الاسم: إسراء حساني.*
المهنة: طبيبة إخصائية نفسي وعلاج إدمان.
مكان العمل: مستشفى عزل العجمي.
السن: 35 سنة.
الطب النفسي عمومًا أهميته بتبان بزيادة وقت الأزمات، ومن أول أزمة كورونا واحنا شغالين أونلاين بنتابع مع زمايلنا في التخصصات التانية في مستشفيات العزل، بنحاول نقدملهم دعم نفسي، ونتابع الحالة النفسية للمرضى، بس مش في بالنا إنهم ممكن يطلبوا أطباء نفسيين في العزل، بقضوا مدة عزل جوا المستشفى زي أي تخصص عضوي، لحد ما مديرية الصحة بعتت للمستشفى عندنا، مستشفى جمال حمادة النفسية، إنهم عاوزين طبيب نفسي يدخل العزل، فرشحوني أروح، وقبل ما روح بيومين جالي الترشيح، ويوم 28 مارس كنت هناك.
مفاجأة غير متوقعة، ومش بس كده، ده أنا أول حد هيدخل التجربة، فمفيش حد أسأله عن المكان و نظامه، والمفروض أعمل إيه وآخد معايا إيه، وكل الكلام ده، كان عندي خوف على عائلتي كلها طبعًا، حد يجراله أي حاجه وأنا جوا، وماقدرش أبقا جنبه أو أخرج أشوفه، خصوصًا وأنا أم لطفلين، كلها مشاعر إنسانية طبيعية أي حد مكاني هيفكّر فيها.
دورك جاي كده كده
اتكلمت مع زوجي وأهلي، كلهمم كانوا مشاركني القرار، وكل حد فيهم شايل جزء من المسؤلية معايا، زوجي في الأول كان خايف جدًا، هو مش طبيب، فمخاوفه منطققية بسبب اللي بنسمعه عن خطورة العدوى، بس شجعني إني أروح، بابا وماما كانوا من البداية معايا وبيدعموني، كانوا بيقولوا إن دورك جاي كده كده، وده ثواب كبير عند ربنا، ودورنا كلنا نعمله.
ماكنش عندي وقت طويل أفكر فيه، وكان لازم أنفذ التكليف بأسرع وقت، ولأني شخصية مغامرة بطبعي وبحب أدخل تجارب كتير في شغلي جديدة بدأت أتحرك بسرعة، في الأول كان تفكيري في أولادي، وديت ابني عند حماتي و بنتي عند أمي، وكل واحد فيهم أطمنت عليه في مكانه، بدأت أتكلم معاهم أني هروح الشغل بس لمدة طويلة شوية، ويعملوا إيه في غيابي، اللي سهل عليا الموضوع إني كنت بذاكر وبكمل دراستي، فهم طول الوقت بشاركهم معايا تفاصيل شغلي ودراستي، كانوا متعودين إن فترة الامتحانات بيروحوا لجداتهم، وده هون عليا كتير، ابني 8 سنين فكان مستوعب شوية يعني أيه عزل، بنتي 5 سنين فكانت فاهمة أقل، بس الاتنين كانوا عارفين، وبعد كده بقوا يسألوني أنت رايحة تعالجي حالات كورونا يا ماما ولا حالات عادية خلاص.
كلمت زمايلي من التخصصات التانية اللي موجودين في العزل، وسبقوني في التجربة، اسأل الدنيا عاملة إزاي وإيه اللي هحتاجه هناك، وآخد معايا إيه، أغلبهم طمني أن الدنيا تمام هنا وفعلًا حضرت شنطتي كأني مسافرة بالظبط أسبوعين، يوم 28 مارس، زوجي وصلني لحد المستشفى، كل مشاعري هي خوف وقلق، أول ماوصلت على باب المستشفى كل مخاوفي انتهت، كأن ربنا بدل كل الخوف اللي جوايا بهدوء، بقيت مدركة أن خلاص أنا دخلت وده الواقع و هتعامل معاه، أنا خلاص جوا التجربة.
أول يوم استلمت أوضتي، وبدأت أتعرف على زمايلي هناك، وأول ماعرفوا إني طبيبة نفسية فرحوا جدًا، وقالوا أيوه فعلًا إحنا محتاجين حد نفسي يساعدنا، بدأت أتعرف منهم على الحالات لو في حد فيهم بيعاني من أي مشكلة نفسية، زملاء من مكافحة العدوى علموني اتعامل مع البدلة الواقية إزاي، في الأول كان في ضغط عمل كبير عليا، عشان أنا الأولى و الوحيدة في تخصصي جوا مستشفى العزل، فكان عليا أتابع كل الحالات وحتى الطاقم الطبي كله، عشان أعرف حالتهم، ومين محتاج دعم نفسي بس بالكلام ومين محتاج علاج بالأدوية.
