أيام متشابهة وليال قاسية تلك التي نقضيها معزولين في منازلنا. توّقفتُ عن عدّ الأيام التي قضيتها مع طفلي في المنزل، كل ما أتذكره هو آخر يوم عمل من المكتب وتغطية أخبار البرلمان قبل الإجازة الرسمية التي قررها مجلس الوزراء قبيل عاصفة التنين، والتي أعقبها قرار آخر بتعطيل الدراسة بعد إعلان اكتشاف حالة كورونا لطفل في مدرسة بالزمالك.
تغير إيقاع حياتي السريع، حل الثبات والسكون محل الحركة والصخب. كنت أشتاق لأسبوع راحة أقضيه بين النوم والسينما والنوم، كان كل طموحي أسبوع واحد فقط أحصل فيه على هدنة من طاحونة العمل في وظيفتين ومسؤولية دراسة طفلي وأنشطته الأخرى التي أدور في فلكها حتى في الإجازات الأسبوعية، لم أكن أتوقع أن أتحول إلى شخص محدد إقامته في منزله كل هذا الوقت.
مع مرور الأيام تزاد حدة الملل، ومع ارتفاع أرقام الإصابات والوفيات يزداد الخوف ونوبات القلق، ويلاحقني عقلي بالتساؤلات التي تبقى دون إجابات: هل سننجو؟ هل سيبقى أهلي بخير؟ هل أصدقائي سيكونون بخير؟ هل نسقط في الأسبوع المقبل ونسجل مئات الوفيات؟ هل ينهار الوضع الاقتصادي؟ هل سيجوع الناس؟ عشرات الأسئلة التي تكاد تصيبني بالجنون كل ليلة فتوقف عقلي عن العمل وتوقفت عن الكتابة.
أدركت أنني في تلك اللحظة القاسية كأم وحيدة مسؤولة عن طفل صغير يجب أن أطمئنه وأهدئ قلقه ومخاوفه وأقابلها بابتسامة وأشاركه لعبه، حاولت وأحاول الوصول لتوازن نفسي لأبقى قادرة على الضحك واللعب والدراسة أيضًا بعد تعطيل المدارس وبدء مرحلة التعليم عن بعد.
.. وهنا جاء تيكتوك.
خطة هروب محكمة نحو التفاهة
"لقد تسرعنا في الحكم على التيكتوك يا أصدقائي" كان الكوميكس المنشور بهذه العبارة مع صورة الفنان أحمد السعدني من فيلم مرجان أحمد مرجان، بداية الخيط، فهذا الأبليكيشن لا يتعاطى معه أغلب أبناء جيلي القادم من الثمانينات، وعادة ما نصدر أحكامًا على رواده، مرة نعتبرهم "بيئة"، وأخرى "مراهقين"، وثالثة "تافهين". يبدو أنه قد حان الوقت للتعرف عليه عن قرب والانضمام لصفوف "التافهين" في هذه المرحلة العصيبة من عمر الوطن.
تيكتوك الذي أسسته إحدى الشركات الصينية أصبح ملاذي في ليالي العزل والحظر للهروب من الضغوط. شجعني في البداية صديقان نشرا فيديوهات لمقطع تمثيلي، فحسمت أمري وأنشأت حسابًا على الأبليكيشن وبدأت أستكشف عالم جديد مختلف كليًا عن غيره من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي تعود عليها جيلي.
"بكلمك مش بترد" كانت الأغنية الأولى التي ظهرت لي على تيكتوك عبر حساب الفنانة هنا الزاهد الناشطة جدًا على هذا الأبليكيشن. كانت هذه المرة الأولى التي أتعرف فيها على هذه الأغنية، واكتشفت أنها "تريند" لدرجة أن عددًا كبيرًا من الفنانات أديّن فيديوهات على مقطع منها.
لم تكن البداية سلسة لواحدة قادمة من الثمانينات إلى هذا العالم الذي فاجأني بمادة ضخمة تنتجها شرائح عمرية مختلفة، تشعرك وكأنك في عالم آخر لا علاقة له بالهلع والذعر الذي نشعر به. فالأبليكيشن الذي يعتمد على إبداع كل شخص وابتكاره في فيديو مدته 15 ثانية فقط متنوع للغاية، ما بين طبيعة الفيديوهات التي يمكن المشاركة بها، والتأثيرات البصرية التي يتيحها والتي لا تقتصر فقط على شكل الوجه والألوان الزاهية والخطوط والنظارات والقبعات المضحكة، وإنما تمتد للمكان المحيط مثل التأثير الذي يعطي إيحاءً وكأنك تعوم في المياه أو تطفو على سطحها مثلًا.
