في ليل يناير/كانون الثاني، قد لا يجد الناس مفرًا يلجؤون إليه لاتقاء البرد سوى ما يكدسونه فوق أسرتهم من أغطية، وكان مثلهم ينتظر فرصة للخلود إلى النوم، لكنه لم يكن يشعر بالبرد، بينما يقف أمام النضارة (فتحة صغيرة في باب الزنزانة)؛ تدفؤه أنفاس زملائه الذي يحيطون به بين نائم ومنتظر لدوره في النوم، داخل حجرة الحجز التي تتسع بالكاد لوقوف 12 شخصًا، هم عدد المسجونين معه في الزنزانة.
قضى محمد علي*، 35 يومًا في قسم السيدة زينب، قبل ترحيله إلى سجن طره تحقيق (وهو أحد السجون داخل مجمع سجون طره)، على ذمة قضية سياسية وجه له خلالها اتهامات بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية، يقول إن الحياة في القسم مستحيلة مقارنة بالسجن "القسم ده مقبرة، فعلا مقبرة بكل المقاييس، الأوضة اللي بيتقال عليها الحجز مترين في مترين، كان عددنا فيها 13 واحد، مش بنشوف الشمس، مقفول علينا الباب لمدة 45 يوم، وفي ناس كانوا موجودين من قبلي كمان، ديكور الأوضة دي عبارة عن أرض وحيطان ملهمش ملامح، وأكياس متعلقة على الحيطان فيها أكل وهدوم، وستارة وراها فتحة في الأرض هي دي الحمام وحنفية".
تضم أقسام الشرطة العديد من المسجونين، الذين يقضون فيها فترات قد تصل لعدة أشهر، داخل غرفة الحجز، قبل ترحيلهم إلى السجون لقضاء فترة العقوبة، أو الحبس احتياطيا على ذمة القضايا المتهمون فيها، وفي حالة محمد، كانت حجرة الحجز في قسم السيدة تكفي بالكاد المسجونين الثلاثة عشر للجلوس، أما عند النوم فيختلف الوضع "الأوضة مكنتش بتكفي إن كلنا ننام في نفس الوقت، فكنا بنبدل أوقات النوم، شوية يناموا ولما يصحوا الباقي ينام، مكنش في حل غير كده، وريحة المكان اللي المفروض اسمه حمام كنا بنتغلب عليها عن طريق قزازة فاضية بنملاها صابون ونسد الفتحة بيها، علشان بس نقدر نعيش في الأوضة دي".
العالم من خلف النضارة
ما يربط ساكني الحجز بالعالم الخارجي، هو فتحة في الباب تدعى النضارة، وهي نافذة صغيرة تسمح للمحبوسين خلفها بالتحدث مع أمناء الشرطة، أو رؤية ذويهم أثناء الزياة. وتنقسم الزيارات، في قسم السيدة زينب إلى نوعين، الأول يسمى الطبلية، وهي يومية، تسمح للأهالي بإدخال المأكولات والملابس والأموال للمحبوسين دون مقابلتهم، أما النوع الثاني فيسمى الرؤية، ويسمح فيها للمسجون بأن يرى زائريه "الرؤية كانت عبارة عن 30 ثانية، بشوف خلالهم مراتي وولادي، وطبعا مش عارف أسلم عليهم ولا أحضنهم، لأنها من ورا النضارة وجنبنا أمين الشرطة، اللي بياخد مننا كل يوم أكياس الأكل الباقي والزبالة، ونطلع معاه الهدوم الوسخة يوم الخميس يديها لمراتي تغسلهم".
أرسلوني إلى السجن
لا توجد مدة معينة يحددها القانون لبقاء المتهم في القسم، وفقا لما يوضحه المحامي نبيه الجنادي للمنصة "الأقسام عامة مبتحبش تخلي عندها المساجين فترة طويلة، لأنها في الأصل مش مكان احتجاز، لكن كمان مفيش قانون بيحدد مدة بقاء المسجون في القسم، طالما لسه متحكمش عليه".
