رحيل سارة حجازي وهي الناشطة النسوية المدافعة عن حقوق التعدد الجندري، تحول بشكل موجع لجدل عنيف على شاشاتنا الذكية، وبضغطة تمكنّا جميعًا من تقييم الراحلة والعبث بحياتها وتاريخها الشخصي والاجتماعي، وبالطبع وجد أتباع الأصوليات الدينية وملتزمي الرجعية الجنسية ضالتهم لكي ينهالوا بالسباب والأحاديث الدينية والقواعد الفقهية لطرد سارة من جنتهم، أما داعمي الحريات فالبعض التزم بخطاب هادئ وآخرون احتموا بقدرة الضغطة السحرية Block على تخليصهم من المختلفين معهم فكريًا.
جدل جديد ظهر بعدها بأيام أثاره إطلاق بعض الشركات العالمية للوجوهاتها مصمَّمة على علم الرينبو، كإشارة لدعمها للهويات الجنسية والجندرية المختلفة، مما اعتبره الفريق الأول تعدٍ على الإسلام ودعوا لمقاطعة تلك الشركات لأن "الإسلام خط أحمر"، بينما وجد آخرون موقفًا داعمًا ومسؤولًا من تلك الشركات لصالح القضية.
هل تحررنا الشركات العابرة للقارات جنسيًا؟
تحليل الأمر يستدعى قراءته تاريخيًا، فمنذ كان الجنس مقتسمًا بين سلطة الدولة والسلطة الدينية على اختلاف أشكال النظم السياسية في البلدان المختلفة، ومع تقنين الجنس، الذي على الرغم من منعه العديد من الممارسات الجرائمية كالاغتصاب وعدم الاعتراف بالنسب مثلًا إلا أنه قد قضى على التنوع في العلاقات الجنسية وزج بالجنس في طرف أوحد هو الزواج بين رجل وامرأة، وكان هو الحل الأمثل لتكوين العائلة ثم الأسرة، ولصالح الكيانات السابقة كان نموذج الزواج الأبدى والعلاقات الممتدة والعشائرية الحل الأمثل لانتقال الملكية ولزيادة عدد الأفراد داخل أيدلوجياتهم أو دياناتهم أي إعادة إنتاج الأفراد اجتماعيًا.
مع صعود الرأسمالية التي حققت استفادت عدة من كل لبنة في بنية المجتمعات الأبوية غير العادلة سواء كان يسودها الدين أو الديكتاتوريات السياسية، كان نموذج الأسرة هو نموذج الاستهلاك الأمثل والمحقِّق لأقصى مستوى من الاستغلال، فقد كسر النمط العائلي الذي اعتمد على علاقات التكافل الاجتماعي، وفصل الأسرة كنواة تنمو وتزدهر بالاستهلاك وحده.
إلى الأسرة السعيدة نقدم لكم السيارة الفورد التي تكفي لأربعة أو خمسة أفراد، إليكِ سيدتي أحمر الشفاه ولكَ سيدي سيجارتك، آلاف السلع التي تضمن السعادة والتمايز الطبقي والدور الجندري، منتَجة بأيدي الطبقة العاملة التي حُرمت بفعل اللا عدالة من معرفة رفاهية سلعتها المنتجة بأيديها.
تمادي الرأسمالية في الاستغلال؛ عرقل حركات التغيير الاجتماعي التي نادت بحقوق النساء والسود والعمال، وأخيرًا أصحاب الهويات الجنسية والجندرية المختلفة، بعد خفوت صوت رجال الدين اضطرارًا في معظم الدول المتقدمة بعد نزاعات طويلة مع الحكام والشعوب، بدأتها الثورة الفرنسية التي ثارت ضد الكنيسة، واستكملها صعود التيارات اليسارية المختلفة.
أما الأنظمة اليمينية الحديثة فمالت إلى بُنى عَلمانية مستوحاة في حقيقتها من الدين في معظم الأحوال، ولكنها ادّعت تكوينها لنظم سياسية تكفل العدالة للجميع على اختلاف قناعاتهم الدينية. هذا التناقض بين روح الدين وقيم العلمانية، هو لُب الصراع التي تخوضه أغلب الدول المتقدمة حول زواج المثليين والمثليات إلى الآن.
وفي خضّم هذا الصراع كان من الضروري أن تلبس الرأسمالية قناعًا جديدًا بدلًا من ذاك البالي غير المواتي لرياح التغيير، فكان طوق النجاة لها هو النيوليبرالية المفعَّمة بالفردانية والتحرُّر، التي ستكفل ظاهريًا حرية التعبير والتمثيل للجميع، أما باطنها فيكفل للرأسماليين ضمان الاستهلاك للجميع.
