"احنا بنراهن على إن فترة الانتخابات الجديدة دي عهد جديد بيبدأ في مصر وناخد أول ثمرة من ثمرات ما بعد الثورة وهو برلمان منتخب، وبعد كده ننتقل لبقية المراحل".
بنبرة هادئة، نطق اللواء -آنذاك- محمد العصّار هذه العبارات في لقاء تلفزيوني جرت وقائعه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011، لامتصاص غضب جماهير ترغب في جني ثمار ثورتها على مبارك ونظامه.
في ذلك العام، كان العصار يبث رسائله لقطاع من الجماهير بدأ يثور على المجلس العسكري الذي كان اللواء واحدًا من رجالاته، لكنه كان على درجة من الحنكة دفعته لمخاطبة الغاضبين بصوت تراوحت نبرته بين اللين والشدة، بما مكنّه آنذاك على المدى القصير من معايشة ما كان من أحداث وصراعات.
أما على المدى الطويل، فالعصّار وبسبب ما تمتع به من مهارات تنفيذية، ظل المهندس الماهر لصفقات التسليح اﻷجنبية لمصر، ولأنه لم يُظهِر انحيازاته، فقد تمكّن من الاستمرار مع رجال الحكم الذين عمل في ظلهم على اختلافهم، سفيرًا للمؤسسة العسكرية مع الغرب.
وبينما لاقى غيره من العسكريين والسياسيين والمسؤولين مصائر مختلفة بين السجن أو العزل والإقالة، تعايش الجنرال وظل مع السلطات المختلفة فيما بعد 25 يناير، متنقلًا بين مناصب وألقاب مختلفة عضوًا في المجلس العسكري ومساعدًا لوزير الدفاع ثم وزير دولة للإنتاج الحربي. لم يكن العصّار يومًا من المغضوب عليهم، بل ظل إلى جانب السلطة حتى يوم أمس حين رحل عن دنيانا عن عمر 74 عامًا، وهو يتقلد منصب وزير الدولة للإنتاج الحربي.
صوت تهدئة
كانت الثورة قادرة على طرح المطالب أمام مجلس عسكري لم يكن يتمتع بشعبية تمكّنه من إحكام سيطرته على كل الأمور، والثائرون لم يكونوا كالإخوان الذين فضلوا عقد الصفقات مع الإدارة السياسية المؤقتة واضعين نصب أعينهم الاستحقاقات الانتخابية كالبرلمان والرئاسة. لذلك كانت المطالب هي الشيء المشترك الوحيد بين الطرفين، الثائر والحاكم المؤقت. لا شيء إلاّ المطالب، والتي تحدث العصار مع أصحابها بنبرة تهدئة واعدًا بالتنفيذ وإن لم يفته أن يسميها بـ "المطالب الفئوية" متجاهلًا الشعار الأشهر للثورة عيش حرية عدالة اجتماعية.
ففي ذلك اللقاء، قال اللواء الذي حوّلت الثورة دوره من الانشغال بأمور التسليح إلى التواصل مع القوى السياسية، إن "المطالب الفئوية معظمها مالية" وتأجيل تلبيتها "ليس بسبب الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، بل لعدم وجود الموارد"، والتي ألقى باللوم في غيابها على "الفساد الذي كان خلال 30 سنة"، وأقرّ بأنه أدى إلى ظهور كثير من "المطالب المشروعة".
.. وتهديد أيضًا
لكن الجنرال لم ينس وهو يشرح الموقف المالي أن يلوم "الإضرابات والمظاهرات، وتوقف عجلة الإنتاج نتيجة الاعتصامات"، كما استنكر ما وصفه بـ"ثقافة الثورة" التي خلقت على حد قوله تصورًا لدى كل فرد في مصر أن "مشكلته بعد الثورة لازم تتحل دلوقتي ومش بكرة"، دون النظر للميزانية وما أصابها من عجز.
في تلك الأيام، كان بمقدور العصّار إلقاء بعض اللوم على نظام مبارك وفساده، لكنه لام أيضًا الثوار ومطالبهم "الفئوية"، بل وطالبهم بـ"الهدوء أمام حكومة ليس لديها الموارد الكافية لتلبية هذه المطالب، في ظل ما تمر به البلاد من مشكلات غير مسبوقة"، مؤكدًا ثقته والمجلس العسكري في تلك الحكومة التي كانت تحت قيادة الدكتور عصام شرف، حد رفضه لاتهامها بالفشل، ملقيًا باللوم في اضطراب أدائها على "المطالب والاحتجاجات".
اعتمد الجنرال لهجة التهدئة أمام "المطالب الفئوية" ملتسمًا اﻷعذار للحكومة أمام "الظروف الاستثنائية"، لكن اللهجة تغيرت تمامًا حين انتقل الحديث إلى ما يمس الكيان العسكري، بأسئلة من المحاورين عن مذبحة ماسبيرو، والتي كانت كلماته بخصوصها حاسمة وقاطعة، لم تخرج عن الوعيد والتبرير.
وقتها، كان العصّار آسفًا لما وقع من "إساءة للقوات المسلحة"، وأكد بلهجة قاطعة أن هذه الأخيرة "لن تسمح بتكرار مثل هذا الاعتداء على جنودها من قبل قلّة مندسة".
تلك الفئة الغامضة؛ "القِلّة المندسة" والتي استدعتها سلطات ما بعد الثورة كلما وقعت اشتباكات أدت إلى سقوط قتلى إلى حد جعل البعض يستخدمها للتندر والسخرية، هي التي قرر العصّار لومها في أحداث ماسبيرو، فرغم وعيده بعدم السماح بتكرار "إهانة القوات المسلحة"، إلاّ أنه برأ الجنود واتهم "فئة باغية" بتنفيذ "مخطط دنىء".
