عادة ما يشغلنا التفكير في الطعام الذي نتناوله أو المنتج النهائي الذي نستهلكه عن هؤلاء الذين يزرعون وينتجون هذه الأطعمة والسلع، ولكن يبقى تصاعد أزمة انتشار وباء كورونا المستجد خلال الأسابيع الماضية وما تبعه من إجراءات استثنائية طالت الجميع، فرصة للتفكير في هؤلاء البشر غير المرئيين، رغم كونهم حقيقيين في النهاية.
يعمل صغار المزارعين في ظل حجر ضروري للجميع لا يملكون هم رفاهية التمتع به ولا يملك المجتمع أيضًا هذه الرفاهية، ولا تبدو ظروف عملهم مثالية بالتأكيد، لهذا يبدو لازمًا الالتفات نحو فئة محددة من الأبطال المجهولين المنسيين، عاملات وعمال الزراعة وصغار الفلاحين، ومحاولة فهم ما يمرون به عمومًا، وفي ظل هذه الأزمة بالذات.
كولونيا 555 ومزارعو القصب في الصعيد
على شبكات التواصل وفي المواقع الإخبارية تتردد قصة نجاح كولونيا 555، وهي قصة حقيقية عن قدرة واحد من مصانع الدولة، نجا جزئيًا من خطط الخصخصة، على المساعدة في حمايتنا من الفيروس وتوفير بدائل مماثلة للكحول الإيثيلي الذي اختفى من الصيدليات بالتزامن مع انتشار الوباء، دون أن ترهق جيوبنا وتتركنا رهائن لأغنياء الأزمة كما حدث مع العديد من السلع التي يسيطر على أسواقها منطق الأرباح قبل الأرواح.
ولكن رغم ذلك، فإن قصة كولونيا 555 ليست فقط قصة مصانع الدولة أو شركة شركة السكر والصناعات التكاملية المصرية، ولكنها أيضا وبشكل أساسي قصة الآلاف من مزارعي القصب وعمال المصانع في صعيد مصر.
فكميات الكحول التي يستخرجها مصنع الكحول في محافظة المنيا من مولاس القصب، تتوقف على كمية ما ينتجه الفلاحون من قصب السكر الجنوب، والتي تبلغ حوالي 15.9 مليون طن على مساحة 326 236 فدانًا، وفقا لتقرير مصر في أرقام 2019 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
يواصل هؤلاء المزارعون بصبر وإصرار إنتاج القصب الذي ينتج الكحول الذي يحمينا الآن، رغم تجاهل الحكومة المستمر لمطالبهم المستمرة منذ سنوات طويلة، بزيادة سعر توريد الطن. وفي نهاية الأمر، تظهر منتجات 555 وفروع قسمة والشبراويشي كأبطال، بينما لا يكاد أحد يذكر الدور الأساسي لمزارعي القصب في قصة النجاح هذه، أو يأبه بالنظر إلى مطالبهم ضمن خطط الإنقاذ الاقتصادي.
المزارع العائلية بالوادي والدلتا
بينما يستطيع الأغنياء والميسورين وأصحاب المهن المكتبية ممارسة عملهم من المنزل محميين من المخالطة التي تؤدي إلى إصابتهم بالوباء، يستمر الكثير من العمال والفلاحين في الذهاب إلى الأرض لرعاية المحاصيل وتحمل المخاطر من أجل استمرار الإمدادات الغذائية للجميع.
تظهر اليوم أهمية هؤلاء الفلاحين الذين يوفرون نحو 63% من احتياجتنا الزراعية، حسب تقرير تقرير الزراعة في أرقام 2019. ورغم أنهم فاعلون أساسيون في تيسير خروجنا من الأزمة، فإن أحدًا لا يلتفت إلى نضالاتهم اليومية باعتبار ما يقومون به مكتسب للمجتمع.
وبينما يوجه الجميع الشكر للطواقم الطبية، وهو شكر يستحقون أكثر منه بكل تأكيد، فإن قطاعات كبيرة من المجتمع تعمل بالتوازي مع الأطباء والممرضين والفنيين والعمال الطبيين، من أجل تيسير حياتنا وحفظ أرواحنا خلال الأزمة ذاتها، ولا نقابل ما تقوم به إلا بالتجاهل في أحسن الأحوال.
اليوم، تبدو أهمية الزراعة العائلية التي يقوم بها صغار الفلاحين، خاصة وأنها قادرة على التنظيم الذاتي لاستمرار الإنتاج مع إمكانية أكبر لحماية الأرواح بحفظ المسافات. هذا النمط الإنتاجي المناسب أكثر للبشر أكثر قدرة على التكيّف مع الأزمات من أنماط الإنتاج الكثيفة والإنتاج الكبير .
