داخل لوحة فنية نقشت على جدران معبد إسنا، يجلس خنوم إله الخلق على كرسيه وأمامه دولاب صناعة الفخار يدير عجلته برجله اليمنى بينما تمنح أصابعه الحياة لطفل صغير من الطين قبل أن يضعه في رحم أمه. أسطورة فرعونية حفظت لـ"الفخراني" أعلى مكانة رمزية يمكن أن يصل إليها صانع في التاريخ.
ولعقود طويلة حافظت صناعة الفخار في مصر، وخاصة في محافظة الفيوم، على مكانتها كمكون تراثي رغم معاناتها ظروفًا قاسيةً للبقاء، يبدو أن آخر حلقاتها هي انتشار جائحة كورونا مؤخرًا، والتي تركت آثارها على صناعة الفخار أيضًا.
محمود الشريف، رئيس مجلس إدارة جمعية الخزافين بالفيوم والمنسق العام لمهرجان تونس للخزف والفخار، والذي ينعقد في القرية الشهيرة بورش تعليم وصناعة الفخار، يوضح للمنصة أن حركة بيع المنتجات منعدمة تمامًا منذ شهرين، ولكن "قبل ذلك كنا نبيع منتجاتنا إما لزوار القرية الذين يقصدون الورش يوميًا، وكانوا يتوافدون بكثرة على قرية تونس، أو إلى أصحاب البازارات والجاليريهات من القاهرة وبعض المحافظات الأخرى والذين يأتون لأخذ ما يتناسب وأذواق زبائنهم، من أطباق وبولات وأطقم شاي وفازات وتحف، أو يطلبون طلبيات بعينها تقوم الورش بتنفيذها خلال فترة محددة".
الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، خريجة الفنون التطبيقية، ساهمت في النقلة الكبيرة لفن صناعة الخزف والفخار بالفيوم، بإنشائها مدرسة لتعليم صناعة الفخار والخزف في قرية تونس في منزل أهداه لها زوجها السابق الشاعر سيد حجاب، تبلغ مساحته خمسة أفدنة، بعدما قررت العيش في القرية قبل 45 سنةً، ما أسهم في تعليم أجيال جديدة من فتيات وشباب القرية فنون الصناعة، ليتخرج من مدرستها مئات الفنانين منهم من صاروا يملكون ورشهم الخاصة.
كما تحولت القرية لمقصد سنوي للعديد من فناني العالم وتجار ومسوقي الخزف والفخار بعد تأسيس المهرجان السنوي للخزف والفخار، الذي يقام سنويًا في شهر فبراير/ شباط، حيث ساهم المهرجان في تسويق أفضل للمنتجات وتصدير بعضها إلى عدد من الدول، ما أنعش الصناعة التي كاد أن يلتهمها الركود لتتحول تونس إلى أهم مكان للسياحة الريفية في مصر.
يشرح الشريف تفاصيل أكثر عن أثر الجائحة قائلًا "كان يأتي إلينا أصحاب محال تحف من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا لشراء منتجاتنا وعرضها في بلادهم، ونحضر أحيانًا معرضين أو ثلاثة سنويًا خارج مصر لعرض منتجاتنا وبيعها، خاصة وأن منتجاتنا تتمتع بجودة عالية لصنعها من الطين الأسواني النقي والجليز الخالي من الرصاص".
ونوّه إلى اتفاقية لتصدير كمية كبيرة من منتجات الخزف بمجمع قرية تونس تبلغ آلاف القطع محملة في ستة كونتيرات، كان من المفترض تصديرها للولايات المتحدة الأمريكية قبل اجتياح الوباء.
ورش متوقفة وأخرى على وشك
معظم ورش الفخار في قرية تونس والبالغ عددها نحو 30 ورشة توقف عن العمل، حسب شريف، الذي يضيف أن الجزء الذي ما زال يعمل "يعمل فقط، حتى تنفد الخامات الموجودة لديه وسوف يتوقف أيضًا في خلال أيام أو أسابيع قليلة إذا لم تعد حركة البيع للانتعاش مرة أخرى".
