"المحاكمة الثورية كنا نطالب بها منذ بداية أحداث الثورة. ولكن للأسف تواطأ غالبية مَن كانوا على الساحة من رموز الإصلاح وليس التغيير حول خسائر المحاكمة الثورية، من حيث عودة الأموال المهربة للخارج وما شابه ذلك. الحقيقة هذا الكلام كان مقصودًا منه ما نحن فيه الآن. قضية محكمة الثورة هذه ضرورة لأي ثورة بتحدث في أي مكان في العالم".
في 5 يونيو/ حزيران 2012، جلس الناشط السياسي محمد الأشقر أمام كاميرا إحدى الفضائيات يحلل بهذه العبارات الوضع الذي آلت إليه البلاد بعد ثورة 25 يناير، من قبيل هروب عدد من رموز نظام مبارك من مصر والمحاكمات، بل وترشّح بعضهم لمنصب الرئيس.
ما نطق به اﻷشقر في تلك اللحظة كان ما تمناه كثمرة لجهود ضد الفساد بدأها قبل الثورة بسنوات، حين كان أحد قياديي العربي الناصري، الحزب الذي دخل منه إلى الحركة السياسية البارزة كفاية ليعملان سويًا رغم اختلاف الأنظمة، إلى أن شهد نشاط الحركة خمولًا في الأعوام الأخيرة، وتعرض هو نفسه لمشكلات صحية انتهت إلى وفاته أمس عن عمر 75 عامًا.
كفاية مبارك
خلال اﻷعوام الأولى من اﻷلفية الحالية، كان الرئيس اﻷسبق حسني مبارك يستعد لفترة خامسة من حكم بلد شهد في عهده سيطرة سياسية واقتصادية لرموز حزبه "الوطني الديمقراطي"، وكوارث كان منها حريق قطار الصعيد عام 2002 ومن قبله غرق العبارة السلام عام 1998؛ ما دفع قطاع من المصريين لقول "كفاية" لحكم هذا الرجل، ولو سرًا.
لكن مع الوقت، لم تعد "كفاية" مجرد كلمة احتجاجية، إذ تحوّلت عام 2004 إلى اسم شهرة مختصر لـ"الحركة المصرية من أجل التغيير"، التي أسسها وشارك في أنشطتها صحفيون وأكاديميون وسرعان ما انضم إليها محمد اﻷشقر، في خطوة لم تكن بالمفاجئة من رجل كانت مشاركته في الفعاليات السياسية، لاسيما الاحتجاجية بمثابة فرض عين، كما تبيّن من حديث صديقه وأحد مؤسسي حركة "كفاية"، جورج إسحق.
يذكر إسحق للمنصّة ما كان من نشاط للأشقر حتى قبل "كفاية"، وكان سببًا في تعرفّهما بقوله "عرفت محمد لما اتقابلنا في مظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية عام 2001، وبعدها في مظاهرات دعم العراق ضد الاحتلال الأمريكي 2003. ولفت نظري وقتها قد إيه كان راجل شجاع. واكتشفت بعدها إنه كان ساكن جنبي في الجيزة وأنا ماعرفش".
بعد هذا التعارف، وفي تلك السنوات التي أصاب فيها النشاط السياسي في مصر خمولًا إلا من مشاركات برلمانية محدودة سُمح بها للأحزاب أمام حزب النظام، جاءت كفاية لتضع حدًا للسطوة المباركية، فكان من العجائب آنذاك أن يشهد المارة في وسط البلد أشخاص يقفون في أمام دار القضاء العالي وهم يرفعون بين أيديهم لافتات صفراء تحمل كلمة "كفاية".
"كفاية" الكلمة التي رفعها زملاؤه في الوقفات الاحتجاجية، اختار الأشقر أن ترافقه في أغلب أوقاته أينما حلَّ، وفقًا لما يسترجعه إسحق من ذكريات عن صديقة "محمد لما انضم لنا في كفاية، ماكنش بيفوت مظاهرة إلا ويشارك فيها، وكان عامل يافطة معلقها على مكتبه في الجيزة وكاتب عليها كفاية، وكمان كان عامل منها ملصقات صغيرة مغرّق بيها عربيته".