ولنوضح أكثر الفارق بين الزراعة العائلية والزراعة الرأسمالية، يمكن الإشارة إلى الأزمة المتوقعة في حصاد العديد من الخضروات والفاكهة في العديد من الدول التي تبنت نمط المزارع الكبيرة، بسبب القيود المفروضة على الحركة والتي ستؤدي إلى قلة الأيدي العاملة الكافية للحصاد.
ولمواجهة هذا الخطر المحتمل، أقدمت كندا مثلًا على استثناء العمالة الزراعية من قيود السفر، في حين دعا وزير الزراعة الفرنسي وكذلك المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية سيبيت ندياي الفرنسيين الذين توقفت أعمالهم نتيجة العزل، للذهاب إلى المزارع ومساعدة المزارعين في جمع المحاصيل.
اعتادت الخطابات الرسمية والتنظيرات النيوليبرالية على اتهام الزراعة الفلاحية بعدم الكفاءة واعتبار الفلاحين "عقبة" أمام التحول لما يعتقدون أنه النموذج العالمي الرائد، المعتمد على الإنتاج الكبير والزراعة الرأسمالية. ولكن فجأة تتحول هذه العقبة المختلقة إلى طوق النجاة، لأنه لولا هؤلاء المقاومين الصامتين، لكان وقع الأزمة أكبر كثيرًا مما هي عليه الآن.
لم تطور الحكومة المصرية استراتيجية تلائم خصوصية أوضاع الريف المصري، بل على العكس استمرت سياسات إفقار الفلاحين ودفعهم للخروج من الإنتاج الزراعي مع تمادي التركيز على المزارع الكبرى والإنتاج التصديري. لنتخيل تأثيرات خروج آلاف الفلاحين من الزراعة تحت ضغط السياسات الزراعية التي تحتقر الفلاحين في ظل عجز الزراعة الرأسمالية والزارع الكبير على حل محلها، رغم كل الدعم الحكومي المستمر لهما.
عاملات وعمال الزراعة
تشاهد في الأسواق اليوم الكثير من الخضروات والفواكه الطازجة. الكثير من إنتاج هذه الفاكهة يأتي من الصوب الزراعية والمزارع الكبيرة والمتوسطة التي يعمل بها آلاف العاملات والعمال الزراعيين. تشير دراسات عديدة إلى وضع عاملات الزراعة بالمزارع الكبيرة وتدهور ظروف عملهن وظروفهن المعيشية.
تمثل الزراعة القطاع الذي يستوعب قوة عمل كبيرة. نحو 25% من قوة العمل في مصر تعمل بالقطاع الزراعي والصيد، ولكن رغم تزايد المخاطر مؤخرًا بسبب انتشار الفيروس، وحتى هذه اللحظة، لا يوجد أي حديث رسمي عن أشكال الدعم والحماية التي يمكن تقديمها لهذه العمالة اليومية، خاصة وأنها غير قادرة على البقاء في المنازل والتوقف عن العمل.
عاملات وعمال المزارع هم من يجمعون لنا الفاكهة والخضروات التي تنتشر بالأسواق ونعتمد عليها اعتمادًا رئيسيًا في غذائنا اليومي، لذلك، وجب علينا الاهتمام بصحتهم ومحاولة وقايتهم من التعرض للإصابة بكورونا.
وبالنظر إلى الأهمية الاقتصادية الكبيرة لعاملات وعمال المزارع الكبيرة والمتوسطة، فإن الفشل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتهم سيؤدي إلى انتشار المرض في آلاف القرى التي جاءوا منها، خاصة في حالة غرب الدلتا، كما أنه سيوقف الإمدادات الزراعية القادمة من هذه المزارع ويزيد من حالة الذعر الناتجة عن نقص العمالة الزراعية. هؤلاء الأفراد بحاجة أيضًا إلى أن يصبح تحسين اجورهم وظروف عملهم جزء أساسي في خطة الإنقاذ الاقتصادي التي اعلنتها الدولة.
