هل تتذكرون هؤلاء الذين كانوا يبكون ويزايدون ويتصارخون ويتشدقون قائلين بأن ذلك الوباء الذي انتشر في مقاطعة يوهان ما هو إلا غضب إلهي نتيجة أفعال الصين الشريرة تجاه مسلمي الإيجور؟ حسنا، هؤلاء ما زالوا ينتشرون حولنا، وقد تفشوا بصورة أكبر من فيروس كورونا نفسه.
كان الله في عونك أيها الفيروس، فأنت معرض للإصابة بهم. فلتغسل يديك باستمرار بالماء والصابون، لعلك تنجو مما ابتلينا به.
في اللحظة التي كنت أتساءل فيها عن كيفية الحد من انتقال الوباء إلى الناس، وبعد قرار الحكومة الصائب بتعليق الدراسة، توجه تفكيري مباشرة نحو المساجد، حيث صلاة الجماعة وصلاة الجمعة، وبالذات صلاة الجمعة، وما أدراك ما صلاة الجمعة، ثم ما أدراك ما صلاة الجمعة، ذلك الحدث الديني الأضخم الذي يجتمع فيه كل الشعب المصري بلا استثناء تقريبا.
حتى إذا كنت كافرًا لا تلقى للصلاة بالًا، عليك أن تصلي صلاة الجمعة إذا أردت الحفاظ على وجاهتك الاجتماعية في محيط سكنك. حدث ديني لا بد منه تمامًا مثل صيام رمضان، إذا أفطرت يوما -حتى وإن كان لديك عذر شرعي- فستلتهمك أعين القاصي والداني، ولذلك فأنت تقصر الشر، وتذهب لتأكل وتشرب في الخفاء من سُكات.
يذهب الكل لأداء صلاة الجمعة؛ شديد التدين والمتدين والوسطي والعادي ومن لا يصلي، والفاسق والداعر والحرامي والغشاش وشارب الخمر والمدمن. كلهم يحتشدون سويًا في المساجد مرة كل أسبوع، يتزاحمون ويسجدون بأنوفهم على أرض واحدة.
فكرت؛ هذه داهية مالها من واهية! فإذا كان هناك مصاب واحد بالكورونا في المسجد، تكفيه عطسة أو حتى نحنحة بخفة لو كان مراعيًا لمشاعر الآخرين، ليطير الفيروس من فمه ويسقط أرضًا، والأرض هنا ليست مكانًا مهملًا، تذكّر، إنها تلك الأرض التي تلامسها الأنوف. سيجد الكورونا، ودون الكثير من عناء البحث عن عائل، أنفًا ضخمًا يتجه نحوه، يسحبه بشهيقه لينعم بحياة قصيرة في جسدٍ كان لتوه نظيفًا يتمتع بصحة عالية.
حسنًا، في المسجد يكفي أن يتنحنح أحدهم ليسقط كورونا على الأرض ويزاحم أنوف بقية المصلين، ولكن في الكنيسة فحتى إمساك النحنحة لن يوقف الفيروس، لأن الأقباط الأرثوذوكس يصرون على ممارسة طقس التناول بطريقته المعتادة، يتناولون دم المسيح باستخدام الماستير، وهو أحد أدوات الخدمة يشبه الملعقة، يغطسه الكاهن في الدم المقدس ويضعه في أفواه المؤمنين واحدًا تلو الآخر. يصرون على اتباع هذه الطريقة رغم أنها لا تستمد بذاتها قداسة من الإنجيل، وكأننا في صباح يوم ربيعي مشمس، لا نعاين فيه وباءً ينتقل بضراوة عبر إفرازات الفم ومخلفات العطس بل وبمجرد التلامس أحيانًا.
لا يدري أحد لماذا لا يجري تعديل بسيط مؤقت في طريقة التناول نفسها، كأن يتناول المصلون دم المسيح في كوب بلاستيكي مثلما تفعل طوائف مسيحية أخرى، هل سيُخرج ذلك المسيحي من عباءة الدين؟ هل سيقول له الرب: تناولت بكوب بلاستيكي، لذلك تستحق البقاء في الجحيم؟ هل يمكن أن يتصور ذلك أحد؟
يالك من محظوظ يا كورونا، لقد أتى إليك الطقس الذي سيجعلك تتسيد هذه الأرض. إذ يكفي أن يكون أحدهم مصابًا بك، لتجد نفسك محجوزًا في فندق ترانزيت من الفضة، تشد الرحال إلى فم إلى آخر، ثم آخر، ثم آخر. إنها جنتك يا كورونا، لك في المساجد الأنوف، وفي الكنائس الأفواه، فلترتع فيها والعب كما يحلو لك.
