مع تجدد الجدل حوله بمناسبة عيد ميلاده هذه المرة، هل الجوهري حقًا أن ينال عادل إمام حكمًا نهائيًا بشأن موهبته، أو آخر يحدد قيمته أو فساده؟
في كل الحالات، لا تضيف الأحكام النهائية أكثر من المحو، سواء بتزييف ذاكرة ملائكية لنصبح جزءًا من عفن مقدس، أو فقدان هذه الذاكرة كليًا لصالح إعلاء خطأ ما، فنفقد القدرة على الإدراك والفهم.
النقاء الثوري المزعوم الذي نحاول البحث عنه لدى كل من شكلوا ذاكرتنا هو أمر مستحيل لا وجود له. بداية من نجيب محفوظ إلى أم كلثوم ومن محمد عبد الوهاب إلى توفيق الحكيم وجمال عبد الناصر بل وحتى عمرو دياب ومحمد منير وغيرهم، انتهاءً بآخر الأيقونات الصاعدة؛ محمد صلاح، والذي رُفِع إلى مراتب القديسين مرات ثم شيطنوه عشرات المرات خلال مسيرة قصيرة، وهو إن نجا من دفع الضريبة فقد نجا لأنه صنع صعوده خارج مصر وقواعد لعبتها في الترقي والبقاء في الذاكرة.
تاريخ صعود أغلبهم يتشابه بطريقة ما مع نفس الإشكالية التي صنعت نجومية عادل إمام؛ التكيف مع الوضع أو السلطة، أو فانتازيا إرضاء تصورات شعبوية. التقية والمراوغة، بعضهم فعلها ليحصن قدرته على التركيز لصناعة مجده، وبعضهم قدم وعينا ومصائرنا كقرابين في طريق ذلك المجد.
هل يمكن على سبيل المثال تجاهل هيكل في قراءة تاريخ المرحلة الناصرية على الأقل؟ أشك. على أقدامنا أن تدمى بأشواك أكاذيبه وحيله التي لا تنتهي لمنتچة التاريخ، لكن لا مفر من المرور. صحفي عظيم، عالمي، بالغ الموهبة والثقافة أو متزلف للسلطة، لا شأن لي بحضوره التاريخي، معركتي ليست مع الموتى لكن مع أشباحهم.
هيكل علم زمرة كبيرة من الصحفيين التالين له والساعين لمحاكاة إنجازه؛ أن البقاء فقط بجوار السلطة يمنحك كل شيء وأن البعد عنها لن يُنتِج سوى الاستنزاف في معارك طواحين الهواء. ما تعلمته الأشباح المستنسخة من جثة الميت الحي كان المداهنة لا الموهبة، الركاكة لا الاتقان، الكتابة لا القراءة، وضع مصر كمركز للعالم وللمؤامرة دون إدراك تعقيدات الوضع العالمي على حقيقتها، البارانويا لا التحليل، الثرثرة لا الحبكة، الكذب الفج لا السرد المحكم.
كذلك كان عادل إمام، شجرة سامقة معوجة، ضربت جذور مواهبها في تربة الوضع الفاسد، بعض من فاكهتها شهي، وبعضها سام، وبعضها شهي وسام معًا.
يسري شبح عادل إمام في الأجيال الحالية والتالية، في خرائيات مسرح مصر، وفي السعي لاحتكار الزعامة كمحمد رمضان بالبلطجة اللفظية على اللقب، وفي السقوط المروع والسريع لكل ممثل تنسمنا فيه شيئًا من الأمل، فما أخذوه عن عادل إمام، هو الإضحاك لا الكوميديا، سلطة النجم على العمل لا إدراك أن نجاحه هو نتيجة لدأب متواصل وجمع أفضل العناصر حوله، المجرم المنتقم كخلطة باهتة مضمونة، لا كفهم لما يعنيه البطل الشعبي في الأذهان.
هذا ما يجب محاربته، وليس عادل إمام، ما نحتاجه هو فهمه وتشريح تاريخه بالقطعة، لا بالجملة.
فانتازيا البطل
صعود عادل إمام من العادي إلى الخارق مبني على مفارقة مضحكة "اشمعنى الأستاذ يوسف شعبان هو اللي بيبوس". عندما صار بطلا أشبع نزوات جمهوره بالانتقام من محتكري كل شيء؛ القبلات، الأموال، القصور، في المقابل أشبع نزواته فيما يظنه عن نفسه. صفقة رابحة. لنا فيها ما له، لكن "ما عليه" يجب أن يظل واضحًا وأن نمسك به.
انتصارنا الصغير المشكوك فيه ضد أشباح الماضي التي لم تكف عن صياغة الحاضر وتشويهه والتي تحاصر المستقبل بالعدم، قربانه -بالضبط- أن ننزف نحن، وأن نتحمل الثمن بشجاعة، لأن الآلهة بنت عروشها وصنعت تاريخها وانتهى الأمر. سكنت قممًا لن تزول بالتقادم ولا بحفلات الزار الهيسترية التي نصرخ فيها لطردهم.
على عكس من سبقوه ومن تلوه، لا يقدم عادل إمام بجسده النحيل وملامحه الهزيلة صورة للبطل، بل فانتازيا متخيلة للبطل تسكن ملايين العقول، ومن بينها عقل عادل إمام.
