
تعبئة وتغليف وشحن.. خطوط إنتاج النواب في مصانع الديمقراطية
للوهلة الأولى قد لا يبدو هنالك رابط يجمع الديمقراطية بالصناعة والزراعة. فلا صلة واضحةً بين نشاطين بشريين قديمين، ونظام ومنهج لإدارة شؤون الحكم. لكن الحقيقة أن مشاهدَ عديدةً للممارسة السياسية في بلادنا ومحيطنا العربي والإفريقي، وفي عموم ما يعرف بالعالم الثالث، تشي بوجود علاقة ما قد تفيد في تفسير بعض المظاهر الغرائبية التي تُقدَّم لنا باعتبارها من الديمقراطية وهي منها براء.
الصناعة هي تحويل المواد الخام أو الأولية إلى منتجات في صورة أكثر تطورًا ونفعًا للبشرية، وفي سبيل ذلك تستخدم المعدات والآلات والجهد البشري في عمليات بسيطة ومعقدة، مع ضبط وحساب وهندسة لكل مرحلة. وقد يكون المنتج النهائي الذي يخرج في وقت قصير نسبيًا مختلفًا عن صورة المادة الأولية التي بدأت بها عملية الصناعة.
والزراعة هي عملية تعتمد أكثر على العوامل الطبيعية والحيوية، وتستغرق وقتًا أطول وجهدًا أكثر في المداومة، إذ تقوم على البذر والسقاية والعناية والتحفيز باستخدام مخصبات طبيعية أو مصنعة، وصولًا للنمو والإثمار. وهي النشاط البشري الذي أسس للحضارة الإنسانية، والمورد الأول للغذاء على الكوكب، كما أنها أيضًا توفر المواد الخام بنسبة كبيرة للصناعة، في عملية تكاملية بين النشاطين.
أما الديمقراطية فهي نظام أو طريقة للحكم يشترك فيه المواطنون في حكم أنفسهم، وهي تعتمد على اختيار الشعب لممثلين عنه يقومون بالتشريع والتنفيذ وفق مبادئ حاكمة وقوانين وأعراف.
هذا التعريف البسيط للديمقراطية يخفي وراءه عملية معقدة من خطوات اختيار الممثلين بواسطة المواطنين، وكذلك من أنماط الممارسة التي قد تلتزم بمبادئ الديمقراطية فعلًا، أو قد تلتحف بها لتغطية السطح الظاهر، لكنها في الحقيقة تضع أصباغًا وأقنعة على وجه أي نظام لإخفاء معالم الديكتاتورية القبيحة التي تطل بفجاجة، مهما كانت قدرة صناع القناع أو واضعي المساحيق.
ليست هناك مصانع لإنتاج الديمقراطية، لكن البعض في العالم الثالث الذي ننتمي إليه يعتقد أن الديمقراطية يمكن صناعتها، مثلها مثل أي منتج، وأنه يمكن تدشين خط إنتاج للديمقراطية عبر تحضير المواد الأولية وتجهيزها وخلطها ومعالجتها وفق وصفات جاهزة باستخدام أدوات محددة سلفًا، وإجراء العمليات التحويلية عليها ليخرج المنتج النهائي ديمقراطيًّا تمامًا كما لو أنه سلعة يمكن التقاطها من خلف آلة في أي مصنع.
الرئيس الأوحد
من أمثلة الاعتقاد بإمكانية صناعة الديمقراطية تنظيم انتخابات رئاسية لا يركض الرئيس فيها وحده مرشحًا دون شريك في سباق أحادي، بل يُجمَّل مشهد وصوله إلى القصر باستحضار مرشحين لمنافسته على أن يتسموا بالوطنية وإنكار الذات، وبرغبتهم الجامحة في انتخاب الرئيس نفسه، وتأييدهم المطلق لفخامته. ولذلك فإن قبولهم الترشح أمام سيادته ليس من باب الطمع في منصبه - لا سمح الله - ولا من باب منافسته على الهبة الربانية والتمكين السماوي الذي اختصه الله به، وإنما من باب استكمال ما يبدو أنه الشكل اللازم الذي يراه المخرج ملائمًا لنتشدق بملء الأفواه أننا في ظلال نظام ديمقراطي.
لاستكمال الشكل، ينظم المتنافسون -وهم من أهل الموالاة وعشيرة المعجبين- مؤتمرات ترويحية تتسم بالقدرة على جلب البسمة للشفاه مهما كان الهم ثقيلًا والكرب حاضرًا مقيمًا. فهم لا يتحدثون فيها عن خططهم للحكم إذا فازوا، فهذا أمر لا يخطر على عقولهم، ولا ينتقدون سياسات النظام التي دفعتهم معارضتها للترشح أمام حبره الأعظم، وإنما يركزون خطبهم لبيان حكمة الرئيس ومدح سياسته وشرح وجوب انتخابه، وتبرير ترشحهم بأنه "الواجب المقدس" وضريبة الوطن التي يجب دفعها، حتى لا يتهمنا الأعداء وأهل الشر بأننا ضد الديمقراطية أو أننا نظام قمعي ديكتاتوري.
