الاسم: محمد عليوة.*
المهنة: طبيب مقيم أطفال وحديثي الولادة.
السن: 31 سنة.
أنا عشت تجربة كورونا مرتين، كطبيب أطفال في مستشفى راس التين، ومره جوا مستشفى عزل العجمي، مش فاكر بالظبط امتى بدأ موضوع العزل، بس كنت في أجازة تفرغ، ولما رجعت أستلم تاني تم توزيعي على نفس المستشفى في راس التين، وأول ما وصلت بلغوني إني هاخد انتداب للعجمي، ماكنش لسه وقتها حد عارف إنها هتكون عزل، في الأول رفضت، وماكنتش حابب أروح، بس قالولي كام شيفت وهتخلص وترجع مكانك، مع الضغط وافقت، بس في نص الكلام عرفت إنها عزل، وعرفت من زميلي اللي راح قبلي، موقفي هنا اختلف، المغامرات بتجتذبني، بحب أجرب حاجات مختلفة في الشغل، حتى لو ظاهريًا رافض بس من جوايا حاجه بتقولي روح، المغامرة جديدة وتستحق.
الموضوع في بيتي كان معتاد نوعًا ما، لأن زوجتي طبيبة أمراض صدرية، وبتتعامل مع حالات الاشتباه كل يوم تقريبًا، فكان قرار إني أدخل العزل آه مخيف، لكن مش زي باقي الناس، مارضتش أروح أشوف أهلي قبل ما أمشي، زوجتي كانت في شغلها، واتفقنا إني همشي لما ترجع، بس مشيت الصبح قبلها، ماكنتش عاوز لحظات الوداع، وإنهم يخافوا ونعيط والضغط ده كله، أخدت شنطتي وكان عندي ثقة في الله، وسبت نفسي للمغامرة.
كنت بسمع إشاعات كتير عن محيط المستشفى، وإن الشرطة بتاخد الدكاترة من الشارع ترميهم جوا، حاجات كده، بس لما وصلت كان الوضع هادي جدًا، عربية شرطة واقفة قدامها، وأنا قعدت ألف حوالين المستشفى مافيش حد كلمني، وده استفزني الحقيقة، روحت سألت الظابط، "أنا دكتور و مش عارف ادخل منين؟"، قالي أنت هتدخل تتعزل 14 يوم هنا، فلو مش عارف ممكن ترجع تجهز شنطتك وتيجي، قولتله إني عارف و معايا حاجاتي، ووراني الباب بهدوء ومشي.
كأننا في رحلة
مديرة المستشفى في الوقت ده كانت زميلتي بردوا، وكان بينا معرفة شخصية، ولما وصلت لقيت عدد من أصدقائي هناك، ده فرق معايا نفسيًا، طمني طبعًا، أخدوني في المستشفى، واتسكنت في غرفة مع طبيب صديق ليا، كنت مبسوط جدًا إننا هنكون مع بعض، هنهوّن على بعض الوقت، مستوى المستشفى في البداية كان مُبهر، لسه مبنية جديد، فكل حاجة فيها جديدة، مستوى نظافة عالي، الأجهزة لسه بحالها مش متبهدله، مفروشة كويس، حقيقي كنت منبهر، وكنت بتمنى كل المستشفيات تبقى بنفس المستوى.
بعد كده بدأنا على طول محاضرات و تدريبات مكافحة العدوى، نلبس الواقيات و نخلعها، والتراكات المخصصة لينا والمخصصة للمرضى، و غرفنا المؤمَّنة، وغرف المخالطين، طول اليوم تدريبات، وبعد كده كنا بنقعد مع بعض بليل نتكلم ونذاكر و نقرا ونتناقش، أول كام يوم كانوا لطاف جدًا، كأننا في رحلة.
أول يوم استقبال للحالات كان أصعب يوم علينا كلنا، مجرد ما شغلوا التنبيه، خلاص كلنا هنلتزم بالتعليمات، محدش يخرج من أوضته، هنمشي في تراكات محددة، المرحلة الجديدة هتبدأ، بدأنا نخاف، بيتهيألي أول لحظة وداعنا للزميل اللي نزل يستقبل الحالة كانت أصعب من وداعنا لأهالينا في البيوت، خلاص هيقعد لوحده في أوضة، ومش هنعرف نشوفه، كنا عاملين جدول للتعامل مع الحالات، من الأحدث للأقدم، اللي دخل آخر واحد هو أول واحد يتعامل مع الحالات، حضَّر شنطته وودعناه، أكتر حاجة كانت مضيقاه، ومضيقانا كلنا إنه هيقعد لوحده، كنا بنخاف نكلمه نطمّن عليه يكون مشغول، أو لابس البدلة ونشتت تفكيره.
عدها بعتلنا فويس مسدج طويلة جدًا على الواتس آب، بس كلنا كنا بنسمعها باهتمام، وسمعناها مرة و اتنين وتلاتة، متلفهين نسمع صوته و نطمّن عليه، كان بيحكيلنا عن التجربة، والوضع عامل ازاي، كان بيطمنّا إن الوضع مش خطير زي ما تخيلنا، والوضع ماشي كويس جدًا، كل اللي مضايقه إنه لوحده بس.
