في أعقاب اجتماع طارئ لرئاسة المكتب الأفريقي بشأن سد النهضة وإعلان الوصول إلى اتفاق يقضي بعدم ملء السد إلا بعد التوافق بين مصر والسودان وإثيوبيا، صدر بيان صحفي عن رئاسة وزراء إثيوبيا، قال إن أديس أبابا عازمة على البدء في إجراءت ملء السد خلال الأسبوعين المقبلين، بينما تستمر عملية بناء السد.
وناقش مجلس الأمن الموضوع بناءً على طلب مصر، إثر رفض إثيوبيا التوقيع على الاتفاق الذي أفضت عنه مفاوضات استمرت لسنة أشهر ، بعد تدخل الولايات المتحدة والبنك الدولي كطرف محايد. وكانت الولايات المتحدة أعلنت على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو "أنه على إثيوبيا عدم البدء في ملء السد قبل توقيع اتفاق".
ورغم تأكيد وزير الخارجية المصري سامح شكري على توافق البلدين على العناصر الفنية المرتبطة بسنوات ملء خزان سد النهضة، وموافقة مصر على جدول الملء الذي طرحته إثيوبيا، لكن الأخيرة انسحبت من المفاوضات، وأعلنت منفردة البدء في ملء خزان السد.
وفي جلسة مجلس الأمن التي انعقدت 29 يونيو/ حزيران، تشبثت إثيوبيا بموقفها وقالت إن السد من شأنه انتشال "ملايين الإثيوبيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، من الضياع"، وأن مصر تحصل على حصة الأسد من مياه النيل، ولم تترك شيئًا من المياه لإثيوبيا.
فيما شدد وزير الخارجية المصري، سامح شكري، على أن المشروع يهدد مقدرات ووجود ملايين المصريين والسودانيين، وأن ملء وتشغيل السد بشكل أحادي، ودون التوصل لاتفاق يتضمن الإجراءات الضرورية لحماية المجتمعات في دولتي المصب، ويمنع إلحاق ضرر جسيم بحقوقهم، سيزيد من التوتر ويمكن أن يثير الأزمات والصراعات التي تهدد الاستقرار في منطقة مضطربة بالفعل.
في الجزء الثاني من تحقيق سد النهضة، تكشف المنصة، سيناريوهات ملء خزان سد النهضة على المدى القصير والبعيد، وتأثير ذلك على منسوب المياه في بحيرة ناصر وتشغيل السد العالي. ونوضح موقف إثيوبيا من القوانين المنظمة لمياه حوض النيل، وحجم تأثير التغير المناخي على كمية الأمطار في إثيوبيا وعلى حصة مصر المائية. وأخيرًا؛ هل تستغل إثيوبيا مياه خزان سد النهضة في الزراعة؟
سيناريو الـ6 سنوات
الأستاذ في قسم الهندسة والبيئة بالجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا، أونوند كيلينج فيتف، يقول إنه يُمكن ملء سد النهضة تدريجيًا خلال فترة الفيضان في فترة تتراوح بين 6 إلى 7 سنوات، وذلك لتقليل التأثير على بلدي المصب (مصر والسودان).
ويُضيف في حديثه للمنصّة عبر البريد الإلكتروني، أن معرفة حجم انخفاض الإيراد السنوي لمصر أو السودان، مسألة تقديرية، وذلك رغم كل الدراسات التي نفذت محاكاة لحوض النيل الشرقي، مرجعًا ذلك إلى أن ذلك يتوقف على كمية المياه التي تحتجزها إثيوبيا من إجمالي مياه النيل الأزرق.
ويرى أونوند، أنه بعد ملء بحيرة تخزين سد النهضة، سيحدث تغيير بسيط في التصريف السنوي لمياه النيل الأزرق، لافتًا إلى أن معاناة سد النهضة من مشكلة "الإطماء- ترسب الطمي والرمل"، التي ستؤدي لتقلص حجم التخزين تدريجيًا.
ويُقدّر، الوقت الذي يستغرقه خزان سد النهضة لذلك يتراوح بين 100 إلى 300 عام، وأن ذلك سيتوقف أيضًا على معدلات تدفق الرواسب في النيل، وإدارة إثيوبيا في التخلص من الطمي.
