أثارت أخبار رفض أهالي قرية شبرا البهو بمحافظة الدقهلية دفن طبيبة توفيت متأثرة بإصابتها بفيروس كورونا المستجد، غضب علي عبود مدرس الدراسات الاجتماعية في إحدى مدارس محافظة الأقصر، فوجه عبر حسابه على فيسبوك "رسالة إلى أهل الأقصر.. أي إنسان يموت لا قدر الله بالكورونا أقسم بالله على استعداد أن أغسله وأدفنه ولو لوحدي".
لاقت الدعوة استجابةً وتفاعلًا بدآ من محمد توفيق الموظف في إحدى الشركات الحكومية، ليدشن الرجلان مبادرة تحمل اسم إكرام موتى كورونا تغسيل تكفين ودفن، انضم إليها خمسون شخصًا في البداية قبل أن يقل العدد إلى 10 لاحقًا بسبب انصراف الكثيرين إلى مشاغلهم اليومية "منهم اللي عنده ظروف في حياته ومنهم اللي حس إنه قلقان"، حسبما قال عبود للمنصة.
قسم عبود الذي يعمل في مدرسة الشهيد عثمان مكي الإعدادية بقرية المحاميد قبلي في مركز أرمنت ورفيقه الموظف بشركة الكهرباء، المنضمين للمبادرة إلى خمس مجموعات موزعة بين مراكز أرمنت والقرنة والبعيرات وإسنا والأقصر، مع فريق يقوده صموئيل فؤاد يتولى تغسيل المتوفين المسيحيين، وآخر تتولى تنسيقه إلهام طايع لتغسيل السيدات.
عندما يعود عبود لمنزله، يتعايش مع زوجة وخمسة أبناء أكبرهم عمره 21 عاما وأصغرهم أربع سنوات، وأم مسنة. لذلك فإن عليه أن يكون حذرًا "بدخل على طول أغير هدومي وأستحمى. أسرتي بتساعدني نفسيا، زوجتي لم ترفض تطوعي للغُسل عكس واحد من زمايلنا زوجته فضلت تعيط. أنا زوجتي بتودعني كل يوم بالتوكل على الله والاعتماد عليه".
أما صموئيل فؤاد فقد واجه بعض المخاوف من زوجته، إذ يحكي للمنصة أنها "عرفت بالصدفة بعد كذا جثمان غسلتهم، من فيسبوك لما حد من الشباب كتب يشكرني إني بتطوع في تغسيل الجثامين". ولكنه نجح في إقناعها "قلتلها اعتبري اللي اتوفى والدك، لأني أنا اللي غسلته لما اتوفى، لو كل طبيب أو ممرض خاف مش هنواجه المرض".
كان عبود أنهى لتوه تغسيل أحد المتوفين بمستشفى حميات الأقصر التي كان يزورها مصادفة عندما تحدثت إليه المنصة هاتفيًا، موضحًا "لا أستطيع التأخر على اللي يطلبني".
يعتقد عبود أنه من المهم "تكريم الميت مهما حدث له"، الذي لم يخفِ تأثره بمشاهد دفن الجثث حول العالم بإنزالها بالحبال في حفرة عميقة، مستنكرا "ياريته حتى قبر عادي".
وأضاف متطرقًا إلى حادث شبرا البهو "لو هتخاف من طبيب يندفن عشان هيعديك، ودا احتمال ضعيف جدًا، يبقى من حقه ما يكشفش عليك عشان هتعديه، وده احتمال قوي جدًا. تخيلت نفسي للحظات إني توفيت بالكورونا وممكن دا يحصل معايا، قعدت أبكي على نفسي. دي آخرتها أترمي رمية ومحدش يكرمني في قبري ولا يصلي عليا صلاة الجنازة لكي يشفع لي ربي؟".
بدأت رحلة عبود الذي تجاوز الخمسين من عمره مع العمل الخيري، وتحديدًا تغسيل الموتى، منذ 30 عامًا، إذ أنه مسؤول لجنة الجبانة في قريته، وهو ما جعل الكثيرين يتفاعلون مع مبادرته عند إطلاقها في إبريل/ نيسان الماضي.
أول حالة غُسل
تلقى عبود أول طلب لتغسيل مصاب توفي بفيروس كورونا في 17 أبريل بمستشفى الحميات بالأقصر. يتذكر قائلًا "ذهبت للمستشفى على طول مع محمد توفيق، لنفاجأ بعدم توفر بدل واقية، فقمنا بارتداء جوانتي والجاون على الجلباب، لأننا بالتأكيد لن نترك الجثة ونرحل، مش إنسانية، وقلت لمن معي خليها على ربنا، وانتهينا من الغسل والتكفين ثم قمنا بالصلاة عليه داخل المستشفى".
هذه الحالة حملت معها موقفًا عصيبًا "لما وصلنا المقابر، لقينا عين المدفن مفتوحة بس التربي مكانش موجود، فاضطريت أدفن بنفسي علشان أنقذ الموقف".
استمر عبود ورفاقه في تلقي طلبات الغُسل حتى وصل عدد الجثامين التي غسلوها إلى نحو مئة متوفٍ في محافظة الأقصر. ولكن عندما كان عدد الجثامين التي غسلوها 15 رجلًا و25 سيدة، تلقى الفريق تدريبًا من الطب الوقائي بمديرية الصحة بالأقصر، على كيفية تعقيم الجثمان وطريقة ارتداء البدل الواقية.
