المكان: السويس. الزمان: يونيو 1999؛ استقبل ميناء الأدبية، 17 كيلو مترًا من مدينة السويس، 15 حاوية ترانزيت واردة من فرنسا تحوي مبيدات زراعية لكنها كانت دون شهادة الإفراج الجمركي، ما يعني أن الدولة المضيفة، مصر، لا تتمكن من فحصها أو فتح الحاويات لأنها لن تدخل البلاد.
بحسب صحيفة الشروق، الحاويات الـ15 استوردهم شخص يدعى أنطوان شلبي، بداخلهم شكائر معبأة بمبيدات حشرية، نقلت إلى مصر عبر ميناء بورسعيد، وأثناء تواجدها بميناء بورسعيد تقدمت شركة المشرق للاستيراد، المملوكة لرجل الأعمال الراحل عبد المنعم سعودي، بأوراق لتخليص الشحنة جمركيًا.
طالب المستورد، عبد المنعم سعودي، وقتها بدخولها إلى المنطقة الحرة ببورتوفيق في السويس بريًا وبالفعل نقلها بالشاحنات دون أية إجراءات تفتيش من الجمارك، ثم قدمت شركته طلبًا آخر إلى المنطقة الحرة لشحن الحاويات إلى ميناء بورسودان في السودان، وبالتالي نقلها إلى ميناء الأدبية تمهيدًا لشحنها إلى السودان، وتبين بالفحص أنها تحمل موادًا مشعة خطيرة ومخالفة لقوانين السلامة.
وقتها؛ أمرت جمارك الأدبية بإعادة الشحنة إلى دولة المنشأ مرة أخرى، وبالفعل أصدر المستورد عبد المنعم سعودي إذنًا باسم شخص يُدعى شكري سعودي، وتم إعادة تصدير 5 حاويات إلى مدينة داكار بالسنغال في عام 2000، قبل أن يخرج إذن آخر بإعادة شحن العشر حاويات الباقية إلى بورسودان، إلا أنه بعد رحيل الخمس حاويات إلى السنغال اختفى المستورد الأصلي، وتم إبلاغ النيابة العامة بالسويس بالواقعة، وألقت القبض على شكري سعودي وأحالته إلى المحكمة وقضت بسجنه ثلاث سنوات، إلا أنه تمت تبرئته في جلسة استئناف لاحقة، ولم تستطع أية جهة نقل الحاويات أو إعدامها.
ما هو اللاندين؟
تندرج مادة اللاندين ضمن المبيدات التي كانت تستخدم في مقاومة الجراد وحشرات أخرى. وورد في بحث أجرته لجنة شكلتها الهيئة الدوليّة لبحوث السرطان أنّها مادة مسرطنة للإنسان، ومدرجة على قائمة "اتفاق ستوكهولم للملوّثات العضويّة الثابتة".
وتضم القائمة مجموعة من الملوّثات التي تتصف بأنّها مواد كيماوية عضويّة تتشكّل بنيتها الأساسيّة من ذرّات الكربون والكلور أو البروميوم. ويطلق عليها صفة الثبات لأنها تقاوم التحلّل بصورة طبيعية في البيئة، ويصعب ذوبانها في الماء أيضًا. وتنطلق من مكان إلى آخر بل تقطع مسافات ربما تمتد إلى آلاف الأميال. وتتراكم في الأنسجة الدهنية للإنسان والكائنات الحية لتسبب أمراضًا خطيرة، من بينها السرطان.
وكذلك تتميّز بأنها تدوم في البيئة لفترات طويلة وكانت تستخدم في مجالات عدة من بينها مكافحة انتشار بعض الحشرات الناقلة والمسببة لبعض الأمراض للإنسان. وكذلك استعملت كمبيدات لمكافحة الآفات الزراعية والحشرات، إضافة إلى استعمالها في صناعات عدة.
