يقدم تشارلز ديكنز في روايته ترنيمة عيد الميلاد (1843)، شخصية إبنزر سكورج، الرجل المسن القاسي والبخيل الذي ألحق الضرر بالآخرين، كتجسيد لبغضاء البشر وأنانيتهم، وعندما تحل على سكورج أشباح عيد الميلاد، يواجه الرعب الشديد ويواجه ماضيه وتفضيله للمال على علاقاته بالآخرين، يذكره أشباح الموتى عما سيؤول إليه عند وفاته، فيبدأ البخيل في إظهار الإحسان والتعاطف مع الآخرين، يؤكد ديكنز من خلال روايته أهمية الوعي بالموت وأن الإنسان محكوم بمدى ردود أفعاله تجاه هذا الإحساس المتزايد بالفناء.
منذ بداية عام 2020 تزايد شعور أننا معرضون للخطر، خاصة بعد ما جاء هذا العام بأحداث غير سارة للبشرية، من كوارث ومصائب، وسقوط طائرات وجوائح وأمراض، وانفجارات وحرائق قضت على أعداد غير قليلة من البشر، وأعاد فكرة الموت والخوف منه، فالبشر بطبيعتهم يخشون الموت، ويبحثون عن السلام، والوعي بالموت هو أحد محرّكات النشاط البشري، وواحد من الأسباب الرئيسية التي تعطي معنى للحياة، وأحيانًا ما يعمل كدافع لبذل جهود من أجل الآخرين، بل ويحفز على كيفية خدمة الصالح العام وإحداث التغيير.
بنيت فلسفة الموت على أساس الفلسفة الوجودية، وتعتبر المعتقدات المتعلقة بالموت من بين أكثر المعتقدات معالجة في العلوم الإنسانية، مثل علم النفس، والفلسفة، والتاريخ ، والاجتماع، والدين. باختصار يمكن القول بأن ظاهرة الموت مؤثرة على حياتنا ومعتقداتنا وقيمنا وخياراتنا. لقد جعلنا عام 2020 أكثر تفكيرًا في الموت، عند مواجهة كل القصص الإخبارية، والعناوين الكبيرة العاجلة التي تتحدث عن أعداد الجثث أو الضحايا أو المنكوبين، أصبح الموت في أذهاننا أكثر من أي وقت مضى، فهل الوعي بالموت ينحصر في الإيمان بالجنة أو النار؟ وهل الموت هو النهاية المطلقة للوجود البشري؟ هل يتبعه وجود أو تناسخ آخر؟ هل الموت له أثر حتمي على حياتنا اليومية؟
الوعي بالموت
لدى البشر تاريخ في إبراز وعيهم بالموت كطريقة لتقدير الوقت المتاح لهم أحياء، حاول الفراعنة توسيع تراثهم الثقافي بعد الموت، ونجد تجسيد رائع في فكرة الوعي بالموت لديهم، حيث كلّف الفرعون ببناء هرم أكبر كمقبرة له وانعكاساته المحتملة على الأهمية المتصورة لفكرة الموت، كذلك رمسيس الثاني صوّر نفسه بتماثيل أضعاف حجمه الحقيقي، وهو ما يعزز الاعتقاد بأن الوعي بالموت قد يدفع الناس إلى زيادة تصورهم للحجم النسبي الخاص بذواتهم، نجد هذا التمثيل المضاعف للذات في نظرية وضعها عالم الإنثروبولوجيا الثقافية، إرنست بيكر ، في كتابه إنكار الموت (1973) وهي نظرية إدارة الإرهاب، حيث يعتقد أن فكرة الوعي بالموت هي قدرة إنسانية ولعنة فريدة في الوقت نفسه.
ويرى بيكر أن قدرتنا على التفكير في أنفسنا تمثل دافعًا جزئيًا وراء تضخيم الناس لذواتهم (احترام الذات)، ضمن نظامهم الثقافي، وأن الوعي بوجود الذات يعني أنها ستزول يومًا ما من الوجود، ما يدفع معه الأفراد لإدارة رهاب الموت، الذي يقع إلى حدٍ كبير خارج الانتباه الواعي، حيث تفترض النظرية أن البشر مثل الكائنات الحية الأخرى، لديهم غريزة للحفاظ على الذات والبقاء ، لكن على عكس الكائنات الحية، فإن قدرتهم الفكرية تجعلهم يدركون بشكل مؤلم أنهم سيموتون يومًا ما. التفكير في الموت مؤلم لكنه أيضًا يساعدنا على إيجاد طرق عيش أفضل، فمعرفة أن لدينا سنوات محدودة يجعلها ثمينة للغاية.
في العصور الوسطى كانت فكرة الوعي بالموت واحدة من أخطر القضايا، حيث احتفظ الرهبان بجماجم بشرية على مكاتبهم لمساعدتهم على التفكير في الموت، كذلك أبرزت اللوحات التي تعود إلى القرن السابع عشر الوعي بالموت من خلال تصوير ساعة الجيب الذهبية بجوار باقة الزهور الذابلة، أو الفاكهة الناضجة بجوار الجمجمة البشرية، والسماح لفكرة الموت بالدخول إلى الوعي، لتشكيل فهم أعمق للحياة، ودافع لمساعدة الآخرين.
