الاسم: منى السيد.*
المهنة: أخصائية أمراض باطنية. ومصابة بفيروس كورونا.
مكان العمل الأصلي: مستشفى طنطا.
السن: 42 سنة.
أنا بأشتغل طبيبة باطنة في مستشفى طنطا، وباكتب لكم دلوقتي من مستشفى العزل. كنت بأخالط عدد كبير من الحالات مش عارفة مين مصاب ومين سليم، طبعًا في الوقت ده مكانش ينفع آخد إجازة من شغلي لإن كل طبيب مهم في مكانه.
يوم 3 مايو؛ حسيت بأعراض بسيطة: شوية صداع، كحة بسيطة. قست حرارتي لقيتها مش عالية، بس أنا عارفة إن الإصابة مش شرط تكون بكل الأعراض. وبدأت أشك إني مصابة. بعدين لقيت بنتي، عمرها 10 سنين، بتشتكي من نفس الأعراض وإن بطنها واجعاها أوي، فشكيت زيادة إننا مصابين.
لبسنا الماسكات وأخدنا كل الاحتياطات، وأخدت بنتي في تاكسي وروحنا الأول مستشفى حميات طنطا. قولت لهم إن عندي أعراض أنا وبنتي، وشاكة إننا مصابيين كورونا، خصوصًا إني طبيبة وباخالط حالات كتير. رفضوا يعملوا لنا أي تحاليل أو أشعة علشان نتطمن، وقالوا لي روحي اقعدي في البيت أسبوعين، أنتم ماعندكمش أعراض. مسكتش؛ أخدت بنتي وروحنا مستشفى صدر طنطا، وبعد محاولات إنهم يكشفوا علينا، عملوا لنا أشعة على الصدر وطلعت كويسة وروحونا.
الأشعة بالنسبة ليا مش مقنعة، وأنا عندي شك بنسبة كبيرة إني مصابة، فأخدت بنتي وطلعنا على مستشفى صدر المحلة الكبرى بمحافظة الغربية. الدكاترة هناك متأخرتش، مجرد ماعرفوا بحالتنا على طول عملوا لنا مسحة وأشعة وصورة دم، وطلعت النتيجة إيجابي، بعد كل الأماكن في طنطا ما قالوا لنا إننا سلبي. يعني لو كنا سمعنا كلامهم وروّحنا كنا عدينا عشرات الأشخاص اللي هيخالطونا. قدّام عيني روّحوا عدد كبير من الناس كانوا متأكدين من إصابتهم، وعندهم الأعراض واضحة.
قعدنا في مستشفى صدر المحلة لحد ظهور النتيجة، وطلع قرار إننا نروح مستشفى العزل بكفر الزيات محافظة الغربية. قبل ماتروحي العزل، بتعدّي على مراحل أسوأ بكتير أوي، محاولة أصلًا إنك تتأكدي من إصابتك بالمجهود اللي بتحتاجه، بيبقى صعب جدًا.
حجز في البدروم
نزلونا الأول في مستشفى صدر المحلة مكان زي بدروم كده، لإن ماعندهمش مكان ولا إمكانيات يتعاملوا مع حالات كورونا، اتبهدلت جامد. كنت فاكرة إن الأسعاف هتيجي تاخدنا على طول. بس قالوا إن الإسعاف بتتحرك متأخر، ونزلونا من الغرف للبدروم. مكان ضيق وصغير وحمامات مشتركة وكلنا قاعدين رجالة على ستات ومعانا أطفال، كلنا مصابين، قعدنا نقول لهم أنتم ليه نزلتونا، قالوا دي قرارات حكومة مالناش دعوة.
الوضع كان في غاية السوء. من الساعة 3 العصر وإحنا رمضان وصايمين ومعانا أطفال. مافيش صابونة في الحمام ولا مناديل ولا عارفين نبعت نشتري حاجة. الباب مقفول علينا، ومافيش حد بيرد، ومانعرفش إننا هنتعزل من الأول علشان نجهز حاجاتنا. حتى الحمام كان مشترك، ورجالة وستات بيستخدموه مع بعض. طيب افصلوا الستات عن الرجالة، لكن المنظر مكنش كويس.
من الساعة 3 الضهر لحد الساعة 2 بالليل فضلنا على الحال ده لحد ما جه لنا الإسعاف. ماتحركناش على طول فضلنا مستنيين، لإن لازم كل العربيات تتحرك مع بعض، حوالي 10 عربيات إسعاف. فضلنا قاعدين فوق النص ساعة كمان. وصلنا طنطا الساعة 3 الفجر، قالوا لنا هنطلع على مستشفى عزل كفر الزيات.