كتبت على صفحتي ما يدور بخلدي، فجاءني أحدهم ليصفني بالبوذي، قبل أن يؤكد بيقين العالم أن الفيروس ضعيف يمكن تجنبه بسهولة ما دمنا نتوضأ خمس مرات يوميا، ونصلي متسلحين بالإيمان. فلا يمكن أن يصيب الله المصلين بالفيروس ماداموا قد توكلوا عليه، ليت كل الذين أصيبوا بالفيروس توكلوا على الله قبل فوات أوانهم.
للحق، لم يكن هذا غاضبًا مني وحدي، لكنه حذر من اتباع المخطئين الذين أغلقوا المساجد في السعودية وجعلوا الحرم المكي خاليًا من المصلين والسير على خطاهم "مش عشان في ناس كتير عملت الغلط يبقى نمشي وراهم". السعودية، منشأ الدين الإسلامي، على خطأ، وهو على صواب، لنا الله يا كورونا.
ولكن جنة الكورونا في مصر أيام الجمعة باتت مهددة، بعد إصدار قرارات إغلاق المساجد والكنائس. خطة شديدة الذكاء فعلًا. لكن لا تحزن كثيرًا أيها الكورونا، فهناك بعض الأحبّة الذين سيخلقون لك مجالًا في سوق سوداء للصلاة تنعقد سرًا في الخفاء أو في العلن، لا تحزن يا كورونا، فهذه ليست نهاية العالم.
انظر مثلًا إلى الأنبا يؤانس أسقف أسيوط، أحد أحبائك المخلصين، يخطب في الناس داخل إحدى الكنائس ومؤكدًا أنه "إذا صلينا من كل قلبنا، كورونا مش هاتقرب مننا". هل ستقترب يا كورونا أم ستفعل مثل بقية الفيروسات اللعينة التي تقترب من جميع البشر لا تفرق بين المصلين وغيرهم؟
لعلك، يا كورونا، سترد بأن هذا هو الاستثناء، خاصة بعد أن أغلقت أبواب الكنائس وكف المؤمنون عن التناول، وسيخيفك ما كتبه القمص سيلا عبد النور على صفحته مشيدًا بقرار إغلاق كنيسة المهد في بيت لحم، قائلًا إن "تعريض الناس للموت بالوباء تحت مسمي الإيمان ليس إيمانًا، بل خطيّة كبيرة، سيحاسب عنها من يفعل هذا أمام الله، كقاتل نفس عن كل نفس تموت"، ولكن لا تقلق، فيكفيك أن تقرأ ردود رعيّته عليه، ليطمئن قلبك.
في البدء كان التوجس؛ "تقصد إيه يا أبونا؟" وكأنهم السياط خلف ظهورهم، ينتظرون أن يعترف القمص أنه يقصد إلغاء القداس والتناول؛ "إوعى تكون تقصد كدة يا أبونا". ثم لم يرد أبونا، اعتبر البعض الآخر أنه يقصد ذلك بالفعل، فكتب يقول "الإيمان فيه حاجات كدة نعمل عندها stop"، ثم بدأوا التنظير "التناول لا يمكن أن ينقل العدوى، لأنه مكتوب طهارة لأرواحنا شفاء لأمراضنا".
إنهم يقولون لآباءهم STOP كرمى لعينيك، يزايدون من أجل خاطرك، وهم على استعداد لتجاوز الكهنوت دون حصارك ومنعك من الانتشار. انظر؛ "أنا هاتناول بنفس الماستير، دم المسيح يطهرني من كل شيء"، و"كورونا ده تجربة من الشيطان بسماح من الله زي ما حصل مع أيوب، يا ترى إيماننا هيكون زيه ولا هانضعف؟"، وأخيرًا حسم أحدهم الجدل بمنطقه "إنت عايز تقول إن دم المسيح مش بيشفي زي ما إحنا مؤمنين وزي ما الكنيسة علمتنا؟".
يبدو أن الناس في مصر يضعون هالة روحانية عليك يا كورونا، بعضهم يراك عقابًا إلهيًا وآخرون يرونك تجربة شيطانية، يحاربوك بالتجمع للصلاة في المساجد وبالتناوب على الماستير.