إلاّ أنه يمكن اعتبار أفكار الإنسان الحديث تمردًا ضد أفكار ما قبل عصر النهضة، حيث اتخذ البشر موقف الإنكار من الموت بطريقة متعمدة. تحدث نيتشه عن عدم التفكير في الموت، وأعرب عن سعادته لذلك واعتبر أن أفكار الحياة أكثر جاذبية عن أفكار الموت، وكان أحد أسباب ذلك هو غرق الإنسان المعاصر في الرفاهية التي ولدت في هذه الحقبة، بجانب غياب التفكير المجرد وتأملات الميتافيزيقيا، لذلك اعتبر الموت تهديدًا يمكن أن يحرم الإنسان من رفاهيته، وأصبحت فكرة الموت أحد قضايا العلم وليست الفلسفة، لذلك فنمط الحياة الطبيعي والانسجام مع الطبيعة يحقق وعي الشخص بالموت، فالعشب يتحول إلى اللون الأصفر، وتذبل الأشجار، وتفترس الكائنات بعضها البعض، في هذا النمط من الحياة يرى الشخص الموت من حوله باستمرار حدثًا طبيعيًا.
مع الحربين العالميتين الأولى والثانية والمذابح الإنسانية عادت فكرة الموت لوعي الناس، فحينما كان الإنسان في ذروة الحضارة تم دفع ملايين آخرين إلى الموت، ولم يوفر العلم الحديث الأمن منه، وبدا أن أحداث مثل المذابح والحروب تغيّر المواقف البشرية حول الموت؛ وبفضل الفلاسفة الوجوديين أمثال مارتن هيدجر الذي ألهم عمله جان بول سارتر والمفكريين الوجوديين الآخرين، عادت فكرة الموت إلى الفلسفة مرة أخرى، حيث كرَّس جهوده نحو الانتباه إلى الوجود لكن ليس على مايمكننا فهمه، فكانت العلاقة بين الوعي بالموت والرضا بالحياة مصدر قلق له.
وكان هيدجر يأسف من أن الكثيرين يضيعون حياتهم وهم يركضون مع "القطيع" بدلًا من أن يكونوا مع أنفسهم، فالوجود هو الطريقة لفهم حقيقة الإنسان وما يشكل وجوده، لذلك يفترض هيدجر أن الوعي بالموت يؤدي إلى فهم الوجود، وأن فهم الوجود سيؤدي لمعرفة الكون، ووفقًا لهيدجر فإن الوعي لزوالنا الحتمي يجعلنا على عكس الكائنات الأخرى كالأشجار والصخور، متلهفين لجعل حياتنا جديرة بالاهتمام وإعطائها معنى وقيمة.
بالتالي لا يمكن تنحية الموت في أذهاننا، ومن خلال استجابات الحماية الذاتية يدافع الناس عن القلق الوجودي الذي طرحه هيدجر، فيتواصلوا مع أولئك الذين يشاركونهم وجهات نظرهم العالمية، وتظهر العداوة تجاه الأشخاص والمجموعات الذين لديهم آراء بديلة تتحدى إيمانهم، بل وظهر أنه من خلال التلاعب في الوعي بالموت مع مجموعة من الإشارات الظَرفية، كمشاهدة المذابح والأحداث المميتة والمرور بالمقابر الجماعية والقراءة عن وفاة الأشخاص والضحايا، يخلق تساؤلات عما سيحدث أثناء الموت وبعده؟ بل يزيد من تفضيل الناس للقادة الكاريزميين وقبول الأنظمة الديكتاتورية.
نجد أمثلة عديدة لذلك، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تم تقبل فكرة احتلال العراق بل ودعم الرئيس جورج بوش في قرار الغزو، على خلفية محاربة الإرهاب، كما أن الوعي بالموت يرفع نسب التبرعات للمؤسسات الخيرية، كما يحدث في الموسم الرمضاني من حملات إعلانية للتبرع على أساس فكرة الوعي بالموت، وتقبل عقاب المجرمين والتنكيل بهم، والارتياح لرؤية المجرمين بعد أن ينالو عقابهم، ويعد مشهد إعدام هشام عشماوي الذي تم تسريبه ولقي رواجًا مثال على ذلك.
كذلك، يؤدي الوعي بالموت إلى تقبل سياسات مالية مستقبلية تتخذها السلطة، ويزيد الهوس بالصحة والجمال والعروض البدنية، وإجمالًا فإن الوعي بالموت له آثار سلوكية ونفسية على الأفراد ودافع هام لتقدير الذات، فالاقتراب من الموت يسمح لكثير من الناس بالابتعاد عن الروتين اليومي والعمل بجد لتقديم أفضل مساهماتهم، ويضاعف الأثر الاجتماعي للأفراد عندما يكونوا على استعداد لتقديم العطاء للآخرين، فالتذكير المتكرر بالموت يقوي الرغبة في استثمار جوهر المرء في أشكال الحياة، والعمل الذي سيخلد بعد تلاشي الذات.