إجراءات أمن غذائي واجبة
خلال أسابيع قليلة سيبدأ موسم حصاد القمح في مصر، ومن الضروري ضمان حماية ودعم العمال الذين يقومون بعملية الحصاد وتأمين دخل مناسب لمزارعي القمح عن طريق رفع قيمة توريد المحصول للصوامع والشون. على الدولة أن تسهل شحن القمح إلى المطاحن والشون وتأمين توفيره لإنتاج الخبز وتقليل الهدر في عمليات الحصاد والنقل، وأيضا ضمان استمرار الفلاحين في إنتاج القمح العام المقبل عبر منحهم حافز إنتاج ودعمهم ماديًا وفنيًا لتفادي حدوث أزمة هذا العام والعام المقبل.
ولا يبدو هذا بعيدًا عن إجراءات وقائية اتخذتها دول عديدة لضمان الأمن الغذائي المحلي في ظل مخاوف حقيقية من تكرار أزمة غذائية جديدة، من ضمنها مصر التي أوقفت تصدير البقوليات لثلاثة أشهر، فعلى سبيل المثال، علقت كازاخستان صادراتها من القمح والسكر والبطاطس والجزر والبصل والكرنب حتى 15 أبريل/ نيسان على الأقل، مثلما علقت روسيا صادراتها من القمح والأرز الشوفان والأغذية المجهزة من 20 إلى 30 مارس. أما فيتنام فأوقفت صادرات الأرز لضمان الأمن الغذائي المحلي.
ورغم القرار المصري بوقف تصدير البقوليات، فإن مشكلة مصر الحقيقية تبدو في توفير القمح. خاصة أن مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، تعتمد بشكل أساسي على روسيا في توفير احتياجاتها.
تأسيس جديد لما بعد كورونا
خلال الايام الأخيرة حاول كثيرون الربط بين السياسات النيوليبرالية وأزمة كورونا، مثل محمد سالم في إضاءات ونوارة نجم المنصة. أما الباحث الاقتصادي محمد رمضان فيشير في مقال نشر مؤخرًا في مدى مصر إلى أن نمط الإنتاج الرأسمالي أدى إلى خلل في النظام البيئي خاصة مع انتزاع الحيوانات البرية من بيئاتها الطبيعية ما غيّر في علاقة الفيروسات بحواضنها.
فعلى سبيل المثال، ساعد الاضطراب الذي سببه قطع أشجار الغابات من أجل الاستهلاك الترفي على ظهور أوبئة وأمراض عدة خلال السنوات العشرين الأخيرة، كما أثر هذا النمط في الإنتاج والاستهلاك في الجهاز المناعي للإنسان الذي يستقبل كميات متنوعة من متبقيات المبيدات والأسمدة وأيضًا من الأغذية المعدلة وراثيًا، سواء بشكل مباشر أو من خلال استهلاك الحيوانات التي تتغذى على العلف المصنع والمعدل وراثيًا، الصويا والذرة الشامية تحديدا.
ربما تكون هذه اللحظة مناسبة لطرح برنامج لدعم الانتقال إلى نظام زراعي بديل، يدعم الزراعة الفلاحية والتحول البيئي للزراعة والتوقف عن التمادي في تهميش الزراعة الفلاحية. تتطلب هذه اللحظة أيضًا مراجعة ذلك الانبهار بنمط الإنتاج الكبير وإعادة الاعتبار للزراعة الفلاحية ودعم التحول نحو الزراعة البيئية ودعم صغار الفلاحين.
يتطلب هذا الانتقال لنظام زراعي بديل توفير الاحتياجات المادية اللازمة لتطوير التكنولوجيا الزراعية البيئية عبر دعم المراكز البحثية الزراعية للعمل في هذا الاتجاه. الاهتمام بصيانة التربة الزراعية عبر الدورة الزراعية والأسمدة العضوية وتنقية مياه الري عبر تنظيف قنوات الترع وتطهير المصارف وصيانة شبكة الري والصرف الزراعي واستعادة السيادة على التقاوي لم تعد أمورًا ثانوية على الإطلاق.
تؤكد لنا هذه اللحظة على أهمية الخروج من التبعية الغذائية وهيمنة الرغبة في تحويل الزراعة الفلاحية إلى زراعة رأسمالية. ذلك النموذج الذي أثبتت الأزمة الحالية أنه يفاقم من تدهور العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، وينتج أوبئة وأمراضًا وأزمات عايشنا بعضها بالفعل، ولكننا لا نعرف أيضًا ما يخبئه لنا المستقبل.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، هناك قبول متنامٍ وتسليم بفشل السياسات النيوليبرالية وتأثيرها السلبي على حياة البشر. واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، هناك ضرورة للتفكير في نظام زراعي بديل لما بعد كورونا، قبل أن يتأخر الوقت أكثر.