لا تقلق يا كورونا، على الجانب الآخر أيضًا يزايدون على مؤسساتهم الدينية، يصيحون "يعني عايزين تقفلوا الجوامع وسايبين البارات والخمارات والكباريهات"، وينظِّرون كذلك "الفيروس ممكن يصيبك وإنت في بيتك، فأحسن ليك تموت وإنت بتصلي"، ويتفوهون بالعجب العجاب "لما صلينا الجمعة بعد العاصفة، الجو بقى كويس، ماحدش يسيب صلاة الجمعة"، ويكررون "نقفل بيت ربنا ونسيب القهاوي والكازينوهات والسينمات؟" ويزيدون من التنظير بيتًا "علينا ألا نخاف من هذا الجرثوم الصغير، فهو مخلوق، ونحن نتوكل على الله، نموت بكورونا أو بغيره" ويسترسلون "يعني الناس تسيب صلاة الجمعة بس ماتسيبش المترو؟".
قد تعتقد أن قرارات إغلاق المساجد والكنائس ستحوّل حياتك إلى جحيم يا كورونا، أين ستعيش؟ أخبرتك ألا تقلق، انظر إلى هؤلاء الذين توجهوا إلى أحد المساجد المغلقة، بينما أنت جالس زي خيبيتها، تضع يدك على خدك، وتقوم بقرطفة الملوخية على المصطبة، ألم تنفرج أساريرك عندما رأيتهم يفترشون السجاجيد والحصر، ويصلون جماعة في الشارع أمام المسجد؟ لا تقلق، ستجد وجبتك الساخنة دائمًا، فنحن في مصر أهل جود، من حل بنا أكرمناه.
بالطبع لو أن واحدًا من هؤلاء أصيب بالفيروس في صلاة المسجد، داخله أو خارجه، أو في القداس، فلن تنفعه الصلاة ولا تطهير اليدين بالماء والصابون، ولا الكحول، ولا التناول، ولا حتى آية الكرسي، لن ينفعه شيء سوى أمل في النجاة، وإن نجّاه الله، فليست المشكلة في نجاته أو موته، فإن كان يحب أن يموت وهو يصلي، أو لديه ميول انتحارية، فليست مشكلتنا في ذلك، إنما في العدوى التي قد تصيب شخصًا ما كان يتمنى أن يعيش لمدة أطول.
أعرف أنك مثل ملك الليل في مسلسل صراع العروش، تصيب الكل دون تمييز، لا تفرق بين مؤمن وملحد، ويمكن أن تقتل مرتادي المقاهي والبارات وبيوت الدعارة والمساجد والجوامع والكنائس على حد سواء. أخبرني يا كورونا، هل لديك فكرة لماذا يعتقد البعض أنك قد تخلع نعليك قبل دخول المسجد؟
لماذا يعتقدون أنك مشكلة دينية؟ عند ظهورك الأول قالوا إنك غضب إلهي، وبعد تفشيك في بعض البلدان تحولتَ من غضبُ إلهيُ إلى حكمةً إلهيةً تختار الأشرار، وعندما انتشرتَ في العالم بأسره، أصبحتَ ابتلاءً للإنسان ليرى ربه، أسيشكر؟ أم سيكفر؟ ولهذا، فصلاة الجمعة والقداس من الأمور الواجبة مهما كان الثمن، وإلا، فسيتحول الابتلاء إلى غضب لا محالة، في الدنيا والآخرة. ما هذا التأثير الجبار يا كورونا؟ أنا أزعم أن بإمكانك كتابة دين جديد، هيا، إنها فرصتك.
لهؤلاء القوم يا كورونا تعامل فريد من نوعه مع الوباء، فهم يطلقون أنفسهم في مهب الريح، يعتقدون أن العدوى لن تصيب تجمعاتهم طالما كانوا متسلحين بالإيمان، ويزايدون على من يتخذ تدابيره لحماية نفسه والمحيطين به، ويسخرون بشدة إن رأوا أحدًا، وخاصة إذا كانت فتاة، تطهر مقبض المترو مثلا قبل أن تمسك به، ربما يتفوهون بصوت مسموع "هي قرفانة مننا ولا إيه؟"، أو "ماخدتيش تاكسي ليه لو خايفة على نفسك؟" هل أنت فقير لا تركب التاكسي يا كورونا؟
إنهم يعشقونك يا صديقي إلى الحد الذي جعلهم يحتشدون لك في الشوارع، يتظاهرون كالمجاذيب، يرددون اسمك، يكبرون ويهللون. لقد أصبح لك دراويشك في ديارنا يا عزيزي! أنت الآن في مقام الأولياء والعارفين، يتزاحمون باحثين عنك في كل مكان، إنهم متيمون بك وقد أصابهم الوله والهيام في مقتل، يتبادلون الأنفاس بينهم لعلك تخرج من زفيرهم، ويصرخون بحناجرهم عسى أن تتطاير مع رذاذهم، لينتشلك أحدهم بلهفة، ويحتضنك بشوق لمدة 14 يوما.
عزيزي كورونا، تُرى، أين سيذهب بنا هؤلاء بعد ذلك؟