منذ أسابيع أصدر محمد فرج كتابه الثاني مياومة: هايكو عامل معاصر، وقبلها بعام كانت مجموعته القصصية الأولى خطط طويلة الأجل عن دار العين. وقبل أن أقرأ قليلا في آخر كتبه؛ أود أولًا الإشارة إلى المشهد الأدبي المعاصر في مصر، وإلى الإنجاز الذي حققه عبر كتابين متواليين، وربما كان هذا المشهد هو الجانب الوحيد الذي يبعث على الأمل في ظل ركود يكاد يشرف على الانهيار، ليس في السياسة فقط؛ بل على مختلف الجبهات والأصعدة.
فعلى سبيل المثال، لايمكن للواحد أن يصدق أن ما يخرج من المطابع من الصحف والمجلات تنتمي إلى بلادنا أو زماننا، أو حتى للصحف والمجلات أصلًا، وهو الأمر نفسه بالنسبة لسائر وسائل الإعلام. أو يستوعب أن هذه الحياة السياسية التي نعيشها هي حياة أصلًا، ناهيك عن أنها سياسية، ولن أضيف جديدًا عندما أشير إلى التدهور الفكري والاجتماعي غير المسبوق.
لهذا فإن الحيوية المدهشة والتنوع الأدبي والإنتاج الإبداعي من رواية وقصة قصيرة وقصيدة فصحى وعامية تبدو متناقضة مع الواقع المخيف في تدهوره.
الإنتاج الإبداعي المعاصر في مصر لا يدعو للإعجاب فقط بسبب اقتحامه المتجدد لآفاق تتجدد على الدوام، بل يلفت النظر أن هناك أكثر من جيل مازال قادرًا على إثارة الدهشة، منذ موجة سبعينيات القرن الماضي: محمد المخزنجي وإبراهيم عبد المجيد ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو على سبيل المثال، وليس انتهاءً بمحمد فرج الذي أصدر في غضون عامين كتابين إبداعيين لافتين.
على أي حال المشهد الإبداعي المعاصر يتسع لأكثر من موجة، ولأكثر من تيار واتجاه فني وطريقة وأسلوب، ومما يزيد من حيوية هذا المشهد، عودة القصة القصيرة التي كان كثير من كتاب الأجيال والموجات المختلفة قد هجروها، تحت شعار أننا في"زمن الرواية"، وشهدنا صدور عدد لا بأس به من المجموعات القصصية خصوصًا من الكتاب الشباب، فيما يشبه رد اعتبار لشكلٍ فني طالما أبدع من خلاله قامات شاهقة تنتمي لأجيال مختلفة مثل يحيى حقي ويوسف إدريس وابراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد البساطي.
هذه الحيوية والتجدد والإضافة والإنجاز ليس غريبًا ولا نادرًا، فجيل الستينيات من القرن الماضي الذي خرجت منه كل الموجات اللاحقة عليه في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.. إلخ، هو ابن واحدة من أكثر هزائمنا فداحة وإذلالًا في تاريخنا المعاصر، وهي هزيمة 1967 بطبيعة الحال. أعني أنه لا ارتباط ميكانيكي بين تدهور وتردي الواقع السياسي والاجتماعي وبين الازدهار والتنوع الأدبي.
أما النصوص التي أصدرتها أخيرا دار المحروسة لمحمد فرج، فتحمل عنوانا رئيسا هو مياومة، وتحته عنوان فرعي هو هايكو عامل معاصر، والهايكو كما هو معروف شكل شعري ياباني قديم جدًا، يتكئ على الطبيعة ويساءلها ويمتح، يأخذ، منها ويتوجه إليها، وهي مفارقة مقصودة عمد إليها الكاتب، عندما اتجه لشكل قديم عُرف بسكونيته وما يشبه الاتحاد مع الطبيعة، بينما تعبّر النصوص عن واقع يمور بالاضطراب والظلم والقهر والعنف الذي يعاني منه العامل المعاصر، وهو ليس أي عامل بل عامل اليومية من الشغيلة أمام الشاشات ممن فقدوا حريتهم واستسلموا للنهش والأحباط وفقدان الأمل.
