فتحت عينيَّ على عالم غنائي لا يوجد به سوى محمد منير، يشبهني وأشبهه، يخلط همومه الشخصية في أخرى عامة، تبدو أغانيه مثل حالة "ألم شعبية" كَست سنوات التسعينيات في مصر؛ مبارك يكرس سياسة خبيثة تقوم بالأساس على التؤاطو بين الشعب والحكام في الفساد والتبعية، علي الحجار يرتدي زيًا عسكريًا ويقفز ببلهوانية، مثيرة للدهشة، مثل جندي مظلات على المسرح في احتفالات أكتوبر، وأنغام تنتظر أمام كوب الليمون حبيبها الغائب وتندب حظها التعيس، بينما السيدة الجميلة صاحبة الصوت الفَرح العذب عفاف راضي تغني في المواسم الرئاسية اخترناه، ومغامرات مدحت صالح العاطفية في أروقة المحاكم لم تترك لنا منه، نحن محبو الموسيقى، سوى أشياء قليلة وباهتة.
ما هذا الهراء والخواء يا أهل المغنى؟ ظهرت مشروعات غنائية لامعة (مثل حنان ماضي) لكنها انطفئت سريعًا كنجم هوى وخلف وراءه الكثير من الأسى، لم يبق سوى منير، مع كل ألبوم جديد كان هواء نقيًا ومصريًا حتى النخاع يملء رئتي وينعش مخيلتي للتفكير والتأمل بعقل مراهق لم يخط بعد نحو عامه الخامس عشر، اتنفس بحرية في مدينة نائية وبعيدة عن المركز الصاخب، مثلما كانت مرسى مطروح في نهايات القرن الماضي.
غناء كهدير بحر مطروح
كان منير يبدو مثيرًا للسخرية من الجميع حولي، في مدينة قدمت لعالم الغناء في القاهرة، علي حميدة، قائد انتفاضة لولاكي في ملاهي الثمانينيات، أحد أصدقائي كان يقلد محمد منير وهو يلف حول رقبته "سلك المايك" ويشبك أصبعيه السبابة والإبهام ببعضهما البعض ويصنع بيده موجات غير منتظمة في الهواء في مشهد كاريكاتوري ساخر، حاولت تطويع ذائقتي للوصول إلى نقاط اتفاق مجتمعية.
لو جاز لي التعبير، ليس مقبولًا من مراهق يتأمل صخور الشاطيء أحيانًا بالساعات ويفكر في طريقة مبتكرة لفك غموض وسحر البحر اللانهائي، أن يكون مطربه المفضل محط ازدراء معظم من حوله، في تلك الأثناء كانت مطروح اتفقت على أن عيني لحميد الشاعري وهشام عباس، وطبيب جراح لجورج وسوف، هما أغنيتا الموسم الصيفي؛ على الشاطئ وفي سيارات التاكسي والمشروع (عربات الأجرة) ومحلات المدينة وقاعات البلياردو، كان الكل يغني بعذوبة ونشوى "نفسي ومنى عيني" أو "قلوب الناس أداويها". أصبح الأمر أشبه بنشيد قومي لسكان الصحاري الشاسعة المطلة على البحر.
"المزداوية" لمسوا شيئا في قلبي؛ مشروع ناصر المزداوي ومن بعده حميد الشاعري كان قريبًا مني بسبب قربي الجغرافي من الأراضي الليبية، وتسربت تلك الظاهرة الموسيقية التي طبعت الغناء المصري فترة من الزمن إلى شراييني منذ الصغر، حتى إنني لم أجد ما يدفعني إلى سماع نور العين لعمرو دياب سوى لمسة ناصر المزداوي التي لا تخطئها أذني أبدًا.
في الصحراء ثمة عالم غنائي آخر، لكنته العربية الخشنة قد تكون غير مفهومة لسكان القاهرة والدلتا، من نجومه؛ الرحلان سلطان الصحراء الكفيف صديق بوعبعاب وعوض المالكي، لكني لم أستطع تطويع ذائقتي على تلك النوعية من الأغاني المحلية في منطقة مغلقة ثقافيًا إلى حد ما، وهى أغانٍ جميلة بالفعل، لكنها غارقة في "أنا" و"هجروني الغوالي" بعيدة عن "نحن" و"العام"، موضوعاتها غالبًا الحب المستحيل أو التوله في محبوبة غائبة، نادرًا ما تفارق الأنماط السائدة من نموذج المطرب العاطفي إلى المطرب المهموم بشؤون أبعد قليلا أو كثيرا من ذاته وذات حبيبته.