ويعتقد أونوند، أن سد النهضة يستحق أن تدفع مصر والسودان ثمنًا له، مقارنة بالفوائد التي ستحصل عليها، جراء تنظيم تدفق فيضان النيل الأزرق على مدار العام، وبذلك لن يعاني البلَدان خلال شهور الجفاف الطويلة.
من جهته، يرى الأستاذ بكلية الهندسة المدنية في جامعة أديس أبابا، أيالو موجس، أن تخزين المياه في بحيرة سد النهضة على مدة 6 سنوات، لن يؤثر على منسوب المياه في بحيرة ناصر.
ويُضيف في ورقة بحثية منشورة بالمجلة الدولية للموارد المائية، عام 2014، أن هذه الفترة تُمكّن مصر والسودان من معالجة نقص المياه أثناء التخزين. ويُقدّر، نسبة انخفاض محطة توليد كهرباء السد العالي بـ12% خلال فترة الملء، ومع التشغيل الدائم لسد النهضة، سيبلغ الانخفاض نحو 7%.
سيناريو "الملء السريع"
يقول عضو اللجنة القومية للري بوزارة الري والموارد المائية المصرية، الدكتور مدحت خفاجي، إنه يمكن ملء بحيرة تخزين سد النهضة خلال عام ونصف فقط، من خلال حجز إجمالي فيضان النيل الأزرق".
ويشرح في حديث هاتفي للمنصّة، أن سعة بحيرة تخزين سد النهضة تبلغ 74 مليار متر مكعب، وإجمالي فيضان النيل الأزرق يقترب من 48 مليار متر مكعب، وهو مايوازي ثلثي إجمالي سعة بحيرة التخزين.
ويعتقد خفاجي، أن تلك المدة يمكن لمصر أن تُعالِج تأثيراتها، لأن حجم التخزين في بحيرة ناصر كبير بما يكفي لاستيعاب هذا النقص. ويبلغ إجمالي سعة بحيرة ناصر نحو 162 مليار متر مكعب، تنقسم لثلاث فئات، الأولى التخزين الميت وتصل سعته إلى 31.6 مليار متر مكعب، والثانية "التخزين النشط" من منسوب 85 وحتى 147 متر، بسعة 91 مليار متر مكعب، والثالثة "تخزين الطوارئ" من منسوب 175 وحتى 183 متر، بسعة 41 مليار متر مكعب.
ويُرجع عضو لجنة الري، إصرار إثيوبيا على الملء السريع لرغبتهم في توليد الكهرباء في أقرب وقت، لأن التخزين على مدى سنوات، إهدار لإمكانيات التوليد في المحطة الكهرومائية.
إلى ذلك، يُظهر تحليل قام به البروفسير بول بلوك، أستاذ مساعد بجامعة ويسكونسن الأمريكية، أن بحيرة تخزين سد النهضة لن تملِأ أبدًا؛ إلا إذا حجزت إثيوبيا المياه بمعدل أكبر، متوقعًا انخفاض حصة مصر المائية في هذه الحالة بنحو 25%.
ويُضيف في ورقة تحليلية نشرتها الجامعة عبر موقعها الإلكتروني، عام 2015، أن على الحكومة الإثيوبية، تأمين عقود لبيع الطاقة المولّدة، وإلا سيكون ملء الخزان بهذه السرعة أمرًا سلبيًا على البلاد، حتى لو كان الأمر توليد طاقة عاجلة للبلاد، لأن إثيوبيا ليست مستعدة لاستيعاب كل هذا القدر من الطاقة.
وتتفق ورقة بحثية، قدمها الأكاديميين إيمانويل فيراري، وسكوت ماكدونالد من جامعة أكسفورد، عُرضت في المؤتمر السنوي السادس عشر للتحليل الاقتصادي في شنغهاي 2013، مع هذه رؤية الملء السريع لخزان سد النهضة، لكنها تتساءل "في حال سنوات الجفاف، كم من الوقت سيستغرقه ملء الخزان؟"
وجهة النظر الإثيوبية
يصف أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بجامعة أديس أبابا الإثيوبية، الدكتور ديريجي زيليكي، صياغة الموقف كأنه صراع بين مصر وإثيوبيا والسودان بـ "المضلِّل"، معتبرًا سد النهضة مشروع إثيوبي أحادي الجانب، لايختلف عن مشروع السد العالي في مصر أو سد مروي في السودان.