ركبنا واتحركنا، فجأة لقينا نفسنا قدام المدينة الجامعية للبنات في منطقة سبرباي بالقرب من طنطا. إيه اللي جابنا هنا ياجماعة، ده مكان عزل جماعي، وحمامات مشتركة، ومش ده اللي قالوا إننا هنروحه. قالوا لنا لأ. أنتم هتتعزلوا هنا، فجأة لقينا نفسنا في الشارع.
هنا بدأت أول مشكلة. خرج الدكتور المسؤول عن العزل في المدينة الجامعية وقال لنا أنا مش هأستقبل حالات علشان أنا ماعنديش أماكن غير سرير واحد فاضي لمريض هايخرج النهارده. فأنا هآخد حالة واحدة بس. وكنا فوق العشرين مريض.
طيب الناس دي هتروح فين، فضلنا نحايل شوية و نتخانق شوية، وكلمنا النجدة و الوزارة والمحافظ، وحاولنا مع كل المسؤولين، وبعدين قالوا فيه مكانين ليكِ يادكتورة أنت وبنتك. كان معايا طبيب زميل مصاب، قولت لهم لأ مش هامشي من غير زميلي، قالوا خلاص يبقى معاكم. بس لقيت الناس بتتعلق فيّ، وبقوا يقولوا لي ربنا بعتك لينا نجدة يا دكتورة الحقينا. حسيت إني مسؤولة عنهم ولازم أساعدهم.
كلامهم كان صعب علي، وقلت خلاص مش هامشي من غير الناس. فضلنا ما بين المحايلات والوسايط والمشاكل لحد ما قالوا نوديكم عزل كفر الزيات. طيب لما إحنا هانروح كفر الزيات جيبتونا هنا ليه؟
فضلنا فوق 7 ساعات في الشارع، لحد الساعة 11 الصبح يوم 6 مايو، وبعدين اتحركنا على مستشفى كفر الزيات تعبانين ومرهقين بأطفالنا في الشارع، ولما وصلنا لقينا الناس هنا متعاونة جدًا، بيحاولوا يوفروا أماكن و يريحونا، ويطمنونا، وهكذا.
الكل خائف وقرفان من الكل
الحكاية بدأت لما دخلت عزل كفر الزيات هنا 6 مايو. لقيت الحالات المصابة هنا خايفيين أوي ونفسيًا مدمرين، معتبرين نفسهم جَرَب، أو حاجة وحشة لازم نبعد عنهم، والناس خايفة من بعضها وخايفة من نفسها وقرفانين، الحال كان صعب جدًا. في الأول مسكت أوضتي حاولت أعقمها وأنضفها بنفسي علشان أتأكد إن كل حاجة نضيفة، وحاولت أخلي شكلها كويس ومريح، وبعدين بدأت أتحرك وأخبّط على الأوض اللي جنبي أتعرف على الناس.
الناس عندها هاجس إنهم داخلين يتحطوا على أجهزة التنفس الصناعي لحد ما تموت. بدأت أتكلم معاهم أحاول أهديهم، إن دي أعراض ممكن تزيد حاجة بسيطة أو تقل وتنتهي وإننا كويسيين. لما كانوا بيعرفوا إن فيه أطباء معاهم مصابين بنفس المرض كانوا بيتطمنوا إن كلنا نفس الحالة وفي نفس المكان مفيش فرق بيننا، وبدأنا نكلمهم لو مش راضيين عن أماكنهم، أحاول أساعدهم يغيروا شكل الأوضة: نحرّك السراير أو الكراسي ونخلق مساحات مريحة أكتر لهم.
بدأت أتواصل مع جميعات خيرية وأهلية بره العزل يوفروا لنا تبرعات عينية زي منظفات ومستلزمات عناية وأدوات تعقيم، والناس بدأت تحس بألفة مع بعض، وإنهم زي بعض ووضعهم عادي ومؤقت، وبقى اللي عنده حاجة زيادة في أوضته يديها للأوض التانية. الناس بدأت تنبسط ونضفنا الدور بتاعنا، لدرجة إن الناس في المستشفى كانوا بيقولوا لنا "أنتم خلاص عملتوا الدور دا بيتكم".
فكرنا شوية في الأطفال المصابة اللي معانا، فهّمناهم الأول يعني إيه مسافة آمنة وهي ليه مهمة، وإزاي يستخدموا الكمامة ومايقلعوهاش، وبقينا نسيبهم يطلعوا يلعبوا شوية مع بعض في الطرقة وهم محافظين على كل إجراءات الوقاية بدل حبستهم في الأوض من غير أي نشاط. الناس كانت فعلًا بدأت تحس إن العزل بيتها، يعني بقوا يتبادلوا العصاير والفاكهة ويتكلموا ويهزروا ويدوا بعض اللي معاهم.