بدايات الألفية الثالثة بدا نجم منير في أفول لديَّ، غادر منطقة الغناء التي أحبها إلى أخرى تجارية ترضي المستهلك، ويرقص عليها الفتيان والفتيات على شواطئ مطروح وليس أكثر من ذلك، فتشت في لبنان عن صوت يناسب ذائقتي الموسيقية، أعجبت في مراحل ما وبأغان معينة لـ مرسيل خليفة وزياد رحباني ومخول قاصوف وسامي حواط وجاهدة وهبة وخالد الهبر، وفي فلسطين كاميليا جبران، وأحببت ومازلت من الجزائر الراحل الجميل رشيد طه وسعاد ماسي، ومن سوريا عابد عازريا، لكن دائما كان ثمة شيء ما ناقص، هناك حلقة مفقودة تدفعني إلى الإنكفاء على الإرث المنيري في الثمانينيات والتسعينيات حتى إشعار آخر.
لم يكن لديَّ الوقت الكافي في زمن الحراك الثوري، وأنا في قلب القاهرة هذه المرة وليس في مطروح مدينة الملائكة والحوريات، لتحديد هوية غنائية تخصني من ضمن الأصوات الجديدة التي ظهرت فجأة في سنوات الانتفاض، التقيت في الميدان بمطرب يعيش الآن خارج مصر، يغني للثورة والسجناء، لكن أية ثورة يمكن أن يحملها إلى الجماهير هذا الصوت المنفر للشعور وتلك الكلمات الزاعقة التي تخترق القلب كالسهام المسمومة؟ بدا لي أن هزائم الميادين تجلت في هزيمة الذائقة، باستثناء إسكندريلا وحمزة نمرة طبعًا، حتى وجدت "الفرعي" بهدية ضلت طريقها إلى قلبي مباشرة.
"الفرعي" كحلم بغناء عربي متجدد
بدأت في الاستماع إلى موسيقى الراب، للمرة الأولى، في بدايات الألفية الثالثة، أعجبني مؤد مصري في تلك الفترة، ثم لم أجد في نفسي دافعًا للاستمرار تحت سياط الكلمات الركيكة والأداء كثير الافتعال والصخب المجاني الذي يزعج الأذن وقد يسبب الصداع، فضلت الإنكفاء على ما لديَّ من ذائقة أسيرة للغناء التحريضي، وفي أحيان أخرى الفرار إلى الموسيقى الكلاسيكية؛ أسمع كورساكوف مرارًا وتكرارًا، وأنحو أيامًا إلى فاجنر، وأحيانا الإيراني مجيد انتظامي، ثم أعود حسيرًا إلى موضعي الأول، إلى صوت محمد منير.
تأخر اكتشافي مغني الراب الفلسطيني/ الأردني طارق أبو كويك المعروف بـ"الفرعي"، صديقة أخبرتني ضاحكة أن أخيها الأصغر أرسل لها أغنية لشخص يصرخ "انتي اتغيرتي ليه"، وللتدليل على مدى انزعاجها أرسلت لي الرابط نفسه، ومن حينها فُتح لي "صندوق بندورا" آثر وخلاب، ومن أغنية إلى أخرى ألاحق الدموع الواقفة على باب عيني، صوت ذبيح يحمل ألمًا إنسانيًا ومأساة سيزيفية على كاهليه الداميين من ثقل صليب الشتات، يرنو مثل معظم الشباب العربي إلى مستقبل يفارق حاضره الأسود وراهنية القمع والاستبداد، خطوت إلى عوالم أعرفها جيدًا من كثرة مخالطة الحزن العربي الدائم، وقفزت إلى رأسي أسئلة من نوعية: كيف لشعوب تنتج كل هذا البهاء الفني أن تختصر كجملة عابرة في صفحات تاريخ استعماري أو استبداد محلي؟
لم أؤمن بقضية قدر إيماني بحتمية تحقيق العدل الاجتماعي ونضال الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية، لدرجة أنني في فترة مبكرة من حياتي كنت أفد من مطروح للقاهرة قبل أن أستقر نهائيًا في العاصمة، للتظاهر دعمًا للفلسطينيين مع مجموعة من خيرة مجانين حوض البحر المتوسط النبلاء؛ صديقي وأخي الأكبر المناضل القومي علي أبو كرم والسيدة الفاضلة بشرى عزيز ورفقة جميلة من أبناء مطروح، معظمهم على علاقة وطيدة بالمسرح؛ تمثيلًا وإخراجًا، ثم نعود أدراجنا إلى مدينتنا مرة أخرى، لذا أصبحت فلسطين منذ الصغر محركًا أساسيًا لذائقتي في الأدب والموسيقى، حتى في تكوين الصداقات والمعارف.
