الاسم: نعيم خيري.*
السن: 25 سنة.
التخصص: ممرض استقبال.
مكان العمل: مستشفى عام أبو قير.
إحنا كطاقم طبي يومياتنا كلها شبه بعض؛ مرضى ومصابيين وعيانين وحالات حرجة. كل يوم نفس الحال بأشخاص مختلفة، سواء كورونا أو قبلها. بنبدأ يومنا بحذر من أول دخولنا المستشفى، وبننهي يومنا بحذر لحد ما نروح البيت، وإحنا لسة خايفين نكون اتعدينا من أي حالة بأي مرض وننقله لأهلنا.
أنا مغترب من سوهاج وعايش في إسكندرية بقالي 4 سنين، كنت عايش في شقة في وش شقة أختي وعيالها التلاتة، حياتي كانت كويسة قوي، بشتغل في مستشفى عام وفي مستشفى خاص لأن المرتب لوحده ما بيكفيش طبعًا، وأختي كانت بتعملي كل حاجة، وبناكل مع بعض، لما برجع من شغلي أول ما العيال تلمحني على الباب يجروا ويترموا عليا ويحضنوني، كل حاجة كانت ماشية تمام لحد كورونا، حياتي كلها اتقلبت.
بدأ كورونا، حسينا إن في حمل كبير فوق كتافنا، المستشفى الأول ماكنش عزل، بس كنا بنتعامل كل يوم مع مئات حالات الاشتباه، حياتي كلها اتقلبت فجأة ومابقتش قادر أعيشها بشكل طبيعي، حاسس إني منبوذ من كل اللي حواليا، محدش عاوز يقربلي، مش قادر أدخل لأختي وآخد العيال في حضني، بأقف على الباب من بعيد، وبفضل أرش نفسي بكحول، العيال اللي كانوا بيجروا عليا بقوا يجروا مني، المكان اللي واقف فيه بتحاوطه عيون أهل البيت مستنيني أمشي عشان يعقموه، بحس إنهم عاوزين يتخلصوا من المكان اللي قعدت فيه، وبحس إن عيونهم ورايا عشان يشوفوا مسكت إيه بايدي ويستنوا لما أمشي ويعقموه.
عايش لوحدي، مابكلمش حد ولا بتعامل مع حد، لما بتعب مابقولش لحد إني تعبان عشان ما أحطهوش في موقف محرج، إنه مضطر يتعامل معايا وييجي يشوفني، وأنا عارف إنه من جواه خايف مني.
على المستوى المادي كورونا أثرت عليا كتير، لازم تشتغل شغلانة واتنين وتلاتة عشان تقدر تكفي مصاريفك وتقف على رجلك في البلد الغريبة، لما انتشر الفيروس المستشفى الخاص مابقتش أقدر أروحها، لأن في خوف أنقل العدوى من هنا، أنا صعيدي وكبير مش صغير، عيب ومابحبش أطلب فلوس أو مساعدة من حد حتى لو أهلي، ماينفعش أتقل على حد، كنت برفض اروح الشغل الخاص خوف على زمايلي هناك، ولما خسرت الشغل الخاص اللي كان بيساعدني أعيش، كنت معتمد على مبلغ بسيط كنت محوشه، وبكمل منه الشهر على مرتب المستشفى العام، ده غير أن لما بطلت أدخل عند أختي مبقاش في حد يطبخلي، فبضطر أصرف أكتر على الأكل من برة، ببقى مش ضامن مين اللي مسك الأكل قبلي وعنده إيه.
اللي ضايقني أكتر لما روحت البلد زيارة قبل العيد، زي ما متعود، عشان اعيد مع أهلي. الشارع كله عيلتنا من أول ما أوصل أسلم على بيت بيت ونفر نفر، لحد ما أوصل بيتنا آخر الشارع، بس المرة دي ماقدرتش أسلم على حد من ولادي عمامي وأهلي، خايفين، أنا فاهم إنه حقهم، بس لما بنرجع من الغربة بنحتاج نحضن أهلنا، أول ما وصلت قالولي لازم تعزل نفسك عشر أيام علشان لو ظهرت عليك أعراض، هو صح، بس الكلام ضايقني يعني إزاي عشر أيام ماقدرش أقرب لأهلي وأحضنهم وأطمن عليهم وأسلم؟
أكتر حاجة وجعتني عيال ابن عمي، وكلنا في الصعيد ولاد العم يعني إخواتنا، والعيال دول بالذات أنا بحبهم، وشفتهم بعد صلاة العيد، زي ما متعود، مستني يجروا عليا وآخدهم في حضني وياخدوا العيدية بتاعتهم مني، بس ده ماحصلش أهلهم طبعًا خايفيين عليهم، والعيال كمان، مابقتش قادر أصدق أني بعملهم باي من بعيد كده، من غير ما أشوفهم وألاعبهم، الفكرة إنه يتقالك ماتقربش، حتى لو إنت هتعمل ده من نفسك.