تجعل ظروف اﻹقامة غير اﻹنسانية داخل حجز اﻷقسام المحبوسين طواقين -دائمًا- للانتقال إلى السجن، ﻷنه وفق تجربتهم وبحسب مايصفه جنادي أيضًا "مفيش مقارنة بين القسم والسجن، لأن المعيشة في السجن أفضل بالنسبة للمسجون، بيقدر يخرج تريض، ويشوف أسرته في مواعيد الزيارات لفترة أطول".
بعد مرور شهر ونصف، أخبر أمين الشرطة محمد أن عليه لم أغراضه لترحيله لسجن طره "حسيت وقتها إنه يوم عيد، ونسيت أصلا أني محبوس على ذمة قضية، وخلاص هتحرك من الأوضة دي، اللي كنت خايف أموت فيها، هروح السجن الأوسع، وهشوف الشمس اللي عضمي بدأ يوجعني بسبب عدم التعرض ليها".
قضى محمد عامًا ونصف في سجن طره تحقيق، وصفهما بأنهما أقل سوءًا مما تعرض له خلال الشهر ونصف اللذان قضاهما في القسم "السجن سجن، والحبسة طبعا مش حلوة، بس فكرة إن باب الزنزانة بيتفتح كل يوم، والشمس تدخل، إني أقدر أنزل وألعب رياضة لساعة أو أكتر كل يوم ما عدا يوم الجمعة، ده في حد ذاته كان ممكن نسميه أحسن الوحش، بشوف أهلي مرة في الأسبوع وبسلم عليهم وأخدهم في حضني لمدة ممكن توصل لنصف ساعة وأطمن عليهم، عددنا في الزنزانة كان 21، بس المساحة كانت أكبر، وكل واحد كان ليه تقريبا نص متر بالعرض ينام فيهم".
ووفق لائحة السجون، يمكن للسجين التريض يوميًا لمدد تختلف من سجن لآخر، وقد تصل لثلاث ساعات، ومن حقة أيضا إدخال الكتب الدراسية والملابس.
أيام الجرب
في قسم شرطة عابدين، قضى أحمد عادل* خمسة أشهر، بدأت في سبتمبر/أيلول، قبل ترحيله لسجن طره استقبال، لكن حاله كان أفضل قليلًا من محمد "الأوضة اللي أنا كنت فيها كانت لمساجين سياسين وأموال عامة، ودي الأوضة الوحيدة في القسم كله اللي كان فيها تكييف، بس مقابل التكييف ده كنا بندفع له زي إيجار 100 جنيه في اليوم، بياخدها مننا أمناء الشرطة، وطبعا ده كان تكلفة كبيرة أوي، وفضلنا ندفعها حتى بعد مرور فصل الصيف، باعتبار إن الأوضة دي هي المميزة في القسم".
الحجرة التي عاش بها أحمد، ضمت 18 شخصا، في مساحة لا تتعدي الأربعة أمتار، يتبادلون فيها الأدوار للنوم أيضا، ويلتقون بذويهم من خلف النضارة، يومي السبت والاثنين، وبعد مرور الشهر الأول بقسم عابدين، حاولت زوجته التواصل مع مأمور القسم، وسؤاله عن موعد ترحيل زوجها للسجن، فأخبرها أنه قرار لا علاقة للقسم به "كنت كل زيارة رؤية بتضيع مني في سؤال مراتي عن امتى هترحل من القسم، كان نفسي أشم ريحة تانية غير ريحة الأكل اللي بتفضل معانا طول اليوم بسبب ضيق الأوضة، اللي مفيش فيها أي فتحات تهوية غير النضارة".