ربما لهذا السبب دخل "الفرعي" قلبي دون استئذان، ووجدته يقف في منطقة مميزة بين مغني الراب، متوسلا بـ"الوظيفة الاجتماعية للفن"، تشبه تلك التي أسس لها محمد منير من قبل، في استبطان الهم العام وطرحه ضمن شجون ذاتية محضة، فلا تعرف هل يتغنى بحبيبته أم يغازل وطنه؟ هل يعاتب أشخاصًا خدعوه أم تراه يقصد بلاد أورثته هزيمة تلو أخرى؟ لكن الإنصاف يقتضي القول إنني أرى "الفرعي" في مرحلة بعيدة حتى الآن عن ثورة منير الغنائية التي ذبلت نهاية القرن الماضي، وجف ماؤها نهائيًا مع الانتفاضة المصرية.
تختفي جنسية الفرعي الأردنية بإلحاح من أصوله الفلسطينية الواضحة في معظم أغانيه، ورغم انتماءه والتزامه بقضية وطنه لا يقع تحت عجلات الفجاجة والمباشرة (خاصة في إنتاجه الأحدث)، حتى وهو يغني ضد الانقسام الإجرامي بين حركتي فتح وحماس، يمتلك حساسية فائقة ومرهفة للغاية تجاه كلماته، مسترجعًا هويته بتعريف نفسه "فرع المداخل.. من الشتات للداخل"، ناظرًا إلى داخله المحتل وبلاده المستعمَرة، التي يقول عنها الناقد فيصل دراج بلغة بلاغية آثرة ويقينية: "فلسطين تستيقظ بعد القتال، والقتال من أجلها لا يخطئ طريق الانتصار".
يقدم "الفرعي"، من وجهة نظري، التجربة الأبرز عربيًا من بين كل أقرانه في هذا النمط الغنائي الذي يتسرب ببطء إلى الوجدان العربي منذ أكثر من عشرين عامًا، ويبتعد بذكاء وحصافة عن انفجارات التلذذ بالغناء عن المخدرات والجنس وترديد الكلمات البذيئة الزائدة دون داع والخالية من المعنى، وفيما تندلع حروب الهجائيات اللاذعة بين نجوم الراب، يخاطب هو جماهيره بوعى أخّاذ مع فرقة الروك الأردنية المربع عن "قصة أسير ضل يحفر.. تيوصل ويهرب/ وبس شاف الشمس.. كانت عم تغرب/ قال الحرية مبيوعة.. والناس ما بتوعى".
في وقت تغيب فلسطين عن الفضاء الرسمي العربي وتُقدم على مائدة اللئام الإمبريالية وتنشغل صحف عربية بالترويج لصفقة ترامب (أسمتها بوقاحة وخبث: الخطة الأمريكية للسلام)، تشرق فلسطين بكل بهائها المقاوم في أغاني "الفرعي"، على الفور يستدعي الوجدان العربي ما كان يحدث قبل أكثر من ثلاثين عامًا، عندما كان محمد منير يغني لـ"زهرة صيدا وسيناء" ويهدى كلمات جمال بخيت وألحان عبد العظيم عويضة إلى الشهيدة اللبنانية سناء محيدلي.