أمي، أول مادخلت قالتي "غصب عنك وغصب عن الكورونا هحضنك" مع إنها ست كبيرة ومريضة، وبتسمع أن الفيروس خطر على الكبار، بس ما كانتش خايفة مني، أمي متعلقة بيا قوي وأنا روحي فيها، بالرغم أني كنت بحاول ما أختلطش بيها كتير، بس هي ماكنتش خايفة، وفضلت جنبي من أول ماجيت، أبوبا بقا أنا رفضت أقربله لأنه مريض سكر، خفت عليه، ده مرض مناعي، ولو لا قدر الله اتعدى مش هيتحمل.
أما رجعت المستشفى بعد كده بقى جزء منه عزل، والباقي لفرز حالات الاشتباه، الوضع كان صعب جدًا، يعني قابلنا حالات كتير قوي، تخيل بتستقبل 300 حالة مثلًا في اليوم، كلهم بيتقاسلهم حرارة وأشعة ومتابعات وأدوية و.. و.. و.. وبعدين ندخل نكمل مع حالات العزل. ولابس بدلة كذا طبقة، المنطقة بتاعت الودن دي كانت بتموتني من الالتهاب والألم، ببقى لابس غطا البدلة على دماغي، ومقفول جامد على راسي، وتحت لابس ماسك عادي وفوقه ماسك شبيه بماسك N95، ولأنه ماسك غير لائق طبيًا، ومش أحسن حاجة، بنضطر نلبس فوقه واحد كمان عادي، غير face shield، كل ده وطبقات البدلة والجاون والجوانتي أكتر من واحد فوق بعض، وبنقفل الجوانتي في كم البدلة بسلوتيب عشان مايبقاش في أي حاجة باينة منك، كل ده بقا والحر كمان، التكييف يبقا على 17، وأنا بشر من جوة كأني بسيح، كل ده بقى ومطلوب منك تدخل لعيان تحسسه أن مافيش غيره في المستشفى، هو ده حقهم طبعًا عليا، بس أوقات بيبقا الوضع فوق طاقتي.
بس حتى معاملة الناس لأهلها اتغيرت، كانوا بيقفوا جنبهم، يطبطبوا عليهم، إنما دلوقتي يا دوب يبصوا عليهم من بعيد.
المفروض بعد اللي حصل ده الناس تعرف قد إيه بنتعب، ويقدّروا، لأ اللي حصل العكس بقى، الأول لما كنت أدخل أدي علاجات ولا أركّب كانولا الناس تدعيلي، ويقولولي ربنا يجعله في ميزان حسناتك، كلام بسيط و دعوة حلوة كانت بتفرق معانا، دلوقتي مابقاش فيه الكلام ده خالص، في حين إن أي تقصير بيحصل ده مش في ايدينا ده نقص إمكانيات، زي ما تقول غياب الدعم المعنوي ده تاعب نفسيتنا جدًا، مافيش تشجيع خالص، وده كان بيفرق معانا وبيخلينا قادرين نكمل.
لما ببلغ أهل حالة إنه مصاب بكورونا أكيد، براقب نظراتهم كده، شكلهم بيتغير، لآخر لحظة بيحاولوا مايصدقوش إنه مصاب، كأن في مصيبة وحلت على راسهم، بنشوف الحيرة في عين الأهل والمصاب، يعني كأن الولد بيقول حياة مين أهم عيالي ولا حياة أبويا، وده اختيار ربنا ما يكتبه علينا ولا على أي حد تاني، يقعد مع أبوه ويروح بالفيروس لعياله ولا يسيب أبوه ويحافظ على عياله، والأب بيبقى في عينه سؤال، يا ترى ابني هيخاف ويسيبني ولا هيقعد معايا، في الحالتين معاهم عذرهم، بس إحنا اللي فوش المدفع، وبنبلغ الناس إن الحالة مصابة بالفيروس، وفي حاجات مش محتاجة مسحات، زي فقدان الشم والتذوق، خلاص دي حاجات عرفناها من كتر الحالات اللي مرت علينا.