وإذا كانت النصوص الحرة غير المصنّفة تحت أي اسم ليست غريبة على الأدب العربي، وسبق للراحل الكبير إدوار الخراط أن سمّاها "الكتابة عبر النوعية"، ومارسها الكثيرون، فنصوص فرج نصوص حرة لا تندرج تحت هذا الشكل الأدبي أو ذاك، حتي لو اتكأت على الهايكو، وربما قصد الكاتب في اتكائها ذاك المزيد من المفارقة اللاذعة، فالشغيلة المعاصرون من عمال اليومية المتصلبين أمام الشاشات هم على نحو من الأنحاء عناصر الطبيعة الميتة في المشاهد التي يقدمها الكاتب.
من جانب آخر تبدو نصوص الهايكو هنا امتدادًا لمجموعته القصصية الصادرة العام الماضي خطط طويلة الأجل، فكل قصص المجموعة رغم تنوعها وتعدد شخوصها هي قصة واحدة، لا تقدم حكاية ولا يهم الكاتب أن يقدم حكاية، بل إحساس أو رغبة مبتورة أو محاولة لردع الشر والعدوان الذي يتعرض له الراوي. هناك شر ما غير محدد ورغبة في الإيذاء من أشرار يملأون العالم ويسيطرون عليه، ويتابعون الراوي للإجهاز عليه دون أن يرتكب أي جرم.
أما اللغة؛ وحسبما سبق أن كتبت فهي لغة "ناشفة" تخلى فيها الكاتب على نحو عمدي ولضرورة فنية عن المجاز، قدّم لغة جارحة عارية تتلمس هذا العالم الممتلئ عدوانًا.
وفي نصوص الهايكو يبدو أيضًا اعتماد الكاتب على كلا الأمرين، بحيث تبدو هذه النصوص امتدادًا للمجموعة القصصية، رغم اختلاف الشكل الفني والمعالجة والعالم والشخوص لكنه الألم نفسه والتوحش المحيط نفسه، وقد انتقل إلى ذروة جديدة. ويضم الكتاب ثلاثة وعشرين مشهدًا متفاوت الحجم، فبعضها يتضمن سطورا قليلة، وبعضها الآخر يتضمن عدة صفحات، فما يحكم الكاتب طبيعة المشهد وإمكاناته الكامنة، وبلغة قريبة من لغة المجموعة القصصية من حيث التخلي العمدي عن المجاز، هي لغة توصيل عارية لا تحفل بالظلال ولا تتوسل بالرموز والدلالات.
الكاتب إذن يعتمد على بلاغة المشهد، ومجاز العالم نفسه الذي يقدمه، عالم مفارق للواقع على الرغم من واقعيته المفرطة، والجميع فيه مسلوبون، فهم عمال مياومة (أي عمال باليومية) تمارس عليهم أبشع أشكال الاستغلال. الاستغلال بالمعنى الماركسي التقليدي، دون أن يسقط الكاتب في الفجاجة أو خشونة التحريض أو الدعاية. هناك شيء ما ساحر في هذه الكتابة التي اختارت الاختلاف ثم المزيد من الاختلاف عن الواقع والكتابة السائدة والعالم الذي اختارته.
يهدي فرج نصوصه إلى "الزملاء" بألف لام التعريف، أي دون مواربة لزملائه عمال اليومية الذين سيتناولهم. وفي الصفحة التالية مباشرة يورد "صلاة صباحية يجب تلاوتها كل يوم" على حد تعبيره، ويؤكد فيها استسلامه، ويعلن أنه ليس قادرًا على التحكم في ردود أفعال الآخرين فقط، بل أيضا في ردود أفعاله هو. إنه "كائن ضئيل" وأكتافه "ليست قادرة على حمل العالم". لا مواربة إذن ولا حاجة للمجاز لأن التوحش في الاستغلال بلغ الحد الذي لايمكن مقاومته مطلقًا بل الاستسلام له.
تتوالى المشاهد المروية جميعها بضمير خاص جدًا. هو ضمير جماعي لا خصوصية فيه، ضمير على المشاع، حتى لو لجأ الكاتب في أحيان قليلة جدًا لضمير المتكلم أو الغائب. الكاتب يتحدث بصوت الألم الجماعي لعمال يومية يجلسون أمام الشاشات ويعملون حتى يفارقوا الحياة دون أن يحصلوا على ما يسد الرمق.