آنذاك، رفض اللواء اتهام جنود الجيش بقتل المسيحيين، مؤكدًا أن الفيديوهات تثبت أن "القوات المسلحة كانت مستهدفة في الحادث مثل الأقباط، وأن جنودها المتواجدين أمام ماسبيرو لم يكن بحوزتهم سلاح أو ذخيرة، وبدأ بالاعتداء عليها مندسون وسط المتظاهرين".
برأ العصار الجندي ليبرئ المؤسسة، وهو القائل في اللقاء نفسه "هذا ليس منهج القوات المسلحة، موضوع الدهس ده. ولو فكرنا بأسلوب منطقي شوية، هل عسكري سايق مدرعة بهذا الحجم وبهذه القوة وفي وسط آلاف من البشر في مكان ضيق، وقاصد يدهس.. هيدهس كام واحد؟ مش أقل من 200 أو 300 واحد.. فالنية غير موجودة، ده واحد بيدافع عن روحه، بينجو".
مع الإخوان
خلال عام الثورة كان للعصار ظهور إعلامي وأحاديث في الشؤون السياسية، لكنه وبعد تسلّم الإخوان السلطة عاد الرجل إلى دوره الأساسي الذي كان يمارسه قبل الثورة.
التحق العصار بالقوات المسلحة أثناء حرب الاستنزاف، فشارك فيها وفي حرب أكتوبر كذلك، ضمن عناصر إصلاح كتائب صواريخ الدفاع الجوي، وفي عصر مبارك أصبح واحدًا من المسؤولين عن التسليح، وكان أول مناصبه في هذا المجال مساعد رئيس هيئة التسليح للبحوث.
بعد ذلك وخلال عقود حكم مبارك، تقلّد العصار مناصب أخرى لم تخرج عن شؤون التسليح، مثل رئيس هيئة تسليح القوات المسلحة، ثم مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح، ثم مستشار وزير الدفاع للبحوث الفنية والعلاقات الخارجية، حتى اندلعت الثورة وتسلّم المجلس العسكري مقاليد الحكم، حيث تولى فيه العصّار المسؤولية عن ملف العلاقات الخارجية والاتصال بالإعلام والقوى السياسية.
خلال حكم الجماعة عاد العصار ليلعب دوره المهني نفسه، بموجب قرار أصدره الرئيس الراحل محمد مرسي بتعيينه نائبًا لوزير الدفاع لشؤون التسليح، وهو ما كان لافتًا للانتباه، إذ أشار موقع صحيفة الأهرام في تقرير عن العسكري وجنرالاته إلى أن "العرف العسكري يقول إن رئيس الجمهورية يعين وزير الدفاع الذي يقوم بدوره باختيار مساعديه، إلا أن اللواء محمد العصار هو الوحيد الذي صدر قرار بتعيينه مساعدا لوزير الدفاع".
في ذلك العام، تعامل العصّار مع النظام الحاكم بطريقة طبيعية تمامًا، يلتقي الرئيس ويبحث معه ملفات مختلفة، حتى جاء يوم 30 يونيو/ حزيران 2013، حيث تغيّر كل شيء.
.. وضدهم
انطلقت الاحتجاجات ضد حكم مرسي مدعومة بتوقيعات مواطنين على استمارات تمرد، وانتهى الأمر في أقل من أسبوع بإعلان الجيش بدء المرحلة الانتقالية.
في تلك الأثناء، تشكّلت حكومة انتقالية بقيادة الدكتور حازم الببلاوي، وفيها بقي العصّار في منصبه مساعدًا لوزير الدفاع، واستمر كذلك في حكومتي إبراهيم محلب، حيث كان ملازمًا لوزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي في زياراته الخارجية للتفاوض حول أمور التسليح.
آنذاك، لعب العصّار دورًا في تدارك ما تعرّضت له مصر من غضب أمريكي بعد الإطاحة بمرسي، كما كان شريكًا في الوفود التي تطرق أبواب الغرب من أجل التسليح، وتحسين صورة القاهرة أمام العالم عام 2018 بعد قرار قطع المعونة ﻷسباب تتعلق بحالة حقوق الإنسان والديمقراطية، في تكرار لما فعله عام 2011 بزيارة لواشنطن ذكر فيها أن المجلس العسكري "ليس امتدادًا للنظام السابق".
بدءًا من حكومة شريف إسماعيل، تولى العصّار منصب وزير الدولة للإنتاج الحربي، واستمر فيه منذ 2015 وحتى اليوم مع حكومة مصطفى مدبولي. ومن خلال منصبه استمر العصّار في مد خطوط للتعاون الخارجي مع دول أبرزها الولايات المتحدة وروسيا، كما كانت له جهود أخرى على المستوى المحلي، تمثّلت في تنظيم معارض التسليح الدولية، من أجل مزيد من العلاقات، وكذلك دخول الوزارة إلى السوق المحلية ولو بمنتجات بعيدة عن طبيعة عملها، مثل الكمامات فيما بعد أزمة كورونا.
على مدار عقود وحتى رحيله، تدرج العصّار بين مختلف المواقع والمناصب العسكرية، ولعب أدوارًا تنوعت بين مهندس محارب وعضو مجلس يحكم شعبًا غاضبًا وسفيرًا غير رسمي للمؤسسة العسكرية لدى الغرب، انتهاءً بمجال تخصصه اﻷهم والأبرز، الإنتاج الحربي وشؤون التسليح، سواء بتفاوضه على استئناف مساعدات معونات الأسلحة أو بنجاح المصانع التابعة لوزارته في تصنيعها، بل تصديرها أيضًا لدول عربية، بجانب الشراكات المتنوعة مع دول أجنبية.