تلك السيارة كانت شيئًا مما اشتهر به الأشقر، ليس فقط بسبب الملصقات، بل لموقف سببته الملصقات مازال إسحق يذكره "في مرة كانت عربيته مركونة في جراج في وسط البلد، وفجأة الأمن صادرها بسبب ملصقات كفاية. ووقتها دي كانت واقعة غريبة لكن قدرنا نتدخل ونحل المشكلة. وقتها كان فيه مجال للاحتكاك والنزول للشارع".في تلك الأيام، ورغم مساحات الاحتكاك، كان الأمن يستهدف اﻷشقر بطرق عديدة، فهو مَن ألقت الشرطة القبض عليه يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 من وسط البلد، قبل أن يشارك في مسيرة لسنترال الجيزة مع نشطاء "اللجنة الشعبية لحماية المستهلك من الجباية والفساد"، احتجاجًا على "فرض رسوم جمع القمامة الباهظة لفواتير الكهرباء في ظل تردي الخدمات".
وكما لم يتوقف الأشقر عند أنشطة "كفاية" و"العربي الناصري"، لم يكتف الأمن بمجرد القبض عليه، ففي ذلك اليوم أخذها الرجل "كعب داير" بين قسمي شرطة ثم نيابة وجهت إليه اتهامات منها "تكدير الأمن العام، وإشاعة أكاذيب، وتوزيع بيانات مغرضة"، قبل أن تقرر إخلاء سبيله.
مع ذلك لم يتراجع اﻷشقر، فهو من أكدَّ في تصريحات عقب خروجه أن "التحرشات الأمنية لن تمنعه من مواصلة الحملة ضد الفساد بقطاع النظافة بالجيزة، وأعلن عن عزمه توسيع الحملة لتشمل النضال ضد الجباية والرسوم الباهظة التي تفرض على خدمات المياه والتليفونات".
نشاط مكوكي
"مهندس وهب حياته لمصر، وانتمى لعبد الناصر وأفكاره"، هكذا رأى أمين إسكندر الكاتب والناشط السياسي صديقه الراحل محمد الأشقر، الذي يقول عنه "كان محمد كادرًا شعبويًا، منذ انضم لعضوية كفاية ضمن المائة الأوائل. فكنا لا نسمع منه أفكارًا قدر ما نراه يتحرك في الشارع بسيارته الممتلئة بصور عبد الناصر ولافتات كفاية التي ألقي القبض عليه أكثر من مرّة بسببها".
المشاركات في الفعاليات الميدانية لم تتوقف بالنسبة للأشقر، حتى بعد أن رأى البعض أن نشاط الحركة هدأ وربما انتهى، خاصة بعدما شهدته من انشقاق وانسحاب لعدد من أعضائها عام 2006.
كان الأشقر بين المشاركين في إضراب عام 2008 الذي نظمته حركة 6 أبريل؛ وحينها تكرر القبض عليه، الذي اعتبره البعض في تلك الأعوام أمرًا طبيعيًا لرجل "اعتاد المشاركة في المظاهرات بملصقات على فمه وسلاسل بين يديه تعبيرًا عن القمع"، كما اعتاد، وفقًا لمقربين منه "تجهيز حقيبة ملابس يصطحبها معه كلما طرق الأمن بابه للقبض عليه".
التعامل مع الأمن لم يكن بالنسبة للأشقر بهذه البساطة في كل الأوقات، فهو وإن سلّم بأمر القبض عليه، لم يكن يسمح بالتجاوز ضد أصدقائه، بحسب ما يرويه إسحق "محمد كان لطيف ومحب ومتفاني جدًا، وأذكر له في مرّة كنا في مظاهرة أيام مبارك، واﻷمن اتعدى بالضرب على عبد الوهاب المسيري؛ فوقتها الأشقر اتدخل بسرعة وبدون تردد وحجّز بينه وبين اﻷمن وفداه بنفسه".