لنقرأ أولى المشاهد حيث يستيقظ العامل تحيط به خيوط غير مرئية تقوده وتسحبه إلى مكانه المعتاد كل يوم. أما يوم الأجازة فينقضي دون أن يتحرك على الرغم من أنه سبق له أن خطط لقضاء إجازته، لأن هناك خيوطًا غير مرئية تشد الجميع وتقودهم، ومَن مزقوا خيوطهم يفقدون الاتجاهات، وبعضهم يؤثرون الانتحار في هدوء، فلا فكاك إذن.
وفي مشهد آخر أطلق الكاتب العنان لتأمل ما جرى لأعضائه التي تيبست من العمل اليومي الذي لا ينقطع، ويتذكر كيف كان يرى الحدبات وهي تنمو على ظهور مشيدي المدينة عندما كان طفلًا، ولم يكن يعلم أنه سيمتلك بدوره حدبة في وقت أقصر. يكتب "سأقدم طلبًا إلى الإدارة أقترح فيه أن يتم تحويل حدبتي الناشئة إلى متنزه عام، تغرس فيه أشجار وحشائش وبركة مياه، وتخصص للأطفال الخائفين من التجول في شوارع المدينة، يصعدون إليها من ذراعي، ويستريحون عند الكتف خلال لعبهم فوق الحدبة". ويضيف "وهكذا ربما تستمر الإدارة في تحويل عاهاتنا إلى مرافق عامة، ونستمتع نحن بضجيج أطفال وقبلات عشاق قبل أن يصيروا عمالًا جددًا" .
هذا المشهد في سياق المشاهد الأخرى يبدو واقعيًا تمامًا، وأكثر اتساقًا مع كل السلخانات الواقعية التي يغشاها عمال اليومية الجدد. كل الأماكن متشابهة وغامضة وبلا تفاصيل واقعية، هناك رائحة ما تخيم على كل شيء. هناك أرواح هائمة تساق إلى العمل ولا تملك المقاومة. لن يجد الواحد علاقة حب، وحتى لو مارس اثنان الحب فهما لا يشعران وينخرطان في تربية الأطفال بحزن واستسلام. العاملة تجلس بجوار العامل ولا ينجحان في تبادل الحوار، وعندما ينجحان لا يفلحان في ضبط إيقاع الكلام، وبنظرة واحدة من رئيس الوردية ينتهي كل شيء ويهزمان معا.
يكتب مثلًا "يغمض العامل عينيه ويخطط لأحلام كثيرة، ليست أحلامًا يريد تنفيذها في الواقع، لكنها أحلام يريد رؤيتها نائمًا" إلى هذا الحد يصل عجز العامل لأنه يدرك جيدا أن "الأمر لايتعلق بتغيير ما يحدث في الواقع. فات أوان ذلك". صحيح أن الرغبة في الصراخ أحيانًا ما تهاجمه، فيفعل ذلك في الحمام أو يتخيل أنه يصرخ.
العامل لا يتكلم ولا يعرف كيف يدير حوارًا أثناء الذهاب أو العودة من العمل، ويخشى إلى درجة الهلع من الاقتراب الإجباري من الآخرين والتلامس الجسدي. لا يكره العامل تلك الحوارات التي تجري كل يوم فقط، بل أصابه الملل والعزوف، فهي حوارت لاتتغير: سوء إدارة الدولة للمرافق، وآلام الأسنان، والقضيب الذي ما عاد ينتصب، وآلام هجوم دماء الدورة الشهرية والنزيف المفاجئ بعد انقطاع التبويض، وجفاء الأبناء، وخشونة الركبة، وتراكم الديون، وإدمان المخدرات، وآلام الظهر والرقبة، واقتراب موعد تسديد الأقساط.
حاولتُ في السطور السابقة أن أقترب قدر الإمكان من العالم الذي حرص الكاتب على التعامل معه بهدوء ورويّة ودون صراخ. وحريص في الوقت نفسه على الابتعاد عن المقاربات المستهلكة والأخلاقية التافهة في حقيقة الأمر، والتي تبادر بالصراخ والإدانة المباشرة والفجة. فهو يبني العالم ويعيد اكتشافه ولا تعنيه الإدانة المباشرة والخشنة، بل التأكيد على لا إنسانية عالم كهذا.
على أي حال قدّم فرج نصًا جميلًا ساحرًا يتألف من مشاهد تشكل جميعها وحدة سردية تخطف القلب، على الرغم من حرصها الصارم على الابتعاد عن التورط العاطفي.