في المستشفى قرروا يخلوا أطباء الأطفال آخر ناس تتعامل مع الحالات، عشان لو جالنا أطفال وحديثي ولادة، مافيش حد ينفع يتعامل معاهم غير طبيب أطفال، لأن التعامل معاهم بالجرعات، ودقيق جدًا، فبقينا نساعد في تدريبات مكافحة العدوى طول فترة العزل، ماكنش في فرصة أتعامل مع أطفال في العزل، بس اتعاملت مع اشتباه كتير أوي لما رجعت راس التين.
المواقف في العزل كتير، بس أكتر موقف خلانا كلنا نتأثر نفسيًا جدًا، أم جاية بابنها، اشتباه كورونا، وعاوزة تدخله المستشفى من غير تحاليل أو مسحة أو أشعة، وطبعًا ده مش هينفع، منعوها تدخل، قالولها تروح الحميات، الست مع خوفها على ابنها زي أي أم، ماكنتش عارفة إن في تحاليل الأول لازم تعملها، وبدأت تصرخ وتعيط و تنهار وتتخانق مع الأمن، واحنا شايفنها من الشبابيك بس مش قادرين نعملها حاجة، كان موقف صعب جدًا، ومقدرناش ننساه.
بس الموقف الأصعب، اللي فعلًا أفقدني أعصابي، كنت في مره بكلم زوجتي وقالتلي إن بنتي وقعت وهي بتلعب، ورجلها اتكسرت، طبعًا تأثير الخبر عليا كان صعب جدًا، روحت للمديرة منهار وقولتلها إني عاوز أخرج حالًا، وعاوز أطمّن على بنتي، كنت خايف يكون في أي مضاعفات للكسر ده، ماكنتش قادر أتقبل فكرة إن بنتي بتمر بأزمة بالشكل ده وأنا مش عارف أبقى جنبها و بتابعها، المديرة وزمايلي قعدوا يهدوني، وإن لوخرجت دلوقتي ممكن أنقل العدوى، وهبقى بضرها وبضر نفسي، شوية بشوية بدأت أهدا، وأتقبَّل الأمر الواقع، بس من اللحظة دي كنت بعد الساعات عشان أخرج و أطمن عليها، دي اللحظة الوحيدة اللي ندمت فيها على التجربة.
في حاجات كتير كانت حلوة في العزل، وبتهون علينا، كنا عاملين زي جروب ثيرابي كده، عشان نفضفض مع بعض، ونتشارك مخاوفنا ونحلها مع بعض، وأوقات بالليل كنت بسمع حد بيغني في الطرقة واحنا داخلين ننام، بيغني أنا ابن مصر أنا ضد الكسر، وأغاني حماسية كتير تانية، كنا بنطمن ونتحمّس، ونتشجّع نكمل، لحد ماعرفنا أن إللي بيغني زميلتنا آية من الصيانة.
لما خرجت رجعت تاني لمكاني في مستشفى راس التين، بتابع حالات الأطفال، وطبعًا بنستقبل حالات اشتباه كتير، الوضع في الأطفال مختلف، الطفل أهله بيبقوا مهتمين جدًا إنهم يحافظوا على صحته، عكس الكبير اللي لو جه كشف هيستخسر يدفع فلوس في العلاج، ولو جابه مش هيلتزم به أوي، لحد دلوقتي ماشوفتش حد بيكابر، بالعكس كل الناس بتبقا مهتمة تلحق طفلها.
معانا بروتوكول وبنطبقه، بطمن الأهل أول حاجة، لأنهم بيبقوا مرعوبين على طفلهم، أقولهم على شوية تحاليل، وبناء على النتيجة أوجهّم يعملوا مسحة عشان نتأكد، بحاول امتص خوفهم طول الوقت عاشن ميأثرش على الطفل، أنا مؤمن أن ماينفعش أعالج جسم المريض وأسيب روحه محروفة، عشان كده ماكنتش بعتبر الكشف مهمة، كنت بتعامل مع الأهل عشان مقدر خوفهم، بفهمهم أن إصابة الطفل مش حرجة زي الكبير، والمسحة عشان نتأكد، أما العزل فده عشان خاطركم، لأنه ممكن ينقلكم عدوى.
أوقات الأهالي بتقع في لحظات إنكار من كتر الخوف، وإن لا دي الكحة العادية بتاعته، أو إنه بيسخن دايمًا لما يجيله دور برد، وحاجات بالشكل ده، فنفضل نقنعهم إن هنتعامل على إنها كورونا إلى أن يثبت العكس، الشغل مع الأطفال ممتع، ومش ندمان إني دخلت العزل، على أد ما بقدر باخد احتياطاتي في المستشفى، عشان أحافظ على نفسي وعلى أسرتي قدر المستطاع.
* هذه شهادة لطبيب تنشرها المنصة بعد التأكد من هوية الكاتب والتحقق من شهادته عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية الملائمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.