ويقول للمنصة عبر البريد الإلكتروني، إن إثيوبيا غير ملزمة بأخذ الموافقة من مصر والسودان على مشروع السد، لأن الأخيرين لم يعرا إثيوبيا انتباهًا عند إنشاء سدودهما. ويعتقد زيليكي، أن كل الأزمات بدأت لما قرر بعض السياسيين الإثيوبيين أن يكونوا "لطفاء" مع مصر والسودان والمجتمع الدولي.
ويرى أن موقف إثيوبيا القانوني "قوي" باعتبار أنه يستند لمبدأ القانون الدولي في استخدام وحماية المجاري المائية العابرة للحدود الصادر عام 1997، الذي ينص على الاستخدام العادل والمعقول لمياه الأنهار، وهو مبدأ ثابت ومعترف به من محكمة العدل الدولية.
ويُتابع زيليكي، أن المبدأ يعطي "الحق السيادي" لجميع البلدان المشاطئة على نهر النيل في الحصول على حصة عادلة ومعقولة في استخدام المياه، لافتًا إلى أن موقف إثيوبيا لم يتغير منذ عصر الأمبراطور هيلاسلاسي، الذي طالب باستخدام عادل ومعقول لمياه النيل الذي تُساهم فيه بلاده بأكثر من نصف الإيراد السنوي.
ويُوضح أستاذ القانون الدولي، أن هناك فرقًا بين اتفاقية 1902 و1929، فالأولى اتفاق لضبط الحدود بين إثيوبيا وانجلترا مع بند خاص بمياه النيل، أما الثانية فهي معاهدة "استعمارية نموذجية" أبرمتها إنجلترا نيابة عن مستعمراتها، وبالنسبة لأثيوبيا ليس لها أهمية على الإطلاق.
وتنص المادة الثالثة من اتفاقية الحدود لعام 1902 والذي وافق عليه الإمبراطور الإثيوبي منليك، تنص على "عدم إنشاء أو السماح ببناء أي عمل على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، يتسبب في إيقاف تدفق المياه في مجرى النهر، إلا بالاتفاق مع حكومة صاحبة الجلالة البريطانية وحكومة السودان".
يرى زيليكي، أن هذا بند معياري فقط، يُدرجه البريطانيون غالبًا في اتفاقيات الحدود لفرض بعض الالتزامات على الدول الواقعة على ضفاف نهر النيل، لافتًا إلى توافق هذا البند مع مبدأ القانون الدولي الخاص بحق كل دولة في الاستخدام العادل للمياه، بصرف النظر عن موقعها الجغرافي "منبع - مصب".
ويقول، إن القانون الدولي لا يعترف بما أسمته مصر "الحقوق التاريخية" في مياه النيل، لافتًا إلى أن اتهام الحكومة المصرية نظيرتها الإثيوبية بتغييب المعلومات حول سد النهضة "ادعاء لا أساس له"، لعدم وجود التزام قانوني يُعطي لمصر الحق في الإطلاع على المعلومات.
ويُضيف، أن ذلك ينطبق على دراسات التأثيرات البيئية التي تصر عليها مصر والسودان، تماشيًا مع عدم وجود دراسات بيئية للسد العالي أو سد مروي، متابعًا "الالتزام القانوني لا يأتي من فراغ"، لكن من إطار قانوني تكون الدول الثلاث طرفًا فيه، بحسب أستاذ القانون بجامعة أديس أبابا، مضيفًا أن ذلك الإطار يتمثل في اتفاقية المجاري للأمم المتحدة لعام 1997، التي لم تُوقع عليها أيًا من الدول الثلاث، واتفاقية الإطار التعاوني "عنتيبي CFA" التي وقعت عليها إثيوبيا، بينما لم توقع السودان ومصر.