ده موقف عمري ماهنساه، جالنا راجل كبير عنده كسر في الحوض واشتباه كورونا، عملناله تحليل وأشعة على الصدر، والدكاترة قالوا محتاج مسحة، الراجل معاه 3 عيال، أول ما قلنا لهم وشهم اتغير، نزلنا الرجل للأوضة بتاعته، وطلبت من عياله قلت لهم حد بس يقعد برا في العربية بس كل شوية يجي يطمن على الحج كده عشان ما يحسش يعني أنهم رموه، مش هيقعدوا في أوضته يعني مش مسموح، إنما بس يسألوا كل شوية، كلهم رفضوا، قالولي لأ أحنا عندنا عيال و هنخاف نتصاب ونعديهم، سألتهم هو يقرب لكم إيه، كنت حاسس أن ولاده عاوزين يتبروا منه، يقولولي أي حاجة غير أنه أبوهم، أحسن مايقول أنه خايف، بيني وبين نفسي ما قدرتش ألوم بنته، معروف أن العيال الصغيرة مسؤولية الأم، إنما زعلت من ابنه، يعني إيه هتسيب أبوك عشان خايف، وقتها قعدت أفكر ياترا لو كنت مكانه كنت هعمل إيه؟
كل سنة في الوقت ده متعودين بيجيلنا عيال من امتحانات الثانوية العامة كتير أوي، بيخافوا ويتعبوا وحاجات كده، وأنا دايما بحب بتوع ثانوي، بيصعبوا عليا، وخصوصًا السنة دي، صعبانين عليا أوي، نازلين غصب عنهم، وبيواجهوا الموت، والمرض، هم وأهاليهم، وهم مجبرين عشان خاطر ورقة ملهاش لازمة في الآخر. جاتلي بنت من ثانوي قالت لي عاوزة أعمل تحليل، قلت لها طب إنت عارفة جاية فين، قالتلي آه العزل، بسألها إيه اعراضك، قالتلي سخونية بتنزل وترجع. من جوايا فرحت لأن كورونا حرارتها ما بتنزلش، قلت ده دور برد، بس قالت لي إن حاسة التذوق راحت، حسيت بصدمة كده، صعبت عليا، صغيرة واتصابت في الامتحانات، وفضلت تذاكر لما دخلت لحد ماخرجت للامتحان اللي بعده.
الضغط العصبي علينا كبير، أي غفلة ممكن تضيع روح، كنا بنخيط جرح لمصاب، وبالرغم من البدلة وكل الواقيات دي، كنت حاسس زي مانكون في الجيش. ريحة الجروح بتتعبني، بس كل شوية الدكتور يقولي حافظ على تعقيمك، وأقوله حاضر يا افندم، مافيهاش هزار، لو إيدي لمست الجرح واتلوث رجله تتقطع، بنحاول نركز بكل قوتنا، مش عشان خايفيين وإحنا بنتعامل مع حاجات أصعب من كورونا بكتير، التهاب سحائي، إيدز، بس الجديد من الفيروس إن مش معروف له حاجة، محدش عارف ده بيعمل إيه بالظبط ولا له علاج محدد.
أول حاجه هعملها لما الكورونا تخلص هرجع بلدي وأحضن أبويا، همشي أسلم على الناس نفر نفر في البلد كلها، وأحضن عيال إخواتي كلهم وافضل معاهم، الحاجات دي ما بتتعوضش ولا بتتقدر بمال الدنيا، بس دلوقتي أنا عمري ما هأفكر أمشي ولا آخد إجازة، أنا راجل صعيدي، الصعيدي مايسبش حد في ضيقة ويمشي، حتى لو هيتضر، ماقدرش أعمل كده.
* هذه شهادة لممرض تنشرها المنصة في باب مخصص، بعد التأكد من هوية الكاتب، والتحقق من شهادته عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية اللازمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.