استمعت إلى "أتحدى لياليك" للمرة الأولى أواخر التسعينيات، ودفعنى إهداء الأغنية إلى البحث عن تاريخ سناء المجهولة لديَّ حينها ثم الغرق في أفكار حزبها "القومي السوري الاجتماعي"، وزعميه ومؤسسه أنطون سعادة، وتنظيراته وبينها ضم شبه جزيرة سيناء وقبرص إلى "دولة سوريا الكبرى"، واعتباره تميُّز الشعب السوري لأسباب عدة منها حجم الجبهة، واستغربت انتماء شاعري المفضل في قصيدة النثر محمد الماغوط إلى الحزب في فترة مبكرة من حياته (مثل أدونيس أيضًا)، ربما بسبب السمعة الأسطورية التي راجت عن "سعادة" أوساط القرن الماضي وشجاعته الملهمة فيما يروى عن لحظة إعدامه وهو في منتصف الأربعينيات من عمره، ومعاداته الحازمة بل الوجودية للاستيطان اليهودي في فلسطين، بالإضافة عن ألمعية أفكاره وتفردها الفاشي عربيًا في سياق تاريخي طفح بصعود نماذخ عالمية شبيهة.
في التوقيت نفسه لغناء منير أتحدى لياليك كان صوت ثوري فذ يصعد كالبركان في الأرض المحتلة، يسير خطوة بخطوة على وقع الانتفاضة الأولى مع أطفال ونسوة ورجال يرشقون بحصى الأحلام قطعان الضواري الاستعمارية المنفلتة من كل القوانين والمتحللة من كل الأخلاق، كان جورج قرمز يضخ في الشرايين العربية المتصلبة من هول الخذلانات الرسمية دماءً جديدة، ثورية وإنسانية إلى أبعد حد (قصيدة ضد من كلمات الراحل راشد حسين وألحان قرمز نفسه، دليل ساطع على تحضر المقاومة العربية الثقافية والعنفية على حد سواء ضد التوحش الصهيوني).
بلا صورة أو عنوان أو حتي نصب تذكاري أو شاهد قبر، اختفى الفلسطيني جورج قرمز مع صعود ترتيبات أوسلو الشائنة، بدا أنه باحتجابه النهائي يحتج كمرة أخيرة على ما كان يقاومه غنائيًا.
هل يشبه الفرعي يشبه جورج قرمز؟ لا، ولن يكون بالطبع، لكنه الامتداد الطبيعي لغناء عربي متجدد، فلسطيني الهوى، مقاوم للإمبريالية، إنساني وضميري، يتوسل بالضمير العام للبشرية والطموحات المشروعة للعرب، حداثي حتى النهاية، وعربي حتى النخاع، سلسال طويل ممتد من منير إلى قرمز حتى يصل للفرعي ومن سيأتي بعده، بالريجي أو البلوز، بالجاز أو الراب أو الروك، بالعود أو الكمان، بالدرامز أو الطبول، يسكن القلب من دون إنذار ويشكل ذائقة عربية حرة.
"الراب" كفن بروليتاري وتحريضي
عكس الفنون المقروءة أو المسموعة التي نشأت كفنون برجوازية، ظهر الراب، مثل كل الفنون الشعبية في بلادها، كنمط غنائي للمحرومين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، صوت للمهمشين في أمريكا من الأفارقة المغلوبين على أمرهم، غناء احتجاجي لا يحتاج كثير عناء ليكتسب عشاقه من الطبقات الفقيرة نفسها ثم يتحول إلى نشيد صاخب، غاضب للمتعبين في كل العالم، يعادي الأخلاق البرجوازية باستخدام كلمات وأوصاف بذيئة أحيانًا، ويدوس بأريحية شديدة على أعراف اجتماعية صارت راسخة من فرط تكرارها الممل، لكن؛ لا بأس، فلتسقط القيم المهيمنة لو كانت تعادي جوهر حق الإنسان في العدل والحرية، وحتى هذا لن يوقف صرخات تملء الفضاء بضجيج "دعه يعمل دعه يمر" وكأنهم يقولون؛ دعه يتعذب ولا تدعه يفر، لكن دعه يغني قليلًا ليتخفف من تعب الإنتاج ثم يعاود الكد ليربح آبانا؛ الطيب العطوف.