وبالتالي، فإن عدم توقيع مصر على اتفاقية المجاري المائية أو الإطار التعاوني عنتيبي، حرمها من مطالبتها بتنفيذ بنوده، وفقًا لزيليكي مضيفًا، أنه لا يمكن لمصر أن ترفض قانونًا ثم تُطالب ببعض الحقوق الواردة فيه.
ويُتابع زيليكي، أن إدعاء مصر بأهمية البند الثالث من ميثاق الأمم المتحدة لعام 1974 في قضية سد النهضة، لا قيمة له لأنه ذا صلة هامشية بالقضية. ويختم قائلًا إن "حل الصراع يكمن في اعتراف مصر والسودان بامتلاك إثيوبيا كل الحقوق في استخدام مياه النيل الخارجة من أراضيها".
وجهة النظر المصرية
من جهته، يرى أستاذ القانون الدولي، وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للقانون الدولي، الدكتور مساعد عبد العاطي، أن ادعاء إثيوبيا بالملكية المطلقة للنيل الأزرق، يُخالف اتفاقية المياه العابرة للحدود لعام 1997، وقواعد هلسنكي الصادرة عن رابطة القانون الدولي لعام 1966، التي وصفَت النهر الدولي بأنه ملكية مشتركة لكل الدول المتشاطئة فيه".
ويشرح في اتصال هاتفي للمنصة، اعتماد إثيوبيا على مبدأ هارمون لتسويغ موقفها القانوني للسيطرة على مياه النيل الأزرق، لافتًا إلى أن مبدأ هارمون يُنسب إلى المدعي العام الأمريكي جستن هارمون، الذي أقر بمبدأ "السيادة المطلقة" للدولة التي يمر النهر بأراضيها.
وكان هارمون أقر بهذا المبدأ عند صراع الولايات المتحدة "دولة المنبع" مع المكسيك "دولة المصب" على مياه نهر ريوجراند، لكن الولايات المتحدة نفسها عادت وانتقدت هذا المبدأ عندما أصبحت دولة مصب في مواجهة كندا على مياه أحد الأنهار.
لكن مبدأ هارمون في الحالة الإثيوبية "خاطئ" من الناحية القانونية، بحسب عبد العاطي، مضيفًا أن هناك قواعد قانونية خالفتها إثيوبيا أبرزها "مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، ومراعاة الاستخدامات السابقة للمياه وعدد السكان والحاجات الاقتصادية والاجتماعية للسكان في الدول المشاركة في النهر، ومراعاة الوضع الجغرافي والجيولوجي للدول" وكلها تنطبق على مصر.
ويُضيف عبد العاطي، أن القانون الدولي ألزم إثيوبيا بإطلاع دول المصب (مصر والسودان في هذه الحالة) على البيانات الفنية والهندسية والبيئية الخاصة بسد النهضة، وفقًا لمبدأ الإخطِار المسِبق، لكن إثيوبيا خالفت ذلك منذ اللحظة الأولى.
ويُتابع، أن القانون الدولي يقر بمبدأ الحقوق التاريخية أو المكتسبة لمصر في مياه النيل، مشيرًا إلى تطبيقه من جانب محكمة العدل الدولية وهيئات التحكيم في منازعات دولية حول المياه.
ويُفند أستاذ القانون الدولي تذرع إثيوبيا بمبدأ "عدم الإضرار" لإضعاف موقف مصر، قائلًا "إن الضرر الجسيم لإثيوبيا هو منعها من بناء السد، لكن مصر لا ترفض إنشاءه، إنما تحتج قانونيًا على المواصفات الفنية للسد التي تتسم بالتعسف والسيطرة الإثيوبية".
كما خالفت إثيوبيا مبدأ ضمان سلامة المنشآت الهندسية المُقامة على نهر دولي، حيث إنها لم تُراعِ الملاحظات الفنية التي ذكرها تقرير لجنة الخبراء الدولية سنة 2013، بالإضافة لمبدأ تسوية المنازعات بالطرق السلمية، بحسب عبد العاطي.