أول تحدي واجهني هو "البدلة" إزاي أنا طبيبة نفسية ومحتاجة أتواصل بكل الطرق مع المريض، هيشوفني ببدلة ومش عارف يميز ملامحي، ولا في حاجه مني باينة ممكن تطمنه، ولا حتى قادر يميز ده دكتور مين بتاع إيه ولا ده تمريض، كلنا شبه بعض، وفكرت إزاي اتواصل معاهم و أنا في الشكل المرعب ده، استخدمت مهارات تانية زي تون الصوت، والتنغيم، أحسسهم إني سامعة ومتعاطفة معاهم، وواصلي إحساسهم، واتعامل بلغة الجسد بشكل أقوى وأوضح، والحمد لله قدرت أنجح أني أدعم كل المرضى نفسيًا.
كان في ناس جوا الحجر بتطلب طبيب نفسي، وفي ناس ماكنتش تعرف، بس لما كنت بتابع حالتهم بعرف إنهم محتاجين دعم نفسي، وفي ناس كان بيحصلها بانِك أتاك (نوبة هلع)، وهكذا، ظروف العزل صعبة جدًا، أنت مش عارف شكل اللي قدامك، محبوس في مكان واحد مدة مش عارف أد إيه، تعبان بحاجة مش عارفها، وبتسمع إنها خطيرة جدًا، وبتموّت أعداد كبيرة من الناس، ومش عارف تطمن على أهلك ولا عارف تبقا جنبهم لو حصلهم حاجه، كل الأفكار دي بتضغط على أعصاب المرضى طبيعي.
كنت متوقعة أن كل الناس هتحتاج دعم نفسي، بالكلام بس، لكن لقيت حالات كتيرة جدًا محتاجة علاج دوائي، في ناس أصلًا داخلة بأمراض نفسية والموضوع زاد عندهم من ظرف العزل، وأصيبوا بأمراض أو أعراض تانية، للأسف ماكنش عندي وقت أكبر إني أسمع تفاصيل زيادة، وأساعد المصابين أصلًا، بس أكتر الأمراض اللي منتشرة جوا الذُهان يعني التهيؤات، و الاكتئاب ونوبات الهلع وكل دول محتاجين دعم، وبتحصلهم نوبات مفاجئة، ومافيش خبرة عند التمريض كبيرة يتعاملوا معاهم.
البانك اتاكس منتشرة جدًا في الستات، مسيطر عليهم الخوف أن لو جرالهم حاجه هنا محدش هيحس بيهم، أو أن مش هيعرفوا يوصلوا لأهلهم، وإن هيعملوا إيه برا من غيرهم، مخاوف طبيعية للي بيمروا به، كبار السن على عكس المتوقع، ماكنش في حد منهم محتاج علاج دوائي، كلهم بس محتاجين يتكلموا ويتسمعوا وبتعملهم دعم مش أكتر، وخلال مدة الحجر اللي قضيتها ماشوفتش حد كبير مصاب عنده مشكلة نفسية.
بدأت أوعي التمريض طول فترة شغلي، دي نوبة هلع أو بانك، طب نتعامل معاهم إزاي، تدوهم إيه وتعملوا معاهم إيه، كل ده عشان يقدروا يتصرفوا بسرعة لأن هم اللي بيرافقوا المصابين في دورهم أغلب الوقت، لأن على بال مايستدعوني وأبدأ ألبس البدلة لأنها كذا طبقة فوق بعض، بتاخد وقت طويل يعني من 20 لـ 30 دقيقة، وده كتير على حالة محتاجة مساعدة عاجلة، كمان كنت بوعّي المرضى بتمارين يعملوها عشان تخفف من النوبة، وتقلل الضغط وتحسنهم نفسيًا، كل ده مع المتابعة إني بمر عليهم بس هي خطوات تساعد أكتر في تحسينهم.
طاقم العمل كمان كان بيعاني، بقالهم فترة قاعدين في قلق وتوتر، وطبيعة شغل ضاغطة جدًا، وده كان بينعكس على نومهم مثلًا، أغلبهم بيعاني من اضطراب في النوم، بيعانوا من الضغط والقلق، كلها حاجات بسيطة نتيجة الظروف المحيطة، ومش محتاجين أكتر من الدعم النفسي بس.
الأصعب من بين الحالات كانوا العائلات اللي مصابين ومحجوزين مع بعض، الموضوع كان صعب جدًا مهما أحكي عنه، أن أسرة يبقوا مع بعض و كلهم مصابين، حد فيهم يتدهور أو لاقدر الله يتوفى فجأة، حالة من الفزع والخوف، وإن الموت قريب، بيسيطر عليهم الاكتئاب، طيب وأنا هعمل إيه هيجرالي إيه أنا كمان، بخلاف الحزن على الفراق أصلًا، كلها مواقف مشابهة لكنها صعبة جدًا.