متتبعة نمط استهلاكي كامرأة ثلاثينية، أتذكَّر كيف كان دخول التليفون الأرضي بيتنا في أوائل التسعينيات صيحة نادرة ومكلفة، وكان علينا كأسرة استخدام التليفون بحرص خوفًا من الفاتورة، وبشكل منظَّم يحفظ لنا جميعًا فرصتنا في الاتصال، أما الآن فأول بند في ميزانية بيتى هي خطيّ التليفون المحمول لي ولابني البالغ من العمر 7 سنوات، واشتراك الإنترنت الشهري.
هذا المشهد كفيل لأن يعكس تغيرات أنماط الإنتاج والاستهلاك من الأسري إلى الفردي المفرط في الفردانية، فقد باعت لنا شركات الاتصالات والأدوية والأطعمة والأجهزة الكهربائية العابرة للقارات سلعها التي تحررنا، وبالأمر ذاته قد تحكَّمت في تشكيل عوالمنا الافتراضية وعلاقاتنا الانسانية وأيدولوجياتنا وتطلعاتنا وأذواقنا، بل أيضًا تصوراتنا واهتماماتنا الجنسية، هي بالفعل تشكلنا.
اختلفوا كما تحبون وسنكسب منكم كما نريد
هذا الطعام حلال وخالٍ من الكحول ولحم الخنزير، عبارة نقرأها كثيرًا على الأطعمة التي تعدها المطاعم التابعة لشركات عابرة للقارات.
أعتقد هنا أن الشركات على اختلاف سلعها تخوض صراعها بين الأيدلوجيا والهوية، فإن نموذج بيعها لسلعة تحقق الرفاهية والتقدم واللحاق بالركب العالمى للدول المتقدمة (الشيك) يقع من حين لآخر في فخ الاختلاف الأيدولوجى بين مالكيها ومستهلكيها، فالشركات التي نشرت لوجوهاتها مزودة بعلم الرينبو حرصت على أن يكون هذا النشر في الدول ذات المزاج المؤيد لدعم مجتمع الميم، تاركة لوجوهاتها بلا تغيير في الدول المناهضة.
بدا لى الأمر مضحكًا، حين انتشر منشور على فيسبوك تحد عنوان "الإسلام خط أحمر" يدعو لمقاطعة شركة فودافون بعد انتشار شائعة أن الشركة الأم غيرت اللوجو إلى ألوان علم الرينبو، وإن كان هذا لم يحدث إلا أن الشركة تعلن دعمها المجتمع الميم في مناسبات عديدة. المضحك هو أن هذه الشركة ذاتها كانت ملاذًا لسنوات لرافعي لواء الهوية الإسلامية، حين كان منافسها الأوحد شركة أخرى امتلكها رجل الأعمال المسيحي المصري نجيب ساويرس.
لعبة كبيرة سخيفة وذكية تلعبها الشركات مع المستهلكين هدفها الأخير هو الاستغلال وتحقيق اكبر معدلات الكسب لصالح النيوليبرالية العالمية، التي لن تدخل صراعًا جادًا للنضال من أجل أي قضية، ولن تتحمل خسارة تسبِّبها مقاطعة ليوم واحد، والأهم أنها لم تتحمل بشكل فعلي أزمات مجتمع الميم، فقد سمعنا عن تغيير لوجو أو دعم لمهرجان أو حفل، لكن لا صوت ولا نية لتغيير حقيقي في أوضاع الفقراء في مجتمع الميم، فلن تكفل حالة واحدة لعابر/عابرة جنسيًا، ولن تضع نسبة محددة لتشغيل أفراد من مجتمع الميم، إلا إذا كان ذلك يحقق مكسبًا ماديًا مباشرًا، أو يعزّز علاقات القوي مع المستهلكين أو الدولة.
في النهاية لا يهتم الاقتصاد النيوليبرالي بدعم المثليين والمثليات، فالمصلحة أهم وأبقى. وزن أي فرد بالنسبة له مرتبط بقدرته الشرائية وعلاقات قواه.
في الأطروحة السابعة من كتاب نسوية من أجل 99%، تقول كاتبات الكتاب "النتيجة أن حركات التحرر اليوم واقعة في معضلة، فأحد الفريقين يريد أخذ النساء والمثليين وكل مَن هم غير نمطيين من ناحية الميول والهويات الجنسية إلى مواقع الهيمنة الدينية والأبوية، والفريق الآخر يريد تقديمنا على طبق من فضة لكى يفترسنا رأس المال بشكل مباشر" لذا فإن الطريق ثالث وخارج سبل الفريقين.
إن نضال مجتمع الميم الذي قام على أرواحهم وأجسادهم، لا يمكن أن ينتهي لصالح النيوليبرالية الغاشمة، لأنها ببساطة هي موطن قسوة العالم التي لم تحتمله سارة ورفيقاتها ورفاقاؤها.. لهم وعليهم السلام كله.