ويقول إن المقارنة بين سد النهضة والسد العالي وسد مروي "مجحفة"، لأن السد العالي أقيِم في نهاية مجرى النهر الدولي ولحماية مصر من الفيضانات المدمرة أو الجفاف المميت، بعكس سد النهضة الذي أنشأ في نافورة المياه الإفريقية "إثيوبيا" وبالتالي فتأثيره أعمق وأكثر قسوة على دولتي مصر والسودان.
ويرى أستاذ القانون، أن اتفاقية 1902 أهم وثيقة قانونية تضمن حق مصر في مياه النيل، بفضل نصها الصريح على الالتزامات الإثيوبية تجاه مياه النيل، واصفًا إياها بـ "الاتفاقية الحدودية" التي تحظى بمرتبة سامية عن سائر المعاهدات الدولية تطبيقًا لنص المادة 12 من اتفاقية فيينا لسنة 1978 الخاصة بتوارث المعاهدات الدولية، والتي صدَّقت عليها إثيوبيا في محاولة لشرعنة احتلال إقليم أوجادين الذي تتنازع عليه مع الصومال.
كما أن اتفاقية 1902 مهمة كون البند الثالث منها يتعلق بالحقوق العينية، وبذلك يُمكن الاستناد على حكم محكمة العدل الدولية الصادر في مايو 1997 في النزاع بين المجر وسلوفكيا حول نهر الدانوب، الذي أكد على معاهدات الأنهار الدولية تحظى بنفس مكانة اتفاقيات الحدود ولايجوز التنصل منها، وفقًا لعبد العاطي.
ويرى، أن عدم توقيع مصر على اتفاقية عام 1997 لايعني عدم تمسك مصر بمبادئ ونصوص هذه القوانين، إضافة لكونها مبادئ عرفية، بمعنى أنها تضع مبادئ إطارية عامة انتظارًا لوجود اتفاقيات بين الدول. متابعًا، أما الاتفاقية الإطارية عنتيبي "فهي والعدم سواء"، لأن مبادرة حوض النيل تشترط موافقة كل الدول الأعضاء، ومصر والسودان ترفضها.
ويختم حديثه مع المنصّة بأن على المسؤولين المصريين الربط القانوني بين إعلان المبادئ الموِقع عام 2015، واتفاقية 1902، لضمان حق التاريخي في مياه النيل".
هل تستخدم إثيوبيا مياه السد للزراعة؟
يعتقد البروفيسور أونوند كيلينج فيتف، أن إثيوبيا لن تستخدم مياه السد في الزراعة، مرجعًا ذلك إلى صِغر مساحة الأرض قرب السد، فضلًا عن قربها من الحدود السودانية أيضًا، ولكن ما زال بإمكان إثيوبيا البدء في الزراعات باستخدام مياه سد النهضة إذا أرادت ذلك.
إلى ذلك، يرى المتخصص في علم الاجتماع الريفي، الدكتور صقر النور، أن استخدام إثيوبيا لمياه النيل في الزراعة المروية، لن يُؤثر بشكل كبير على حصة مصر، بعكس السودان الذي قد يكون له تأثير مباشر على حصة مصر.
ويُوضح في اتصال هاتفي للمنصّة، أن تأثير السودان يتوقف على التزامه باستخدام حصته من مياه النيل، كما حددتها اتفاقية 1959، بالإضافة إلى إمكانيات إتمام مشروعات الري هناك والتي تستهدف في الأصل خفض الفقد من مياه النيل في المستنقعات والتي تعطلت بسبب الحرب الأهلية.
تملح المياه والتربة
يطرح الدكتور أحمد فوزي دياب، أستاذ المياه واستصلاح الأراضي بمركز بحوث الصحراء، نظرية تقول بـ "ارتفاع مستوى الملوحة في مياه النيل"، وذلك بسبب انخفاض سرعة تدفق المياه في مجرى النيل بعد إنشاء سد النهضة، اعتمادًا على القاعدة النهرية "كلما قل المُنصرف من مياه النهر، زادت ملوحة المياه".
ويشرح في اتصال هاتفي للمنصة، أن نسبة ملوحة مياه النيل في بحيرة ناصر تقترب من 200 جزء في المليون، لكنها تزداد كلما اتجهنا شمالًا، بسبب إلقاء مياه الصرف الزراعي والصحي في النيل مباشرة، وتسرب المياه الجوفية على حواف المجرى المائي لمياه النهر.