هذه المواقف لم تكن غريبة على الأشقر المعتاد على العمل الميداني، وفق ما شهد به إسكندر للمنصّة عن حركاته المكوكية بقوله "في تاريخ مصر فيه ناس جميلة وبسيطة، ومحمد كان منهم. يعني هو ماكنش بيهتم بتعميق أو نقد الفكر قد ما كان مهتم بإنه ياخد كام سميطة وغموس ويطلع بعربيته يلف المحافظات ويبشر بفكر عبد الناصر ومشروعه ويضم الناس للحزب الناصري".
والفكر الناصري، بحسب إسكندر، هو ما كان دافعًا للأشقر يومًا ما للانضمام لتتنظم سري "محمد كان في تنظيم طليعة التنظيم الناصري، وده انضمينا ليه في عهد السادات بعد مظاهرات 1977، وكان معارض للنظام بشكل واضح".
خصم "العسكري"
بعد سنوات من كفاية 2004 وإضراب 6 أبريل، والحديث مرّة أخرى عن أن "كفاية" انتهت، اندلعت ثورة 25 يناير التي شاركت الحركة فيها وما تلاها من "جمعات ثورية".
ورحل مبارك بعد أن أوكل إدارة شؤون البلاد إلى مجلس عسكري لم يمض كثير من الوقت حتى دخلت معه "كفاية" في خصومة، وكان الأشقر بين المعنيين بها، وذلك بعد أن صار منسقًا عامًا للحركة منذ أوائل يوليو/ تموز 2011 خلفًا لرئيس حزب العمل مجدي حسين.
كانت الخصومة، آنذاك، بين "كفاية"واللواء حسن الرويني قضائيًا، بعد اتهامه لها بأنها "حركة أجنبية ولها فروع في السودان والتونس"، ما جعل الحركة تتهمه بـ"السب والقذف". وفي ذلك الموقف، شدد الأشقر على أن "الحركة لن تتنازل عن بلاغها ضد الرويني إلا إذا قدم اعتذارًا علنيًا عن الاتهامات التى وجهها للحركة".
الموقف المضاد لـ"العسكري" لم يقتصر على بلاغ الرويني، فالأشقر وبعد شهور من تولي المجلس زمام السلطة رأى أنه جهة "لا تستجيب إلا لصوت الناس في الشارع ولا تأتي إلاّ بالضغط"؛ ما دفع الحركة إلى تبني الموقف نفسه الذي اتبعوه وقت مبارك للضغط عليه، من قبيل "حشد وتنظيم التظاهرات من أجل استكمال مطالب الثورة"، وفق ما ذكره في حوار أجري معه عام 2011.
تحدث اﻷشقر في ذلك الحوار عن محاكمات نظام مبارك، وشدد على أنه "لا يقبل أن يحاكموا أمام محكمة طبيعية، بل عسكرية أو شعبية"، وهو ما أعاد ذكره بعد شهور، عام 2012، في حواره مع سكاي نيوز عربية. وبالفعل، في عام 2014، بعد حديث اﻷشقر بعامين، أطلقت الحركة حملة توقيعات باسم حاكموهم للمطالبة بمحاكمة مبارك ونظامه شعبيًا.
وفي تصريحات أخرى حول اﻷوضاع السياسية بعد يناير، قال اﻷشقر إن "الشعب المصري خُدع حينما فُرضت عليه مسألة الاستفتاء على التعديلات الدستورية"، مُشبهًا دور المجلس الحاكم آنذاك "بدور مبارك"؛ ما دفعه لمطالبته بـ"تسليم السلطة في موعد أقصاه 30 أبريل 2012 إلى سلطة مدنية".
.. وضد اﻹخوان
"الإسلاميون دأبوا على التعاون بشكل منفرد مع أي سلطة تمسك بزمام الأمور في البلاد، وأغلبهم يمارس السياسة الآن كمن خرج من مغارة ولم تكن له علاقة بالعمل العام.... وبعضهم يمارس السياسة حاليًا بمنطق انتهازي مرفوض".. تلك الجمل، وفي الحوار نفسه، حملت رأي الأشقر في الإسلاميين، الذين اتخذ موقفًا مضادًا لهم، سواء بعد الثورة أو حتى حين تولوا الحكم.