في هذا الإطار والنسق المتقدم؛ يصبح يوم الانتخابات احتفالًا تكريميًا بقيمة الوفاء للرئيس ورد الجميل الذي أسداه بقبوله أن يحكم هذا الشعب المسكين، الذي لم يجد من يحنو عليه من أباطرة المعارضة الممولين من الجهات الأربع، الذين لا يراعون الشعب في شعاراتهم الغربية الغريبة، عن الحرية وتداول السلطة، وعن المواثيق والشرعية الدولية وحقوق الإنسان.
برلمان بدون نواب
من الأمثلة الشائعة أيضًا ما يحدث في انتخابات البرلمان من استبعاد المزعجين ومَن عُرفوا بالمشاغبة، ليقتصر الترشح على فئة معينة تمر من حارس بوابة صارم، لا يسمح بمرور إلا غير الضالين، السائرين على صراط السلطة المستقيم. في سبيل ذلك، قد يبذل المرشح وهو راضٍ جزءًا من ثروته الكبيرة مجهولة المصدر -إلا فيما ندر- من أجل دعم النظام الذي لا يقوم في الحقيقة على نظام.
في سبيل تمرير هؤلاء النواب "المحترمين"، يلزم اعتماد نظام انتخابي يعتمد نظرية أن الديمقراطية صناعةٌ يحشر المرشحون فيها آليًا مع أموالهم ونفوذهم وشهادات الأجهزة الأمنية وسيرهم الذاتية الغامضة المتهافتة، مع كثيرٍ من الشعارات البراقة عن الوطنية والمؤمرات الكونية المحيطة بالوطن، ووجوب الالتفاف حول الرئيس القائد الملهم والاصطفاف خلفه.
الديمقراطية لا يمكن أن تكون بوضع المكونات والمواد في ماكينة تُخرِج منتجًا عالي الجودة
يتصور مروجو هذه النظرية أن دوران ماكينة صناعة وتعبئة وتغليف الديمقراطية ستنتج بعد الخلط والمعالجة نوابًا حقيقيين يشبهون ما تنتجه الديمقراطيات الراسخة. لكن النتيجة الطبيعية هي إنتاج برلمان بدون نواب منزوع الصلاحيات يكتب ما يملى عليه، لا يراقب ولا يشرع ولا يرفع الصوت إلا من أجل التهليل والتطبيل والرقص والحنجلة.
ولكن كيف نبدأ الزراعة؟
واقع الحال في بلادنا ومن حولنا يجزم بأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون صناعةً بالمعنى التقليدي، تتم بشكل آلي، بوضع المكونات والمواد الأولية في ماكينة وتشغيلها، فيكون المنتج ديمقراطية خالصة نقية عالية الجودة.
من المؤكد أن الديمقراطية هي زراعة، تتطلب وقتًا وجهدًا ومثابرة، فغرس البذور يبدأ من التنشئة في المنزل والمدرسة ويتسلل ليسكن كل مناحي الحياة من البيوت والمدارس إلى الجامعات والأندية والأحزاب، فتحدث عملية نمو واستيعاب طبيعية هادئة دون ضجيج الآلات وماكينات الدعاية.
تتطلب هذه النبتة التي يتم غرسها رعاية فائقة واهتمامًا خاصًا بتوفير شروط بقائها ونموها واستمرارها حتى النضج والإثمار بعد سنوات، كما تتطلب تحصينها من آفات عبادة الفرد وعشق الذات والنفاق وعدم تحمل المسؤولية الجمعية وثقافة اللصوصية التي تنشر الفساد وترعاه.
تتحقق الديمقراطية في مجتمعات أنجزت تحولات اجتماعية وثقافية تتيح لها ثقافة سياسية يمكن وصفها بالديمقراطية دون عسف أو مبالغة، حين تكون الممارسة ناتجة عن استيعاب للآليات وفهم للمتطلبات دون ادعاء أو زخرف من القول والفعل. وهذا هو جوهر زراعة الديمقراطية التي لا يمكن أن تكون صناعة على الطريقة المقززة التي تطل علينا بين الحين والآخر.
ما يحدث في بلادنا ليس زراعة الديمقراطية لتنمو بطريقة طبيعية، وإنما صناعة رديئة لا تحترم مواصفة ولا تبحث عن جودة ولا تراعي اشتراطًا. تشبه ما يُنتج بعيدًا عن أجهزة الرقابة في الأقبية والسراديب وأنفاق المجاري العفنة، وقد آن أوان تدمير ذلك كله من أجل ديمقراطية حقيقية، ليست مختلقة ولا مبتذلة، ديمقراطية مزروعة وليست مصنوعة.