ويُقدر دياب، أنه إذا كانت ملوحة مياه النيل تُسجل عند القاهرة حاليًا 800 جزء في المليون، فإنها قد تصل خلال عدة سنوات إلى 1000 أو 1500 جزء في المليون، وفي شمال الدلتا قد تصل إلى أضعاف هذا الرقم، بسبب رشح مياه البحر المتوسط وارتفاع منسوب المياه الجوفية.
ويُضيف، أن نقص المياه بسبب سد النهضة، سيضطر المُزارعين إلى الري بمياه ملوثة أو مالحة في شمال الدلتا، مما سيؤدي لزيادة نسب الملوثات والأملاح وتغيير خواص التربة. ويصف دياب، ما تقوم به وزارة الري من خلط مياه الصرف الزراعي والصناعي والصحي بمياه النيل كي يصل للحد المسموح به عالميًا للري بـ "الكارثة".
ويلفت أستاذ المياه إلى أن ارتفاع ملوحة المياه سيعمل على خفض الإنتاجية المحصولية للفدان، وزيادة تكاليف معالجة مياه الشرب.
يقول المتخصص في علم الاجتماع الريفي، الدكتور صقر النور، إن نقص المياه في منطقة شمال الدلتا، يؤدي لارتفاع ملوحة المياه الجوفية وزيادة تسرب مياه البحر باتجاه الأراضي، مما سيدفع المزارعين للتخلي عن زراعة الأرز الذي كان يغسل هذه الأراضي من الملوحة.
ويُوضح في اتصال هاتفي للمنصة، أن أغلب محطات معالجة مياه الصرف "متوقفة"، لذا يتم صرف المياه مباشرة في النيل بما تحتويه من مواد كيميائية ضارة، تُسبب زيادة ملوحة المياه. ويُقدر، مساحة الأراضي المفقودة بسبب التملح في شمال الدلتا بنحو 100 ألف فدان.
ويُتابع، أن التأثير الأكبر سيقع على صغار الفلاحين المصريين في الوادي والدلتا، ومن المُحتمل أن يكون الضرر مضاعفًا، إذا أُضيف إليه ارتفاع درجة الحرارة والتغيرات المناخية، مشيرًا إلى أنه رغم ذلك، فلم تغيِر الحكومة المصرية خططها الداعمة للزراعات الصحراوية والتصديرية التي تستنزف كمية كبيرة من المياه.
كيف تؤثر التغيرات المناخية؟
بحسب تقرير منظمة أوكسفام، حول التغير المناخي في إثيوبيا، ارتفعت درجة الحرارة بمعدل درجتين مئوية خلال القرن الحالي، مقارنة بنظيره السابق، وأن ذلك سيكون له تأثير على كمية الأمطار السنوية، في البلاد.
ويتخوف التقرير الصادر عام 2010، من تسبب ذلك في عدم تجديد خزان المياه الجوفية في إثيوبيا، ودمار أراضي الرعي الإثيوبي، مما يُزيد من اعتماد إثيوبيا على الزراعات المروية.
كما يتوقع الأستاذ بقسم الهندسة المدنية، وقسم علوم الأرض والكواكب، بجامعة هوبكنز الأمريكية، الدكتور جي تشانج، أنه بحلول عام 2060، سيؤدي التغير المناخي إلى ارتفاع درجة الحرارة في إثيوبيا بمعدل 2.5 درجة مئوية.
يُضيف تشانج في حديثه للمنصة عبر البريد الإلكتروني، أن النماذج المناخية المختلفة المستخدمة لقياس حجم تأثير التغير المناخي على نسب تغير المناخ "متضاربة"، حيث تتباين بين انخفاضات متوسطة في حجم المطر إلى زيادات كبيرة.
وتشير التنبؤات، بحسب تشانج، إلى أن معدل سقوط الأمطار في حوض النيل الأزرق يقترب من 56%، ويتوافق ذلك مع التوقعات الموسمية الإقليمية في إثيوبيا. ويقول :"لايوجد يقين في مسار تغير المناخ"، وأنه في حال عدم حدوث تغيرات في معدلات هطول الأمطار على إثيوبيا، يمكن تلافي حدوث انخفاض في حصة مصر، خلال فترة ملء نحو 7 سنوات.