هكذا ساهم عادل في الترويج للتحرش كفعل يجمع لصاحبه التفوق والظرف معًا، كفعل تقبله الضحية. هذا ثمن نجاحه؛ توحده مع صورة البطل الشعبي المتخيلة؛ يبطش بجميع الرجال وتحبه كل النساء وإن استباح أجسادهن كما يشاء. هنا كان عليه أن يتوقف عن التوحد تقديرا لمسؤوليته -أو ادعائه- كمساهم في "التنوير"، وهي المسؤولية التي تحلى بها من قبل عندما تصدى للإرهاب عبر أعمال فنية ومواقف واضحة لا لبس فيها.
لا يمكن التسامح مع دوره في الترويج للتحرش، يمكن فهمه لا غفرانه، لا يمكن غفرانه. لكنه أيضًا لا يصلح أبدًا مدخلًا لفهم فن عادل إمام، أو لإلغاء كل ما أنجزه الرجل. تمامًا مثلما نستطيع الإعلاء من دوره ضد التطرف، دون أن يكون مدخلًا لنسيان أخطائه. لا نبحث عن نقاء مستحيل أو تسامح ساذج ونهائي، هذا ما يعنيني في مقاربة أشباح الذاكرة.
بإلغاء أكثر من أربعين سنةً من العطاء الفني بجرة كيبورد، ما الذي يتبقى سوى فقر الذاكرة وضحالة المعنى، خاصة إذا عممنا ذلك بإلغاء كل ما لم يعد متوافقًا مع رغباتنا الصغيرة الضيقة؟
ماذا لو تبين لأحدهم موقف ما غير منضبط على مازورة النقاء لفرج فودة على سبيل المثال؟
هيستيريا المحو
دوما ما رأيت في هجوم النقاد المبكر والدائم على صعود عادل إمام، شيئًا قميئًا وهيستيريًا، لقد عاملوه بالاحتقار نفسه الذي كنوه للمستفيدين -عبر الفساد والفهلوة- من انفتاح السادات الغاشم. رغم أنه بموهبة حضوره و بطريقته الشعبوية، قدم الرواية عينها التي قدمها لنا محمد خان وداود عبد السيد وعاطف الطيب، وغيرهم من المخرجين المعاصرين لوجوده، والذين فضل عليهم عادل إمام المخرج سمير سيف، النقطة الوسط بين صناعة السينما البديلة والتجارية الرائجة، ومن بعده شريف عرفة، الحرفي الذي انتهت قدرته على الرؤية ولم تعد تسعفه إلا حرفية التنفيذ.
في السنوات المبكرة لنجوميته، صنع بجانب أفلامه الكوميدية التي أثارت سخط النقاد -والتي ستحيا أكثر من توقعاتهم- أفلامًا بحجم الحريف والمشبوه وحب في الزنزانة والغول والجحيم والأفوكاتو والإنسان يعيش مرة واحدة. ورغم ذلك عاملوه كأنه يدين لهم بشيء.
في المقارنة يضعون ثقافة نور الشريف في مقابل ثقافة عادل إمام لمحو إحداهما، نور أيضا داهن السلطة والتصورات الشعبية حتى وإن ناصر الفن. قدم مسلسلًا إذاعيًا عن حسني مبارك، إلى جانب مسلسل عائلة الحاج متولي الذي يحتفي بتعدد الزوجات، وفيلمين على الأقل ضد العلم، جري الوحوش والرقص مع شيطان، إلى جانب وقائمة من الأفلام أكثر رداءة من أسوأ أفلام عادل إمام.
لو عاش أحمد زكي الذي طالما قورن أداؤه التمثيلي بأداء عادل إمام، والذي جسد عبد الناصر، ثم السادات في فيلم كاريكاتيري أقرب لرؤى السادات عن نفسه، كما طمح أن يجسد مبارك على الشاشة. إلى أي جانب كان سيقف؟ أشك أنه جانبنا، هل يمكن نسيان مرحلة أفلام أبو الدهب والرجل الثالث في حياة أحمد زكي؟ وكذلك محمود عبد العزيز الذي يدين بجزء من نجوميته إلى المخابرات العامة، بل إن بعض القصص تحكي أنه استنجد بمبارك أثناء رحلة عمرة ليفوز بدور رأفت الهجان، هل يمكن نسيان أفلام برداءة النمس والجنتل؟ حتى يحيى الفخراني، لا تقل بعض تصريحاته خزيا عن تصريحات زوجته لميس جابر.
هل يمكن إلغاء نور الشريف وأحمد زكي ويحي الفخراني ومحمود عبد العزيز لمواقف ما أبدوها؟
هل للترسبات اليسارية القديمة في تصورها المتزمت عن "الفن الملتزم" أثر في كراهية عادل إمام؟ تلك الترسبات أيضا هي شبح سام يقطن الذاكرة، لا يقل خطورة عما يدان به الفنان، فكم من أفلام سيئة، وفنانين ذوي رؤىً تافهة ومفتعلة وسمجة، دُفِع بهم قسرًا إلى الواجهة بوصفهم معيارًا للفن الراقي، لا لشيء إلا لتلاقي أفكارهم مع تصورات دعائية قاصرة.
فليحيا عادل إمام الذي صاغ ما يمكن أن نعتبره لنا، وليسقط أيضا بما عليه.