وأثبتت البحوث العلمية أن التعرض لتلك الملوّثات يسبب أمراضًا خطيرة، بل إنه يؤذي جهاز المناعة في الجسم أيضًا. وتحوّل العالم الآن إلى استخدام بدائل لتلك الملوّثات العضويّة الثابتة. في مجال الزراعة، يجيز اتّباع أساليب المكافحة المتكاملة والحيوية للآفات، واستخدام أنواع جديدة من المبيدات الفعّالة لأنها تكون أقل قدرة على مقاومة التحلّل، وتالياً فهي لا تدوم في البيئة طويلاً.
اتفاق ستوكهولم
شغل موضوع النفايات الخطرة وانتقالها عبر الحدود، خصوصًا إلى بلاد العالم النامي، المحافل العلمية العالمية منذ ثمانينات القرن العشرين، وآنذاك، تعامل بعض الدول المتقدمة مع أفريقيا ودول العالم النامي على أنها مكب النفايات الخطرة. وفي العام 1989 انعقد مؤتمر بيئي لذلك الشأن في سويسرا. واعتمد اتفاق بازل في شأن التحكّم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها. ودخلت حيز التنفيذ في أيار/ مايو 1992. وفي مايو 2004، تم تفعيل اتفاق ستوكهولم الذي صيغ في 2001، كي يعمل بصورة صريحة على حظر إنتاج الملوّثات العضويّة الثابتة وتقييد استخدامها، والحدّ من انبعاثاتها وانتشارها في البيئة.
وفي 2004، أعلن اتفاق روتردام الذي اشترط الإخطار المسبق عند نقل بعض المبيدات والكيماويات الخطرة في خطوط التجارة الدوليّة.
حاويات اللاندين في الأدبية
تُوضح دراسة تقييم الأثر البيئي للتخلص من مخزون المبيدات بميناء الأدبية، أنه تم تخزين 220 طنًا من مبيد اللاندين، على موقع خُصص أصلاً لتخزين الصب الجاف مثل حبوب القمح وغيرها، داخل منشأة تخزين بميناء الأدبية الذي يقع على مسافة 17 كيلومترًا من مدينة السويس.
وتقول الدراسة الصادرة عن كلية العلوم جامعة الإسكندرية عام 2014، أن فناء التخزين عبارة عن ساحة مفتوحة مصممة للتخزين المؤقت للبضائع المشحونة، وللفناء بوابتان أحدهما في الركن الشمالي الشرقي للفناء هو بوابة الطوارئ، وهو مكان مملوك للشركة العامة للصوامع والتخزين، إحدى الشركات التابعة لوزارة التموين المصرية.
وتُضيف "مخزونات مبيد اللاندين كانت معبأة في أكياس ورقية ثقيلة سعة 25 كيلو جرامًا مدعومة بغلاف خارجي بلاستيكي، وتم تخزينها في 10 حاويات قياسية مساحة 20 قدمًا، تشغل مساحة 5 آلاف و850 مترًا في الميناء".
وتلفت الدراسة إلى "تكديس أكياس اللاندين داخل الحاوية بطريقة تجعل الثلث العلوي منها خاليًا، وأن السلطات أغلقت معظم الحاويات، في حين أن كل حاوية من الحاويات العشر تحتوي على كيس أو كيسين تالفين حيث لم يتم إحكام غلقهما أو إعادة تغليفهما بكفاءة بسبب الفتح أثناء أخذ العينات من جانب قطاع الأسلحة الكيماوية وهيئة الطاقة النووية، مما تسبب في انتشار رائحة كريهة بالمكان".
طوال مدة بقاء اللاندين المسرطن بالميناء، لم تؤخذ عينات من التربة لقياس التأثير على جودة التربة خاصة محتوى المبيدات المكلورة، لكن توجد سجلات لمستويات النشاط الإشعاعي المباشر لمكان تخزين المبيدات، كما قام قطاع الأسلحة الكيماوية بتحليل محتويات الحاويات من خلال مختبراته المعتمدة، بحسب الدراسة.
وتُشير إلى أن مبيدات الآفات المخزّنة والملوثات العضوية الثابتة مثل اللاندين يجب تخزينها بطرق غير قياسية، نظرًا لاحتمالية الانبعاثات الصادرة عنها بسبب ارتفاع درجات الحرارة المحيطة، ومع ذلك فلاتوجد سجلات بيئية.