ويؤكد الشريف أن أصحاب الورش والعاملين في المجال لم يتلقوا أي دعم حكومي على خلفية الأزمة التي تهدد هذه الصناعة التراثية، مواصلًا حديثه "لا شيء قُدّم لمجمع إنتاج الخزف في تونس من المسؤولين لا في الأزمة ولا قبلها، رغم الزيارات المتكررة لمهرجان تونس من الوزراء ومسؤولي المحافظة، حتى مشروع إنشاء مصنع لتجهيز الخامات والذي تم تخصيص قطعة أرض له وأُسند لجمعية الخزافين منذ عام 2017، توقف بسبب عدم توفير التمويل اللازم لإنشائه، رغم أنه كان سيجهز الخامات ويصنع الدواليب المستخدمة في إنتاج الخزف والفخار، وهو ما كان سيوفر جهدًا ووقتًا كبيرًا نظرًا لأن تحضير الطينة لا يزال يتم بشكل بدائي في أحواض تحضير داخل ورش الصناعة نفسها، ما يمكن أن يستغرق شهرين في فصل الشتاء لتحضير الطينة. إضافة إلى أن المصنع كان سيوفر الخامات الجاهزة لورش أخرى بمصر القديمة".
ويقول هاشم سيد، صاحب إحدى ورش الفخار بقرية فانوس بتجمع كوم أوشيم للفخار للمنصة إن "جميع ورش الفخار بمنطقة كوم أوشيم توقفت عن العمل بشكل تام، عندما تمر عليها الآن ستجدها مغلقة، العمال والذين يعولون مئات الأسر بقرية فانوس صاروا بلا عمل منذ ثلاثة أشهر".
ويذكر سيد، أن الورش كانت تنتج أدوات فخارية من طواجن الطعام والفخار الكبير زلع الزينة التي توضع في الحدائق والفازات والأباجورات والنافورة، وتباع منتجاتنا للاستخدام الشخصي للأفراد والتجار من داخل مصر وخارجها، وكان هناك رواج كبير لمنتجاتنا، مشيرًا إلى وجود مخزون كبير لديهم لا يمكنهم تصريفه.
ويضيف سيد "كانت هناك اتفاقات مع المحافظة وبعض المانحين مثل بنك الإسكندرية وجهاز تنمية المشروعات لتطوير ورش مجمع الفخار بكوم أوشيم لبناء الورش ومدنا بالغاز ودواليب كهربائية مثل ورش قرية تونس، لأننا ما زلنا نعمل على دواليب يدوية، ومساعدتنا في عمليات التسويق، إلا أننا منذ عامين لم نسمع عن أي خطوة في طريق تنفيذ المشروع".
وعن محاولة تنظيم العاملين بصناعة الفخار والخزف للتصدي للمشكلات التي تواجه الصناعة والظروف التي تطرأ عليها، يقول سيد "كنا بصدد تدشين جمعية لأبناء الصنعة بكوم أوشيم، وبالفعل جمعنا مئتي شخص لكن لم يتم التأسيس بسسب إعاقة الأوراق في الشؤون الاجتماعية، لكننا سنحاول استئناف الفكرة مع بداية عودتنا للعمل".
"تأثير مميت"، بهذه الجملة القصيرة، قاطعنا محمود عبد العليم مدير مدرسة إيفلين لصناعة الخزف والفخار بقرية تونس، قبل أن نكمل سؤالنا، مضيفًا للمنصة "منذ ثلاثة أشهر لم يدخل زائر واحد للمدرسة، وليست فقط المدرسة التي تعاني من كورونا، لكن جميع الورش بالقرية، حزنت اليوم عندما مررت على الورش ورأيت على كل ورشة سلسلة كأنها محبوسة".
ويشير عبد العليم إلى أن المدرسة لا زالت تعمل ولكن بطاقة ضعيفة بعد تزويد الفتيات بكمامات، لكن البيع توقف تمامًا، فلا زيارات من مشترين أو باحثين وفنانيين كما كان يحدث سابقًا.