انضم صموئيل فؤاد للمبادرة عندما هاتفه عبود ليبحث عن سيدة مغسلة تتولى تغسيل جثمان مصابة مسيحية ترقد في ثلاجة أحد المستشفيات، ولكنه لم يجد أحدًا "كله كان خايف" كما قال للمنصة.
يتابع أنه عندما فشل في العثور على متطوعة فاتح أهل السيدة "مكانش فيه غيري ممكن يغسلها فوافقوا وعملت المهمة وجهزتها للدفن. كان ظرف استثنائي".
يعمل فؤاد موظفًا في إدارة التربية والتعليم بالأقصر، ولكنه كذلك ينشط في الأعمال الخيرية منذ أن كان طالبًا في المرحلة الثانوية حيث تطوع في دار للمسنين، وفي خدمات التكفين الكنسية، وبعد ذلك تلقى دورة تمريض تطوع بعد إتمامها في الهلال الأحمر المصري منذ 20 سنة.
يتزايد عدد الحالات التي يتولى الفريق تغسيلها بتزايد أعداد الإصابات، فيشرح عبود "بنغسل ما بين تلات لأربع جثامين في اليوم الواحد، من الغرب للشرق، في الحميات من كام يوم غسلنا جثة الصبح وجثة بالليل، وفي قرية البيعيرات غسلنا تلاتة، وبعدهم أربع حالات منهم اتنين مع بعض".
يشرح عبود بعضًا من المهارات التي اكتسبها من التعامل مع الحالات خاصة بعد تلقيه وفريقه تدريب الطب الوقائي "بنلبس الكمامات والجواتي واللبس الواقي سواء البدلة الصفرا أو جاون بنستعمله مرة واحدة، وبنرش المطهرات على الهدوم. كحول وكلور".
عبود الآن مستعد للتعامل مع الجثة "بنستخدم في الأول قطن بكحول أو ديتول ونمسح الفم والأنف، وبعدين بنغسل على 3 مراحل غسل الجنابة، ثم الوضوء، وبعدين غسل الجسم كله بالماء والصابون، ثم تعميم كامل بالماء وزيت الكافور أو السدر، ثم التنشيف والتكفين".
لا يختلف "التكفين المسيحي" كثيرًا حسبما سرد صموئيل فؤاد، فالإجراءات الوقائية ذاتها "بقف على بعد نص متر من الجثة، وببدأ بغسيل الوش والجسم بمياه دافية وصابون أو بمياه وفورمالين، وبعدين بلبّس المتوفي ملابس جديدة او نضيفة، وبنحط الجثمان في كيس بلاستيك محكم الغلق، ليتم وضعه بعد ذلك في الصندوق"، ولا يخلو الأمر من تلاوة بعض الصلوات أثناء عملية الغُسل.
يستعين المُغسل عادة بمتطوعين قد يصل عددهم إلى أربعة، بحسب وزن الجثمان، للمساعدة في حمله وتقليبه أثناء الغسل.
ينبغي وضع جثامين المتوفين بكورونا داخل أكياس محكمة الغلق، ولكن في بعض الأحيان لا تتوفر هذه الأكياس "يا إما بنحط الجثة في الكيس ولو مش موجود بنزود قماش التكفين"، بحسب عبود.
يستبعد المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية في القارتين الأمريكتين وليم - أدو كرو أن تنتقل العدوى من جثامين الموتى،حيث ذكر في مؤتمر صحفي في إبريل الماضي "حتى الآن، ليس ثمة دليل على أن جثث الموتى تنقل المرض للأحياء (..) ولكن ذلك لا يعني أننا نقول إن الجثث لن تكون معدية، فانتم تحبون موتاكم كثيرا إلى درجة أنكم ترغبون بتقبيلهم أو القيام بأشياء أخرى من هذا القبيل".
تجربة عبود العملية لم تتعارض أبدًا مع حديث أدو كرو، فبعد أكثر من شهر من تغسيل الجثامين بشكل شبه يومي، يؤكد عبود "أنا وفريقي بصحة جيدة ولم يظهر على أي منا أي أعراض، أو حتى دور إنفلونزا"، منوهًا إلى أهمية اتباع إجراءات الوقاية اللازمة أثناء عملية الغسل والدفن "كمان جمعنا بدل واقية وكمامات وجوانتيات ومطهرات وبنوزعها على الترابية. وبنقولهم إنه لو التزموا الإجراءات مفيش خطر. بيتطمنوا".
يؤكد فؤاد أيضًا أن "الميت لا ينقل العدوى للأحياء إلا إذا لمس الإفرازات، فيه أحد المغسلين أصيب بالمرض بعدما غسل أحد المسنين، ولكن أعتقد إنه لم يأخذ إجراءات الوقاية".
حصل عبود مؤخرًا على لقب "مغسل كورونا" في قريته الصغيرة؛ "فرحت باللقب، فهو سيذكرني بأننا تصدرنا ووقفنا رجالًا في المهام الصعبة".
ورغم تعظيم البعض له، إلا أنه تعرض أيضًا للتنمر في عمله حيث رفض مدير المدرسة التي يعمل بها أن يشارك في عملية تصحيح أبحاث الطلاب "المدير بلغني مجيش المدرسة تاني لأن المدرسين اشتكوا إني ممكن أنقل لهم الفيروس". وعندما توجه إلى الإدارة التعليمية ليبلغ عن الواقعة "مدير الإدارة قال لي اعتبر نفسك في إجازة مفتوحة".
ويواصل دون أن تبدو نبرات الضيق في صوته "ريحوني علشان أفضى لمشروعي الخيري".