وتُضيف الدراسة، أنه استفسرت من شركة كومبيصل "إحدى شركات فحص السلع الغذائية المصرية"، عن وضع الحاويات، لافتة إلى أنه تم التحقق بصريًا من خلال مساحين تابعين لشركة كومبيصل، ووجدوا أنها سليمة من الناحية الهيكلية ومناسبة لنقل شحنة اللاندين.
وبحسب الدراسة، فإن معدل الإشعاع التي تم قياسها من الحاويات تباينت بين 0.08 إلى 0.029 ميكرو سيفرت/ ساعة، وأنه لايزال ضمن المعدل المسموح به، استنادًا إلى قياسات اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع ICRP، واللجنة المعنية الآثار البيولوجية للإشعاعات المؤينة التابعة للمجلس القومي للبحوث BEIR، ولجنة الأمم المتحدة المعنية بآثار الإشعاع الذري.
يقول معدو الدراسة، إنهم سألوا أمين المخزن المعين من جانب هيئة ميناء الأدبية: فقال إنه "يتفحص حاويات اللاندين مرة واحدة على الأقل في الأسبوع"، في حين يراقب حارس أمني الموقع لمدة 24 ساعة.
وتلفت الدراسة إلى أنه لم تكن هناك أي معدلات سلامة من الحريق ولا مجموعة الإسعافات الأولية أو معدات الحماية الشخصية التي يستخدمها أمين المخزن، باستثناء المخزن المظلل التابع للشركة العامة للصوامع والتخزين بالقرب من الموقع.
تُوضح الدراسة، أن هناك انتشار لرائحة اللاندين في الموقع، مما قد يهدد العاملين وقد يؤثر على البيئة، معتقدةً أن موقع تخزين مخزون المبيدات المتقادمة بميناء الأدبية "إشكالية كبرى"، ويجب التخلص منه.
كيف تم إخراج اللاندين
في عام 2010؛ نشرت صحيفة المال خبرًا عن فتح القضية مرة أخرى، حيث تقدم محافظ السويس حينها سيف الدين جلال ببلاغ ثم تم عرض الأمر على رئيس الوزراء الأسبق، أحمد نظيف، ليصدر قرارًا بإعدام الشحنة في مدافن الناصرية بالإسكندرية، وهو مدفن مخصص للنفايات الضارة، بينما اعترضت وزارة البيئة علي القرار، وقالت إنه لا يجوز دفن الحاويات في المدفن، لأن به مادة شديدة الخطورة، هي "اللاندين المسرطنة"، والتي قد تتسرب إلي المياه الجوفية، وتضر الأشخاص والمحاصيل الزراعية.
وفي يوليو 2014، عُقد اجتماع تشاوري بهيئات موانئ البحر الأحمر، بحضور وزارة البيئة وعدد من الشركات الملاحية، وعمال ميناء الأدبية وممثلون عن قطاع الأسلحة الكيماوية. وفي 2016، تم توقيع عقد مع مجموعة بوليكو جروب لإعادة تعبئة اللاندين وشحنه مرة أخرى إلى فرنسا، وذلك بعد مناقصة تقدمت لها عددًا من الشركات. وبلغت قيمة التخلص من شحنة اللاندين نحو 400 ألف دولار.
ويأتي التخلص من شحنة اللاندين ضمن مشروع الإدارة المستدامة للملوثات العضوية الثابتة للتخلص الآمن من المبيدات منتهية الصلاحية، وتبلغ تكلفة المشروع نحو 23 مليون دولار منها 8.1 مليون دولار منحة من البنك الدولي، و15 مليون دولار تساهم به الحكومة المصرية.
استمرت عملية إعادة تعبئة اللاندين نحو 10 أشهر، ثم تم نقله عبر الطريق البري إلى ميناء الإسكندرية مرة أخرى، ومنها تم شحنه عبر السفينة MSC Laura Panama، إلى فرنسا لحرقه في محرقة مخصصة لهذا الغرض.