ويوضح عبد العليم أن "الأزمة لم تطل فقط أصحاب عشرين أو ثلاثين ورشة والعاملين بها، بل طالت القرية بأكملها، فصناعة الخزف ورواج منتجاته والزوار الذين كانوا يأتون إلينا بالمئات كانوا يشترون من بائعات الفطير والجبن ويملئون الفنادق السياحية الموجودة بالقرية ويستأجرون المراكب ببحيرة قارون، آلاف الأشخاص ومئات الأسر بالقرية فقدوا مصدر رزقهم، فصناعة الخزف صنعت من تونس قرية سياحية من الطراز الأول في السياحة الريفية".
"بعت العربية بتاعتي بـ 80 ألف جنيه بخسارة 40 ألف علشان أصرف على البيت وأساعد عمال الورشة باللي أقدر عليه بعد غلق الورشة"، يسرد محمد الجمال، صاحب إحدى ورش الخزف بقرية تونس، ومسؤول سابق بمدرسة إيفلين، ما حدث معه.
ويضيف الجمال للمنصة "ورشتي أحدث ورشة بقرية تونس أنشأتها منذ عامين بعدما استقليت عن مدرسة إيفلين بعد 18 سنة في المدرسة التي تعلمت الصنعة بها، والورشة لا زالت تعمل بدولاب يدوي، فعندما مد بنك الإسكندرية بعض الورش بدواليب تعمل بالكهرباء لم تكن ورشتي موجودة، وبالتالي فأنا من أكثر المتضررين من الأزمة لأن الورشة حديثة لم تغطي بعد تكاليف تأسيسها وليس لدي رصيد من ناتج مبيعات يمكن أن يغطي فترة التوقف".
ويشير الجمال أنه كان لديه طلبيات بأكثر من 20 ألف جنيه للطلبية الواحدة، لعدد من التجار عبارة عن بولات وأطباق وتحف، لكنها توقفت بشكل كامل.
راوية عبد القادر التي تمتلك ورشة خزف في تونس وتحترف المهنة منذ نحو عشرين عامًا عندما تخرجت من مدرسة إيفلين، لم يكن حالها مختلفًا عن البقية؛ " من 18 سنة وقت ما فتحت الورشة ما عداش علينا أزمة بالشكل ده، حتى أيام الثورة كانت الدنيا ماشية".
وتضيف "كنا بنبيع منتجاتنا لزوار القرية أو بازارت بالقاهرة كنت بروح أوديلها بنفسي طلبيات، وحضرت معارض زي معرض ديارنا بمدينة نصر ومعرض تراثنا وكنا شغالين كويس أوي، حالنا وقف والورش اللي تعبنا فيها اتقفلت".
وتقول المهندسة رحاب منصور، رئيس شعبة الخزف والفخار بغرفة الحرف اليدوية للمنصة "يعتمد منتجو الخزف والفخار على السائحين وأصحاب البازارات لبيع منتجاتهم الخزفية، أو الفنادق والمطاعم التي تعتمد على الطواجن الفخارية للأكلات الشعبية، وكل هذا توقف بنسبة كبيرة جدًا".
وتضيف "نتفهم جيدًا حجم الأزمة التي يمر بها منتجو الخزف والفخار، نتيجة لتداعيات كورونا، ونحاول عمل ما في وسعنا، نقوم بمحاولات لترويج المنتجات بتوفير منصات من خلال الغرفة بإنشاء جروبات على شبكات التواصل الاجتماعي لتسويق المنتجات تحت إشراف أعضاء من الغرف لجذب المستهلك المحلي، وإيضاح طرق توصيل المنتجات لراغبي الشراء".
وتشير رحاب إلى أن "هناك ورش تضررت بنسبة 100%، ونحن لا يمكن أن ننكر هذا، لكننا لا نرى حلًا سوى عودة الحياة لطبيعتها تدريجيًا، وسوف نسعى بعد ذلك للتوجه للسوق المحلي لإنعاش هذه الصناعة التراثية الهامة، لأنه سيكون من الصعب الاعتماد على التصدير خلال الفترة المقبلة، نظرًا لما سيشهده العالم من تداعيات أزمة كورونا".