يندر أن تقرأ خبرًا عن اعتقال مطرب بسبب أغنية، فيما لو كنت من مستمعي الراب ستعتاد على مثل تلك الأخبار المضجرة، ذاك لأن الراب الخاضع للسلطة بلا قيمة حقيقية، وسرعان ما يبقى وحيدًا في أحد أركان الذاكرة يعاني العتمة والتجاهل ومن ثم النسيان بعد فترة وجيزة، لأنه يعادي جوهر ومعنى ما يقدمه، والسلطة، أي سلطة، لا تستطيع تدجين الراب لأنه متمرد بطبعه، فوضوي إلى حد ما، يرشق أحلامه بضراوة في فضاء عدواني ضد وجوده وذاته، يحلم بالتغيير ويعد نفسه في مهمة رسولية مثل يقينيات الوقوع في الحب الأول لدى المراهقين، هو: شاب، جامح، فتيّ، لا يراوغ مستمعيه، يمنحهم نشوى الموسيقى وأسطورة التمرد الأبدي وحزن الحلم الملون البعيد كنجم في السماء تحاصره ظلمة ليل صماء ومخيفة.
لم يكن غريبًا أن تنتشر أغاني الراب بين الشباب بعد انتفاضات 2011، فترة المخاض العربية الكبرى تمخضت عن هزائم لا حصر لها على كل الأصعدة، انهارت أحلام الناس مثل بناء شاهق الارتفاع جرى تفجير أساساته بغتة ودون ترتيب، أو هكذا بدا، ولم يكن الغناء القديم على درجة الفوران نفسها التي اصطخبت في وجدان الجماهير، حتى الأسماء التي أسست في مرحلة ما ذائقة الأجيال العربية الثائرة خذلت تاريخها، وحالة محمد منير تفصح عن ظاهرة انهيار كامل للقيم المؤسسة لكل هذا الجيل، وللمفارقة على الحجار خلع البزة العسكرية ونزل إلى الميدان بـ"ضحكة المساجين" الركيكة، فيما منير صاحب الوجدان الثائر تنكر إيما تنكر لكل ما كان يمثله يومًا ما، وكان الخاسر الأكبر من الانتفاضة المغدورة، وفقد القطاع الأكبر من جمهوره.
غناء ما بعد الأنقاض
لم يكن ظهور الراب والمهرجانات بشكلهما الراهن في الواقع الغنائي العربي منبت الصلة بما سبقهما، وبالتأكيد سيؤثران في ما سوف يتبعهما من ظواهر موسيقية تستحق التوقف عندها وتأمل تأثيراتها على الذائقة العربية. بينما يبدو المشهد في مصر ملتبسر ا من وجهة نظر الكثيرين، أصحاب العروش القديمة وذراعهم الطولى؛ نقابة المهن الموسيقية (لصاحبها الحالي هاني شاكر وسلفه مصطفى كامل وأغانيهما الغارقة في العويل شبيهة انهيار أسقف الغرف فوق رؤوس ساكنيها)، يناصبون العداء لأنماط وأصوات جديدة، شابة، متمردة، تكاد تجرف في سيل تقدمها الهادر كل الأسماء المهيمنة، بينما أصحاب تلك الظواهر أنفسهم يبدون غير مكترثين بكل هذا الضجيج المفتعل، هم ينتجون ويواصلون الإنتاج بفرح طفولي تدفعه متعة الاكتشاف، ولا يحفلون بمدى صوابية رؤاهم الفنية في مواجهة خصومهم صناع الذائقة الرسمية.
على الضفة الأخرى تقف أكثرية الشباب من المتلقين/المستمعين مع منتجي الغناء الحديث، بعد فوران سياسي واجتماعي وثقافي، تجلى في انتفاضات مازالت تخلخل أركان النظم السياسية في العالم العربي، ومن ثم انتقلت إلى تشكيل ذائقة جديدة تتمرد على كل القديم بوصفه إنتاج إبداعي يخص حكومات تشبه سلطة المماليك القروسطية من فرط قمعها الوحشي لحرية الإنسان وحقه في العدل الاجتماعي من جهة، ومن أخرى تفانيها المثير للغثيان في النهب المنظم والإفقار العمدي.