قبل التصريحات بثلاثة شهور، وبالتزامن مع تظاهرات في ميدان التحرير في الذكرى الثانية للثورة، شدد الأشقر، على ضرورة رحيل النظام الإخواني "لأنه لم يف بأي وعد، إضافة إلى كذبه الدائم".
القناعة التي كانت لدى الأشقر بعدم صلاحية الجماعة للحكم، كانت دافعًا له لإعلان دعم حركة تمرّد التي انطلقت ضد مرسي، وذلك بدعوى أن "حركة كفاية تساند كافة المواقف الوطنية فى مواجهة النظام الحاكم، وأن بعض الأعضاء من حركة كفاية مشاركين بصفتهم الشخصية فى تلك الحملة".
في عام حكم الإخوان كان الأشقر في صفوف المنظمين والمشاركين بفعاليات ضد الجماعة، وكان منها اعتصامه في ميدان التحرير في ديسمبر 2012 احتجاجًا على الإعلان الدستوري، ودعوته لـ"مليونية دعم استقلال القضاء" في أبريل/ نيسان 2013، "احتجاجًا على محاولات الإطاحة بحوالي 3500 قاض تخطوا سن الستين، في حالة إقرار مجلس الشورى مشروع القانون المقدم من حزب الوسط".
في الفعاليات الاحتجاجية التي كان يشارك فيها أعضاء كفاية، ووفقًا لما يذكره إسحق، ظل الأشقر ملتزمًا بدوره المعروف به "من أيام مبارك وكانت الأدوار معروفة، الهتاف على كمال خليل وكمال أبو عيطة والملصقات والشعارات على الأشقر". وبعيدًا عن الاحتجاجات، كان الأشقر على ولائه لدوره حتى في مساحته الخاصة، وفقًا لما عاصره ويذكره إسكندر "مكتب محمد اللي في ميدان الجيزة كان بابه مفتوح لناس كتير، من أول الناس اللي معدية في الميدان ولفت نظرها اليافطة المتعلقة على مكتبه فبيطلع يشوف مين ده، وصولاً للي كان بيزورهم في المحافظات وكانوا بيردوا له الزيارة".
نشاط محدود
بعد 30 يونيو 2013 ورحيل الإخوان، استمر نشاط الحركة وإن كان هادئًا ومحدودًا، من قبيل المشاركة في إحياء ذكرى عام 2014 لأحداث محمد محمود. وهو العام الذي كان الأشقر قد رحل فيه عن الحركة، وانتخب بديلاً له.
وعلى الرغم من وداع كفاية، إلّا أن الأشقر لم يتخل عن نشاطه، فهو مَن صار واحدًا من أعضاء المكتب السياسي لتحالف "25/ 30" الذي كان من قبل واحدًا من مُرشحيه لانتخابات مجلس النواب على مقعد الجيزة.
لكن قبل ميلاد التحالف و30 يونيو، كان للأشقر نشاطه، فهو مَن أبدى من موقعه الجديد، آنذاك، كعضو للمكتب التنفيذي لـ"جبهة الإنقاذ الوطني" تأييدًا لما كان من تحركات لإزاحة الإخوان، وكذلك لـ"الفريق عبد الفتاح السيسي، في تحذيره من الخطر القادم"، ومحاولاته "رأب الصدع وتجميع القوي الوطنية لإخراج مصالحة وطنية علي أرضية منضبطة"، واعتبر خطابه "تطور طبيعي من قيادة وطنية".
بعد 30 يونيو بشهور عديدة، وكما لو كان يُقيِّم ما شهدته البلاد بعد أعوام من الثورة، قال إن "الخطأ الذي حدث من ثوار يناير أنهم لم ينتخبوا قائدًا من وسطهم"، مؤكدًا أن "أهداف الثورة لم تتحقق حتى الآن".
لكن الأشقر في الوقت ذاته تحدث عما نجحت 25 يناير في إحداثه من تغيير بـ"رحيل نظامين بلا رجعة"، وكأنه يحتفي وربما يدافع عن ثورة رآها البعض مثل حركات أخرى طلابية ومهنية وُلدت من رحم مشروعه الوطني "كفاية".