صحفيّة في كي جي 2
بدأت في اسكتشاف هذا العالم وبحثت عن طرق استخدام المقاطع الصوتية وطريقة حفظها في حسابي للرجوع إليها أثناء تنفيذ المهمة، استغرقني الأمر ساعة تقريبًا لحفظ مقطع 15 ثانية الأمر الذي يبدو من بعيد بسيطًا وسلسًا للغاية، أما الإجراء الذي عطل مسيرتي الخطيرة فكان نشر المقطع الذي أديته واستعنت بصديقي المخرج الذي سبقني في إنتاج فيديوهات هناك، ليدلني على طريقة مشاركة الفيديو مع الأصدقاء عبر فيسبوك.
استعنت كذلك بنيللي ابنة صديقتي ذات السبع سنوات في معرفة طرق تقطيع الفيديو، ومساعدتي في تنفيذ المقاطع المعقدة التي تحتاج ارتداء ملابس متعددة لانتاج فيديو واحد، واستخدام تأثيرات مختلفة داخل الاسكتش التمثيلي الذي اخترت أداءه. ابنة صديقتي تقضي على تيكتوك أوقاتًا طويلة منذ اكتشافها هذا العالم قبل عام، وتستغرق في إعداد الفيديو وتنفيذه ساعة كاملة لاختيار الملابس وتجهيز الشكل الذي تظهر به أمام أصدقائها المتابعِين.
.. وحانت لحظة المواجهة.
مع عدم وجود فولورز على حساب تيكتوك كان لابد من مشاركة الفيديو مع أصدقاء فيسبوك، والذين قابلوا الفيديو بالكثير من الضحك، ولكن مع المقطع الثاني اخترت أداء اسكتشًا تمثيليًا لفتاة توبخ حبيبها، هنا بدأت بعض الانتقادات تطل برأسها. لم أهتم. انضمت جحافل الصديقات الصحفيات إلى تيكتوك، وهنا بدأت تعليقات ناقدة من زملاء وأصدقاء على فيسبوك تتهمنا بالـ "هبل"، وأننا غير مدركين لطبيعة اللحظة الفارقة، ولا نشعر بالمسؤولية تجاه الأزمة التي نمر بها.
الزميلة الصحفية آية حسني التي تغطي في عهد ما قبل كورونا الشؤون العربية والتركية؛ نشرت فيديوهات على تيكتوك قلدت فيها الفيديو الشهير الذي تخاطب فيه إحدى السيدات أم حمودة قائلة "أنا مش باكل من تلاجة أبوكي".
ومع توالي الانتقادات نشرت آية فيديو ترد فيه على الهجوم الذي تعرضنا له من قبل الأصدقاء الذين اتهمونا بعدم تحمل مسؤولية "اللحظة الخارقة" ردت آية "الناس اللي بتقول إننا مش حاسين بالمسؤولية إحنا أول ناس حسينا، وإنتوا كنتوا بتقولوا إننا بنأفور ومفيش كورونا. لا إحنا حاسين بالاكتئاب من بدري أوي والخوف والذعر، إحنا هننهار نفسيا وقررنا نهرب".
الصديقة ريهام المصري مراسلة قناة إم بي سي مصر انضمت لصحفيين خاضوا تجربة تيكتوك ولكنها نجت من الانتقادات التي طالتني وآية وصديقات أخريات، كانت فيديوهات ريهام تعتمد على الضحك أيضًا وكأن لسان حالنا لأصدقائنا جميعا: اهربوا من هذا العالم المخيف.
الأسابيع الأخيرة شهدت انضمام العشرات من الأصدقاء إلى تيكتوك الذي زاد عدد رواده منذ الأسبوع الأخير في مارس حتى الآن بشكل ملحوظ، ففي دائرتي الصغيرة أعرف 10 صحفيين بدأوا في تسجيل فيديوهات ساخرة واسكتشات التمثيل والأغاني على الأبليكيشن الذي يضم أكثر من مليار ونصف مليار شخص، من بينهم 800 مليون مستخدم ينتجون فيديوهات. وبإمكانك مطالعة الأرقام المليونية لهذا الأبليكيشن عبر هذا الرابط الذي يقدم إحصاءات على شكل انفوجراف.