طبيب ومريض ومنسق تعليمي وأسري
عرضنا على زملائنا الأطباء المعالجين في العزل، إننا كأطباء مصابين نساعدهم في العمل. طبعًا وجودنا في العنابر هيسهل علينا التواصل مع المرضى ومتابعة حالاتهم وده أسهل من نزول الطبيب المعالج بالبدلة الواقية، لإن اللبس مكلف جدًا ولازم حد يساعد ويعقم ويطهر، وكمان مافيش لبس واقي كفاية في المستشفى.
الطاقم كله والمديرين رحبوا جدًا بالفكرة، وبدأنا ننفذها فعلًا في العناية أو الغرف. لو حدّ تعب نتابعه، ونكلم الدكاترة فوق يتابعوا معانا، نوصف لهم الحالة واللي بيحصل، ونصوّر الحالات وندي المرضى الأدوية اللي بيوصفها الدكاترة المعالجين، بس الواقع إن الناس مكنتش محتاجة علاج قد ما كانت محتاجة تطمن، يعني إن المريض يلاقي دكتور جنبه طول الوقت ومعاه وفي نفس حالته بس حالته كويسة وقادر يقف على رجله و يتابعه وقرّب يطلع من العزل؛ ده كان بيفرق نفسيًا معاهم جدًا.
الموضوع تعدّى المتابعة الصحية والعلاج، وبدأنا نركز على نقط محدش واخد باله منها، فبقينا كمان نحل المشاكل الأسرية. يعني كان فيه مريض محجوز معانا لكن زوجته وأولاده محجوزين في مكان تاني، وده كان مضايقه جدًا، فنسقنا مع الوزارة وقدرنا نجيب له زوجته وأولاده يقعدوا معاه في نفس مكان العزل. وده فرّحه جدًا وفرق نفسيًا معاه. الفكرة إن طالما فيه أسر كاملة مصابة ليه ما نعزلهمش مع بعض، يحسوا إنهم سوا مش لوحدهم. فبدأنا نجيب الأزواج ولو فيه بنات مع أمهاتهم يتعزلوا سوا، بدل ما كل واحد في مكان غير التاني ومش عارفين يتطمنوا على بعض.
كان فيه كمان مشكلة تسليم أبحاث سنوات النقل بالنسبة للطلاب المصابين معانا. نسقنا بين وزارة الصحة والتربية والتعليم لتأجيل ميعاد تسليم الأبحاث شوية لحد ما يتعافوا، وده خلانا ناخد بالنا من فكرة التعليم في العزل، وإن مافيش طريقة نوصّل بيها الأبحاث دي. الناس هنا عيانة ومفيش نت كويس والمواقع بتقع كتير، ولو فكرنا نخرّج البحث بشكل ورقي؛ يبقى معناه إننا بننقل العدوى من داخل المستشفى لخارجها، خصوصًا وإن فيه أسر كاملة محجوزة، فقدرنا ننسق مع الوزارة على تأجيل التسليمات وده حصل في محافظة الغربية، بس مش عارفة اتعمم في باقي المحافظات أو لأ.
بقينا إحنا في وسط الناس، وإحنا اللي بنحل مشاكلهم، بقوا المرضى يحكوا عن مشاكلهم، وإنهم عاوزين أسرهم المصابة يبقوا معاهم، والناس هنا في الإدارة كانوا متفهمين جدًا.
كأطباء مرضى محجوزين وأطباء معالجين؛ بقينا نحدد موضوع نتناقش فيه كل يوم ونتابع مع بعض. فعملنا جروب واتسآب، بقينا نعمل فيه تسجيل وتوثيق لكل اللي بيحصل في اليوم مع الحالات، وده طبعًا بيسهل متابعتهم.
أنا باكتب لكم دلوقت من مستشفى العزل مع زوجي، اللي جه ورانا بكام يوم، بعد ما اتحجزت أنا وبنتي، بس للأسف مش قاعد معانا في نفس الغرفة. لسه ما خرجناش بس أتمنى إننا نخرج قريب ونكون متعافين وبخير، ويبقى عملنا حاجة مهمة نساعد بيها في الوضع الصعب ده، والتجربة تتعمم في كل المستشفيات اللي اتعزل فيها أطباء مصابين. بحيث يبقى فيه تفاعل بين الناس، ويبقى فيه متابعة وتعاون ومحاولة إننا نخلق مساحة اجتماعية وأسرية بين المرضى من غير مايحسوا بالوحدة و العزلة.
* هذه شهادة لطبيبة مصابة ومحتجزة في مستشفى العزل الطبي بكفر الزيات، وتنشرها المنصة بعد التأكد من هوية الكاتبة والتحقق من شهادتها عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية الملائمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.