ويشرح تشانج أن معظم أمطار حوض النيل الأزرق تقع بين شهري يونيو/ حزيران وأكتوبر/ تشرين الأول، وتتباين كميات الأمطار من عام إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، فبينما يصل معامل تباين الأمطار على كل حوض النيل الأزرق لـ6%، فإن معامل تباين الأمطار في منطقة السد نفسها يرتفع لنحو 20%.
يُرجع تشانج ذلك التباين في كمية الأمطار إلى حجم تأثير المحيط الهندي المداري على أمطار شرق أفريقيا، الذي يتسبب في انخفاض الضغط الجوي، مما يُعزز من وجود الرياح الغربية الرطبة القريبة من السطح، فضلًا عن تسبب مراكز الضغط المدارية العليا في نصف الكرة الجنوبي أو ما يسمى بـ "المسكار في المحيط الهندي" أو مايُعرف بـ "سانت هيلانة في المحيط الأطلسي" في التأثير على معدلات تدفق بخار الماء إلى الهضبة الإثيوبية، بحسب أستاذ علوم الأرض والكواكب.
ويُضيف، أن تذبذب ظاهرة "النينو الجنوبي" خلال فصل الصيف، تسبب الانخفاض الأكبر في كمية الأمطار في إثيوبيا، مشيرًا إلى تعقد الظواهر المناخية المؤثرة على حوض النيل الأزرق، لدرجة اختلافها على مدار الموسم الواحد.
ويُدلل تشانج على ذلك، بأن تأثير تنبؤات ظاهرة النينو والمحيط الهندي تميل إلى القوة في أواخر موسم الأمطار، بعكس بداية الموسم التي تكون فيه غير مهمة.
ويُؤكد، أن هناك أسبابًا تدعو إلى القلق بسبب تداعيات سد النهضة، مما سيخلقه من تغييرات هيدرولوجية على دولتي المصب (مصر والسودان)، وقد يُصبح نقطة محورية التوترات الجيوسياسية.
معدلات تبخر المياه
يشرح الدكتور هاني مصطفى، والدكتور حازم صالح، قسم الدراسات البيئية، بمعهد بحوث البيئة والتغيرات المناخية بالمركز القومي لبحوث المياه، والدكتور محمود الشيخ، والدكتور خالد خير الدين، قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة، جامعة المنوفية، حجم تأثير التغير المناخي وإنشاء السدود على مصر، في ورقة بحثية، منشورة بمجلة العلوم الأمريكية، الصادرة عام 2016.
وبحسب الورقة البحثية، فإنه يجب الأخذ في الاعتبار أن السودان وإثيوبيا شيّدا 13 سدًا على أفرع النيل في الحوض الشرقي، منها 5 سدود على نهر السوباط ونهر بارو وثلاثة سدود على نهر تيكيزي وعطبرة، و4 سدود على النيل الأزرق.
وتتوقع الورقة البحثية، أن 10 سدود ستسبب انخفاضًا في حصة مصر المائية، خلال أقل من 80 عامًا، بمعدلات تتراوح بين 4% إلى 18%، لكن من المحتمل أن تزداد هذه التقديرات بسبب التغيرات المناخية. وتُقدر، حجم انخفاض حصة المائية بسبب التغير المناخي بين 24% إلى 36%.
كما ستتقلص نسب تبخر المياه سنويًا من بحيرة ناصر من 4% إلى 63% في نهاية القرن الحالي، لكن ذلك سيؤدي لمشكلة كبرى وهي زيادة "نسب ملوحة مياه النيل"، بحسب الورقة البحثية، مضيفةً أنه ستتراوح معدلات انخفاض الكهرباء من السد العالي بين 4% إلى 29% بنهاية القرن الحالي.
إلى ذلك، يرى الدكتور مدحت خفاجي، عضو اللجنة القومية للري بوزارة الري والموارد المائية، أن التخزين في بحيرة سد النهضة، سيُقلص نسبة معدلات تبخر المياه في بحيرة ناصر إلى 7.5 مليار متر مكعب سنويًا بدلًا من 10 مليار متر مكعب، وبالتالي سيكون هناك وفر لمصر يعادل نحو 2.5 مليار متر مكعب.