في حالات كتير ممكن نحكي عنها، مثلًا في واحدة دخلت مع عائلتها، كانت كويسة قبل ماتيجي المستشفى، مجرد ما اتشخصت ودخلت جالها ذُهان، عملت مشاكل بسبب التهيؤات مع زوجها وأولادها في الأوضة، بعد ما شخّصتها وبدأت في العلاج بقيت أهدى، وحالتها اتحسنت جدًا، وبقيت كويسة الحمد لله لحد ماخرجوا بالسلامة.
من الحالات اللي مش هنساها أبدًا، كانوا عيلة أب وأم وابن، الأب محجوز في مستشفى تانية، والابن والأم كانوا عندنا، وعرفوا إن الأب مات، طبعًا انهيار تام للأسرة، الابن كان عاوز يخرج، وفي حالة ثورة وعاوز يخرج بأي شكل ويروح لوالده، وطبعًا متفهمة موقفه الله يعينه، الموقف فعلًا وحش أوي، إزاي مش هشوفه ومش هدفنه وأودعه وكل المشاعر دي، صدمة كبيرة عليهم، نزلتلهم وحاولت أهديهم، الموقف صعب بس لما بنتكلم معاهم خلاص الحالة بتستسلم للواقع إنه مات وإن خروجهم خطر جدًا، ونزلنا الأم والابن مع بعض في أوضة واحدة عشان يدعموا بعض، وتابعتهم بشكل دوري لحد التعافي، اللي كان بيخليني أعدّي بالحالات من المواقف دي إني بحط نفسي مكانهم، بفكر زيهم وبقدّر مخاوفهم.
كل يوم حسب تساهيله، حسب ضغط الشغل، لكن أساسي كل يوم أكلم ولادي أطمن عليهم، في أيام كنت بقدر أكلمهم فيديو وأشوفهم و يشفوني وأطمن عليهم، وأوقات أكتر مابيبقاش في وقت غير يادوب أسمع صوتهم، في أخر كل شيفت بقعد أنا وزمايلي ونتكلم ونحكي ونتبادل تجاربنا طول اليوم، وطلعت من هناك بصداقات كتير و ناس حلوة جدًا، ومكملين بنطمن ونتابع بعض حتى بعد ماخرجت من العزل.
يوم 12 أبريل، بعد أسبوعين من دخولي العزل، كنت جيت في الآخر وتعبت وخلاص عاوزة أخرج وأرجع لبيتي وحياتي الطبيعية، سحبولي المسحة، ونتيجتها طلعت الحمد لله سلبية، وزوجي جه أخدني، طبعًا المفروض أتعزل 14 يوم بعد المسحة لوحدي، لكنه رفض وفضل قاعد معايا، ده فرق معايا نفسيًا جدًا، دعمه كان مهم طول الفترة دي، على أد خوفي عليه، بس كان عندي رعب الفترة دي أكون حاملة للفيروس ومش عارفة، ماكنتش بعرف أنام، وفضلت كده مدة كبيرة، ماقدرتش أحضن أهلي ولا ولادي، بحاول أبعدهم عني، عشان خايفة، وكل ما أسمع إن زميل اتصاب ونقل العدوى لأهله بخاف أكتر، بس بقيت أكلم زمايلي وبقوا يقدمولي دعم أكبر عشان أقدر أتغلب على خوفي.
وأخيرًا الشمس
بعد شهر قولت لأ أكيد أنا كده سليمة، وخلاص يعني، ولما نزلت الشارع حسيت إن أول مرة أنزل واستمتع بالحاجات اللي بشوفها كل يوم، حسيت بحرية، وإيه ده يااااه أخيرًا الشارع و الشمس والناس، وبقيت أبصلهم وأنا مستغربة ومستمتعة بكل حاجة حواليا، ورجعت شغلي عادي، وزمايلي لما رجعت كانوا فرحانين بيا جدًا، بس كنت ملتزمة إني لابسة الكمامة ومسافة أمنة، كنت لسه خايفة شوية أعدي حد، بس كلهم كانوا مرحبين ومبسوطين.
التجربة صعبة بس تستاهل وأنا مش ندمانة على المدة اللي قضيتها جوا العزل، ولو في فرصة تانية وجالي تكليف تاني هروح وأنا متحمسة بردوا، لأن فعلًا شوفت نتيجة مجهودي، وحسيت إني بعمل حاجة مهمة فعلًا، سواء المرضى أو الزملاء من الطاقم كله والصداقات اللي طلعت بها، واللحظات اللي فيها قلبِنا على بعض، وبنحاول ندعم بعض ونساعد بكل اللي قادرين عليه.
* هذه شهادة لطبيبة تنشرها المنصة بعد التأكد من هوية الكاتبة والتحقق من شهادتها عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية الملائمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.