حاولت الوصول لمعلومات بشأن نسب استخدام تيكتوك في مصر ومدى زيادة عدد المستخدمين عقب اتخاذ إجراءات الحجر المنزلي وحظر التجول في الثلث الأخير من مارس/ آذار الماضي وحتى الآن. طلب مسؤولو الشركة في مقرها الرئيسي بالصين التواصل مع إحدى شركات العلاقات العامة بالقاهرة. أرسلت استفساراتي قبل أكثر من أسبوع ولم أتلق ردًا، ومع الإلحاح في طلب الرد قالت مسؤولة العلاقات العامة أن الشركة لا تُفصح عن أرقام ولكنها سترسل الأسئلة للمكتب في الصين للرد عليها.
حديث مسؤولة العلاقات العامة يتسق مع ما نشره موقع ألوان التابع لجريدة الوطن من تصريحات لمدير عمليات المحتوى، هاني كامل التي قال فيها إن جيل الألفية هم الأكثر استخداما للأبليكيشن، فيما لم يفصح عن عدد المستخدمين قائلًا "إن الأعداد تتغير كل يوم".
بغض النظر عن عدم الشفافية التي تتبعها الشركة، أرفع الآن شعار هيا بنا نلعب على صفحتي بفيسبوك، وصاحَب هذا الشعار كل الألعاب التي نفذتها خلال فترة العزل وليالي الحظر سواء فيديوهات تيكتوك أو الرسومات والألعاب التي شاركتها مع طفلي.
التصق جيلي والأجيال اللاحقة بفيسبوك وتويتر، لكن علينا خوض تجارب أخرى جديدة قد تساعدنا على الخروج من دوائر مفرغة من الوحدة والخوف. صديقتي الصحفية ميساء فهمي التي تنشط الآن على تيكتوك تقول إن الفرق بينه وفيسبوك "كله تسلية مافيش هري ولا مصدر طاقة سلبية ولا شائعات، هو مجرد تقليد وغناء وتمثل ورقص ومواهب بتظهر مكانش ممكن تظهر على وسيلة تواصل اجتماعي تانية".
كلنا انفلونسرز
أحدث تيكتوك فرقًا معنا جميعًا في تحسين حالتنا النفسية وخلق طاقة إيجابية بين الأصدقاء في ليالي الحظر التي لا تخلو من القلق والتفكير عقب إعلان وزارة الصحة اليومي نسب الإصابات والوفيات.
يقدم تيكتوك لنا مقترحات بمقاطع من الفيديوهات تتنوع حسب اختياراتنا البسيطة مع إنشاء الحساب لأول مرة إذ يطلب تحديد الموضوعات التي نهتم بها بين الرياضة والطبخ والموضة والموسيقى وتسريحات الشعر، ولا يميز في المحتوى الذي يقدمه لك بين مصدر الفيديو، فمثلما يطرح أمامك مقاطع لمستخدمين لديهم آلاف المتابعين؛ فإنه يعرض أمامك أيضًا مقاطع لمستخدمين آخرين لديهم متابعات محدودة لكن ربما يعزز هذا الظهور من فرصهم في مزيد من المتابعين.
هذا العالم الجديد انتشلني من الضغوط والأخبار عكس فيسبوك المليء بالخوف والقلق، هنا لا أخبار ولا أرقام ولا معلومات، إلا أن الأمر لا يخلو أحيانًا من بعض اللمسات التي تقول بها الشركة الصينية أنها تهتم لأمر العالم، من خلال إطلاق تحديات مثل Hand wash song، وStay At Home، كما أطلق مبادرة لتشجيع المستخدمين لتوجيه رسائل شكر مصورة للأطباء والأطقم الطبية.
نجاتنا من ليالي الحظر الكئيبة والبعد عن الأهل والأصدقاء ستأتي حتمًا إن نجونا من الفيروس اللعين وسنعود لمواصلة حياتنا مرة أخرى بشكل طبيعي يوما ما، وحتى يأتي هذا اليوم يجب أن نبقى متسمكين بكل الأشياء التي تُبقينا أحياء، حتى لو اتهمونا بالـ "هبل"، سنعود لمكاتبنا ومصادرنا وسنلتقي زملاءنا يومًا ما. ربما يتهكم البعض وربما يمتدحنا البعض الآخر، هذا ليس بالأمر المهم، لكن ما لم ينته العالم الآن سنكون سعداء بوجودنا على تيكتوك بكل البهجة التي أرسلناها لأصدقائنا عبر فيسبوك الكئيب في نهاية يوم طويل ينتهي بكل منا في بيته يعد الإصابات ويحسب حسابات أسيّة وهندسية لأعداد المرضى والوفيات.