ويرجع ذلك إلى أن التخزين عند أسوان يتم في ظل ظروف مناخية تصل فيه حرارة الجو إلى أكثر من 50 درجة مئوية، مقارنة بدرجة الحرارة في الهضبة الإثيوبية التي تسجل درجات حرارة بين 24 إلى 34 درجة فقط.
إهدار مياه
يُشير خفاجي إلى وجود كميات كبيرة من الهدر في استخدامات المياه بسبب عدم صيانة الترع والمصارف، فضلًا عن إلقاء وزارة الري نحو 17 مليار متر مكعب كل عام من مياه النيل، بدعوى عدم صلاحيتها للري، لعدم وجود أموال لمعالجتها.
ويعترض عضو لجنة الري على دعوات التحول للري بالرش أو التنقيط، لأنه قد يؤدي لتملح الأراضي، خلال مدد زمنية تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات، مدللًا على ذلك، باقتلاع مشروعات الري المحوري في منطقة الصلاحية بعد تملح الأرض، وإبطال السعودية تجربة الري بالرش، وتَملح الأراضي في ولاية نيفادا الأمريكية.
ويُوضح، أنه في إسرائيل أو في بعض الولايات الأمريكية، يمكن استخدام الري بالرش نظرًا لهطول كميات كبيرة من الأمطار التي تغسل الأرض، بعكس مصر التي لاتسمح كميات الأمطار بغسل الأرض، لذا يقوم الري بالغمر بوظيفة غسل الأرض.
تغيير دورة الري
يقترح الدكتور مدحت خفاجي، أن تعيد وزارة الري تدوير المياه، من خلال تغيير دورة الري الصيفية والشتوية، حيث يتم الاعتماد على مياه النيل خلال موسم الزراعة الشتوي، بينما تُستخدم المياه الجوفية خلال الموسم الصيفي.
ويشرح، أن الدورة الزراعية تستهلك نحو 30 مليار متر مكعب، حيث يتم إطلاق 250 مليون متر مكعب يوميًا خلال الموسم الصيفي، و90 مليون متر مكعب فقط يوميًا في الموسم الشتوي، لكن سيتم عكس الدورة الزراعية، بحيث تُستبدل كميات المياه خلال موسم الصيف بموسم الشتاء.
ويُشير خفاجي، إلى أن ذلك سيُمكّن مصر من زراعة نحو 15 مليون فدان في الموسم الشتوي، أي ضعف المساحة المنزرعة حاليًا، على أن يتم الاكتفاء بزراعة نحو 7.5 مليون في فصل الصيف، اعتمادًا على المياه الجوفية في الوادي والدلتا، وجزء من مياه النيل.
وحول الادعاء بعدم وجود مخزون كافٍ من المياه الجوفية، يقول عضو لجنة الري، إن حجم المنصرف 30 مليار متر مكعب سنوي يُسهم في شحن خزان المياه الجوفية في أراضي الوادي والدلتا، مدللًا على وجهة نظره، بأن كل الأراضي المصرية تُعاني من زيادة منسوب المياه الجوفية.
كما يمكن استخدام نحو 17 مليار متر مكعب، من مياه الصرف الزراعي، تُلقيهم وزارة الري سنويًا في بحيرات المنزلة والبرلس ومريوط وإدكو، بدعوى عدم صلاحيتها للاستخدام، "بذلك يمكن مضاعفة المساحة المنزرعة من محصول الغذاء الرئيسيين القمح والبرسيم"، بحسب عضو اللجنة القومية للري.
في النهاية يتضح من آراء الخبراء أن سد النهضة يكلّف أموالًا ضخمة، لكنه لن يُنتج هذا القدر المُعلَن من الطاقة الكهربائية، فضلًا عن وجود خلل في البنية الجيولوجية للهضبة الإثيوبية، وبالتالي فعلى إثيوبيا إتباع مبادئ الشفافية والوضوح مع شعبها ودولتي مصر والسودان.