عبور العتبة الأخلاقية
في كتابها أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت، كتبت الأسترالية بروني وير، التي عملت ممرضة رعاية للمرضى على فراش الموت، عن أكثر الأشياء التي يندم عليها الأشخاص الذين على وشك الموت، كان الندم الأكثر شيوعًا أتمنى لو كانت لديّ الشجاعة لأعيش حياة حقيقة لنفسي وليس لما يتوقعه مني الآخرون، أتمنى لو لم أعمل بجد، أتمنى لو كانت لديّ الشجاعة للتعبير عن مشاعري، أتمنى لو سمحت لنفسي أن أكون أكثر سعادة، أتمنى لو بقيت على اتصال مع أصدقائي". إنها تطرح صوت أولئك الذين يواجهون الموت، فالموت له سلطة خاصة في تذكيرنا بأننا ليس لدينا إلا وقت محدد لنعيش الحياة التي نخنارها لأنفسنا، والأهم من ذلك هل سننتظر مواجهة الموت حتى نفيق، هل ننتظر عبور "العتبة" الأخلاقية لإيقاظ الوعي وتغيير المسار، لأنه حتى حين الندم فهو لا يعبر فقط إلاّ عن الجانب الآخر من عملة الوعي بالموت، عندما تنتقل ردود أفعالنا من التفكير إلى الندم، تصبح سلوكياتنا أكثر حماية للذات، لكن متى تحين "العتبة" الأخلاقية.
يشير أستاذ النظرية السياسية بجامعة ووريك، سيمون كاني، إلى أن بعض المصالح الإنسانية أساسية جدًا، بحيث يجب حمايتها بواسطة الحقوق، والتي تمثل بشكل مباشر "العتبات" الأخلاقية، حيث لا ينبغي أن يستمر الناس دونها، مثل الحق في الحياة والصحة، فما مقدار ما يجب أن يحدث من دمار وقتل حتى نستفز وجدانيًا وانسانيًا ونعي بالموت؟ هل يجب أن يكون الموت جماعيًا، مفاجئًا، سريعًا، لإيقاظ وعينا بالموت؟ هل اعتدنا على الموت البطيئ الممنهج والمتوقع لاعتياد الموت وتطبيعه؟
يستحضرني الآن مشهد انفجار مرفأ بيروت المفاجيء والمباغت، الذي حصد معه عشرات الأرواح في لحظة، وكأنها العتبة الأخلاقية لإنكار الموت، وعلى الرغم من اعتيادنا في المنطقة العربية على مشاهد المذابح والموت والدم والقتل الجماعي وغيره، إلاّ أن التبلد الشعوري واعتياد اللامعتاد، وانتظار الأسوأ للتفاعل مع الحدث الأصلي يورث اللامبالاة، بل وصلنا لعتبة نقارن فيها أي الحالتين أفضل، موت فرد واحد أم موت ألف فرد، وتاه منطق الرفض للفكرة الكلية وكأن الجزء الواعي معطل في وعينا أو يكاد يكون اختفى.
وبحسب هيدجر فإن مسألة الوجود تكمن في المسكن الآمن، الذي ينقل معنى البقاء آمنًا، وخاليًا من القلق في مواجهة الموت، ففي عصر الحداثة، قد يختار الإنسان الهروب والإنكار الذي قد يُشعره بالأمان المؤقت تجاه الموت، كأن يدمن الإنسان العمل ليتغلب مؤقتًا على قلقه من الموت، لكنه ليس السبيل لتجاوز الموت ذاته.
الأكيد أن الموت لم يعد مرعبًا، لأن الحياة أصبحت أكثر رعبًا في خضم الكوارث والمصائب التي حلت مع عام 2020، وأصبح الكثير منا يدرك أن الساعة تدق في العد التنازلي لحياتنا، وفرصتنا وعلاقتنا مع الآخرين، لكن مازال لدينا جميعًا الخيار بشأن التعامل مع الموت وتجنب الندم عندما نتمكن من التفكير في الموت دون استسلام للقلق بشأنه، فمن المحتمل أن نتخذ خيارات تساعدنا على تقديم أفضل مساهماتنا وتحسين العالم بدلاً من التبلد أو الإنكار.
المصادر:
- 1) Grant, Adam M., and Kimberly A. Wade-Benzoni. "The hot and cool of death awareness at work: Mortality cues, aging, and self-protective and prosocial motivations." Academy of Management Review 34.4 (2009): 600-622.
- 2) Kennedy, David M. "Crossing the moral threshold." Time 166.5 (2005): 50.
- 3) McCabe, Simon, Kenneth E. Vail III, and Jamie Arndt. "The impact of death awareness on sizes of self‐representational objects." British journal of social psychology 57.1 (2018): 174-188.
- 4) Shariatinia, Zohreh. "Heidegger's ideas about death." Pacific Science Review B: Humanities and Social Sciences 1.2 (2015): 92-97.