو ما ذُكر في بعض الكتب أن الرسول تزوج من عائشة ودخل بها وهي ابنة 12 عاما، أو ملكات اليمين واستعباد البشر، أو انتشار الإسلام بحد السيف، أو حتى قتل المدرس الفرنسي كرد فعل على حرية التعبير، ففي فعل القتل إساءة للإسلام أكثر من إساءة الرسوم الكاريكاتيرية.

ولكن، للأسف، يعوق هذا الحل أمران: الأول، أنه مخطط طويل الأجل، وتنفيذه بصورته الكلية يعتبر من أصعب الأمور؛ فلا نتوقع في يوم وليلة أن يجتمع المسلمون على تصحيح المفاهيم الدينية، فما زال بيننا كثير من محبي التبرك ببول الإبل، ومؤيدي إرضاع الكبير.  

أما الأمر الثاني، فهؤلاء الساخرون الفرنسيون الملاعين، سيسخرون من أفكار الدين الأساسية، كالألوهية ذاتها، وفكرة النبوة، والرسل، وهي مفاهيم لن نستطيع أن نصححها، أو نقترب منها. 

بالطبع سيسخرون، فهي أفكار بها خلل ما بالنسبة للملحدين، الدين كفكرة، بعيدا عن تفاصيله، سيسخرون منه ومن رموزه، هؤلاء الزنادقة لن يهدأ لهم بال حتى وإن صححنا لديهم كل المفاهيم الدينية المغلوطة. هل انسدت كل الطرق أمامنا أم أن هناك بصيصًا من الأمل؟

أعرض عنهم

يمكننا أن نطلق عليه الحل الإلهي؛ فالله قد أنزل في القرآن كيفية التعامل مع ما نحن بصدده تحديدا، وما هي ردود الفعل التي ينبغي اتخاذها على من يسخر من الدين ويستهزئ بآيات الله، حيث قال تعالى "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" وقال أيضا "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" لا فرق بين الآيتين تقريبا، الأولى يخاطب الله فيها الرسول، والثانية يخاطب جموع المسلمين.

أمر إلهي من فوق سبع سماوات، يقول بأن نتحلى بالصمت ونتجاهل من يسخر من أيات الله. إنه الحل الأكثر سلمية، والأكثر فاعلية على الإطلاق؛ فهناك خطاب ضمني يفيد بأن من سيحاسب هؤلاء ليسوا نحن، فالحساب هو من شأن الرب، لا ينبغي أن تعنينا سخرية البعض من رموز ديننا، "لا تقعدوا معهم" ببساطة، وللمفارقة، فقد أخبر معلم التاريخ صامويل باتي طلابه المسلمين إن هم اعتقدوا بأن ما يفعله يؤذي مشاعرهم، فيمكنهم أن يخرجوا من الغرفة، ألا يقعدوا معهم، أو كما قال الله تحديدا، وربما لم يكن باتي يعلم أن تلك النصيحة، هي أمر إلهي من صميم دين المسلمين.

ولكن الأمر لا ينتهي عند ذلك، بل قال الله "حتى يخوضوا في حديث غيره". معنى ذلك، ألا نحمل ضغينة أبدية تجاه من يسخر من آيات الله، بل لا نحمل ضغينة أصلا، فحسابهم عند الله، فإن هم انتهوا عن استهزائهم بالدين، وتطرقوا لأحاديث أخرى، فيمكننا استكمال مجالستهم، والتعامل معهم كما كنا نتعامل، إنه ظرف وقتي، يحمل بين طياته احتراما لحرية التعبير المكفولة لدى الآخرين، فيمكننا أن نتجاهلهم إن كان ذلك يؤذي مشاعرنا، أو حتى لا نصبح مثلهم كما قال الله " إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ" أي توافقون على ما يقال من سخرية، وتشاركون الساخرين في المأثم. لسنا مطالبين بالرد على تلك الإهانات الساخرة، بل مطالبون بالصمت والتجاهل، فبإمكان طلاب باتي المسلمين أن يخرجوا من الغرفة، وباستطاعتهم أن يدخلوها مرة أخرى عندما ينتهي من عرض الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول، ويتطرق إلى دروس أخرى، إنها الإنسانية في أبهى صورها.

كما أنه الحل المتبع في جميع ربوع الأرض، ولا سيما في الدول التي تحترم الحريات، حينما يتعلق الأمر بالسخرية من المقدسات والتابوهات، باعتبارها أفكار، يلتزم الجميع الصمت، يتركون الآخرين يتحدثون كيفما يحلو لهم عن ثوابتهم، إنه رد الفعل الطبيعي في تلك البلاد، حتى وإن سخروا من ساساتهم، فلن تقوم القادة بعمليات إبادة جماعية لشعوبهم، وإنما يتركوهم يعبرون عما يريدون، بالطريقة التي يختارونها، التي لا تحرض على العنف، ولا تؤصل للعنصرية ضد أناس بأعينهم، ولا تدعوا الناس لقتل بعضهم بعضا. 

إنها أفكار، والأفكار ليست حكرًا على أحد، والصمت في حرم السخرية حكمة.