بدأ أحمد يعاني من الحكة وأمراض جلدية أخرى ظلت تلازمه، حتى جاء موعد ترحيله لسجن طره، على ذمة قضية سياسية بتهمة نشر أخبار كاذبة، بعد مرور 5 أشهر من احتجازه "روحت السجن وتقريبا كان جسمي كله بقع، وجالي جرب، واكتشفت إن ده مرض متعارف عليه عند اللي داخلين السجن، بسبب القعدة الطويلة من غير شمس، أو ضيق المكان، وعدم التهوية، وفي الزيارت مراتي بدأت تجيب لي أدوية للحساسية والجرب، فضلت استخدمهم لمدة 10 شهور، هي المدة اللي قضتها في السجن".
دورات المياه هي المكان المشترك من حيث الشكل بين القسم والسجن، وفقا لما وصفه السجناء السابقين للمنصة، عبارة عن ستارة، يتبعها فتحة في الأرض متصلة بصرف صحي، وحنفية للمياه، تمكنهم بواسطة استخدام خرطوم من الاستحمام، ويستخدمونها أيضا لغسل الأواني والأطباق التي يتناولون الطعام فيها، وبجانب دورة المياه، ثمة سخان لتسخين الطعام وإعداد الشاي والقهوة، أو تسخين المياه للاستحمام في فصل الشتاء، فيما يستخدمون البطاطين للنوم فوقها على الأرض، ويضعون أغراضهم في أكياس معلقة على الجدران.
زيارات الأقسام بصورتيها، يحدد مواعيدها كل قسم بشكل مختلف عن الآخر، أما زيارات السجون فكان مسموح بها قبل انتشار فيروس كورونا مرة أسبوعيا للمسجون احتياطيا، ومرة كل أسبوعين للمحكوم عليه، كما يقول الجنادي، وبعد انتشار فيروس كورونا، صار يسمح بالزيارة لمرة واحدة شهريا من وراء حاجز، عقب استئنافها من بعد توقف دام لخمسة أشهر بسبب الجائحة، أما زيارات الطبلية، فصارت مرة واحدة.
رحلة عكسية
قرار ترحيل السجين من القسم لأحد السجون يصدر من خلال وزارة الداخلية، التي تتواصل مع مصلحة السجون، وترسل للقسم قرارًا بترحيل المسجون لأحد السجون التي لا يشترط أن ترتبط بمحل إقامته، كما يوضح الجنادي، مشيرا إلى أن وزارة الداخلية من حقها شن حملات تفتيشية على أقسام الشرطة، كما يتم في السجون، لكنه إجراء لا يحدث كثيرا، بسبب أن الأقسام في الأصل ليست مكانا للاحتجاز، ولكنها مكانا مؤقتا للشخص ينتقل بعدها للسجن، ويشير الجنادي إلى أنه عقب إخلاء سبيل السجين، فإنه يذهب مرة أخرى للقسم التابع لمحل إقامتة لاستكمال إجراءات إخلاء السبيل الخاصة به، والتي تختلف مدتها من قسم لآخر، وأيضا من شخص لآخر.
لذلك عايش رامي أحمد* التجربة بصورة مختلفة، ففي العام الماضي قبض عليه بمدينة ميت غمر، ووضع في سجن المنصورة العمومي مباشرة، وقضى فيه ثمانية أشهر، بتهمة إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والمشاركة في تجمهر، ثم حصل على إخلاء سبيل، انتقل بعده إلى قسم مدينة ميت غمر، محل إقامته لتنفيذه، لكنه ظل في حجز القسم 15 يومًا "السجن مش جنة، بس مقارنة بالقسم فهو أحسن، المكان في السجن أوسع، وفتح الزنزانة وقت التريض، ونقابل ناس من زنازين أخرى، ونشوف أهلنا كل أسبوع من غير حاجز، كل دي حاجات مش موجودة في القسم، اللي هو مكان ضيق مفيش فيه تهوية مقفول عليك الباب طول الوقت، بتتخنق من الجو حتى لو كنت في عز الشتا، وبتحس إن حيطانه نفسها خنقاك، أنا بالنسبة لي الأسبوعين اللي قعدتهم في قسم ميت غمر كانوا أصعب من الـ8 شهور كلهم".