مؤدو الراب أصواتهم الخشنة في الغالب وألحانهم الجنائزية أحيانًا تشبه الواقع العربي الراهن، الغارق في حروبه ومآلات التفكك الكبير التي تحملها الغربان الناعقة في سماء المنطقة، منذرة الجميع بأن البلاد القديمة تركت خلفها شعوبًا ترزح بين أطلال الاحتراب الأهلي ورحى الفقر والعوز، تركت خلفها المأساة حاضرة كالشمس؛ مأساة يشعر الشباب بتأثيراتها أكثر من غيرهم من الفئات العمرية الأكبر، لأنه ليس ثمة مستقبل يختبئ بين ركام هذا الخراب، لهذا ينحازون إلى الراب؛ كأنه يخصهم وحدهم في مواجهة عالم قديم ينهار وآخر جديد يتشكل على غير رغبتهم، ولم استغرب استنكار أحد أصدقائي الكبار أثناء حديث عن الراب، مندهشًا قال "هو الراب غُنا؟"
في بدايات القرن الماضي استطاع سيد درويش انتزاع مصرية الغناء من الحالة العثمانية التي كرست "التتريك" على الموسيقى، بالتزامن مع صعود حركة القومية العربية في المرحلة النهائية للإجهاز على الرجل المريض وأبوابه العالية في اسطنبول، استفاد القوميون في تحرير العرب من العثمانيين بمد شعبي هائل، التقط الخيط الفني الشيخ سيد (فنان الشعب) وأسس لألحان عربية ممتدة حتى الآن. في حالة الراب، هو فن وصل إلينا بصورته الحالية من الغرب بالأساس (أحمد مكي يرى أن مصدره الأول المبارزات الشعرية في الجزيرة العربية)، ومهمة الأجيال الحالية الأساسية هى تعريبه من ناحية الأفكار المغناة للوصول إلى أكبر قدر من الناس، بتوسل القضايا العربية الكبرى، وفي القلب منها فلسطين ومقاومتها للمستعمرة الصهيونية، وإشكاليات التحرر في مواجهة القمع والاستبداد المحلي، والعدالة الاجتماعية ضد الطغيان النيوليبرالي.
أؤمن أن الفن الصادق الأقرب لمشاعر ووعي الناس في مرحلته التاريخية يبقى طويلا في الذاكرة الجماعية للشعوب حتى لو لم يكن محمولا على سلطة أو جماعة، ربما يكون الراب والمهرجانات هما غناء المرحلة وبوصلة ذائقة جديدة تتمرد بشكل مطلق على القديم المتكلس الراكد، مرحلة الأنقاض والأطلال والعنف السلطوي ونظيره الشعبي، مرحلة الأجيال الضائعة، بعد سنوات قليلة من حلم لامس السماء قبل أن يتحول إلى كابوس عربي لا نظير له، قَبَرَ عشرات الآلاف من الشباب تحت التراب والتهم مئات الآلاف في السجون وأقبية التعذيب، وطوح بالملايين في هوة اليأس والألم النفسي الذي يراوح مكانه ولا يزول، تحمله طواحين الهواء الفاسد الملوث بالهزيمة من بلد عربي إلى آخر، فيما الشباب يقاوم من اليمن إلى المغرب.
كل هذا الخراب، بالغناء الخارج عن كل الأنماط القديمة الساقطة في امتحان الانحياز للناس في لحظة الحقيقة الأكبر في العشرية الأخيرة، لذا لم يكن أمامهم من بد سوى عنف وتمرد الراب وصخب وسيريالية المهرجانات، وعلى المتضرر الجلوس متأنقًا وصارمًا ووقورًا بالملابس الرسمية في بهو نقابة هاني شاكر للاستماع إلى مزيج من غناء الزمن الجميل، ثم البكاء بين يدي جنرالات المحافظة وحراس الجمود، في انتظار حكم التاريخ، عساه يكون منصفًا هذه المرة للمغلوبين؛ الحمقى عراة الأقدام، مدججي الرؤوس بأفكار كالقنابل، في ركضهم الأبدي نحو أفق بعيد، يعتقدون بإيمان، كحواريي المسيح، أنه يوصلهم لليقين والمستقبل.