"مش بابا".. تقول نور وهي تشير لشاشة التلفزيون التي تعرض لقطات لمذيع قناة الأطفال. تكرر الطفلة عبارتها كلما شاهدت المذيع، الذي كانت تناديه "بابا" قبل أن تصحح لها أمها الصحفية هبة أنيس معلوماتها، وتخبرها أنه ليس والدها الطبيب وليد شوقي، فقط يشبهه، ولكنه "مش بابا".
لا تعلم الطفلة أن "بابا" سجين، وتعزّي غيابه عن البيت لأسباب أخرى. لكن الوضع يختلف بالنسبة لخالد ابن المدون علاء عبد الفتاح الذي يعرف أن "بابا" في السجن.
وليد وعلاء مثل سجناء آخرين تركوا خارج الأسوار تفاصيل حياتية أحد أهم عناصرها طفل يفتقد السجين، بينما تكابد الأسرة أمور من بينها عناء التعايش مع ما يتعرّض له الطفل من تغيرات نفسية وسلوكية، حكوا عنها للمنصّة، وأمامها يحاولون الخروج بالصغير من التجربة بأقل الخسائر.
بحثًا عن "بابا"
حين صار الطبيب وليد شوقي سجينًا، كانت طفلته نور تبلغ من العمر سنة وشهرين و"كانت عارفاه وبتحبه ومتعلّقة بيه أكتر مني، ﻷن مواعيد شغلي فرضت عليا إني أسيبهم مع بعض وقت طويل" حسبما تقول هبة للمنصة.
لكن طول الوقت لم يشفع لصورة اﻷب أمام ذاكرة الصغيرة التي اختلفت تركيبة الرجال في حياتها، وحاولت تلقائيًا تعويض الغياب بـ"بابا" آخر بديل "دلوقتي نسيته، وبقى الرجالة اللي في حياتها جدّها وأخوالها. ولما قالت بابا أول مرّة كان عندها سنة و8 شهور، وقالتها ﻷخويا؛ فاتصدمت وقولت لها ده مش بابا، بابا موجود وعايش".
لكن هبة لم تتمكن من مصارحة طفلتها للنهاية "كنت عايزة أقولها إنه في السجن. بس ماكنتش عارفة اقولها إزاي، ولا تأثيرها هيكون إيه؟".
جرّاء هذا التأثير المجهول؛ خففت هبة من معدلات زيارة نور لوليد "بخاف عليها إن اللي تشوفه يتخزن في ذاكرتها. وعلى مدار سنة نور زارت وليد 5 مرات تقريبًا"؛ لهذا بدأت الصغيرة في السؤال عن اﻷب؛ فلجأت الأم للحيل "بقولها بيشتغل في مكان بعيد وهيرجع. وكنت بخليها تشوف صوره على الموبايل علشان متنساش شكله".
وحتى هذه الحيلة وإن سكّنت نفس الصغيرة، إلا أنها كان لها آثار جانبية "لما قابلته في طرة كانوا حالقين له شعره؛ فماعرفتوش ورفضت تروح له. ساعتها وليد بكى. وتاني مرّة بعد الواقعة دي، شافته وكانت مش مرتاحة، ﻷنها بقت عارفة بابا اللي على الموبايل، مش اللي بتقابله".
"بابا" في السجن
يختلف اﻷمر مع خالد علاء عبد الفتاح، الذي علم من والدته منال بهي الدين حسن بسجن والده، وزاره أيضًا "بقول لخالد احنا رايحين لبابا في السجن. وده قرار أخدته من البداية بعد استشارة متخصصين، ﻷن الأطفال مش أغبياء، فالصراحة مع الطفل وتوضيح الحقايق أحسن كتير من إني اخبّي عنه حاجة هو هيعرفها".
على الرغم من ذلك، لا تعتبر منال قرارها مثاليًا "كل حالة حسب ملابستها وظروف اﻷسرة. وفي حالتنا، خالد بيسمع طول الوقت كلام العيلة عن السجن؛ فإن عاجلاً أو آجلاً كان هيعرف".
وسواء عرف الطفل بسجن أبيه أو لم يعرف، فإنه في كل الأحوال سيحرم من لحظات السعادة المشتركة مع أبيه، وهو ما يحدث مع أسرة وليد كما تحكي زوجته هبة عن لحظات فاتت السجين "أهلي هما اللي احتفلوا بأول عيد ميلاد لنور، والمشكلة إني مابعرفش ادخّل لوليد صور الاحتفالات، ﻷني لما دخلت له صور نور في بداية حبسه، حصلت تجريدة للزنزانة فخاف الصور تترمي، ورجعها لي تاني".
لم يحرم وليد من احتفال عيد الميلاد فقط أو صور الطفلة، فهناك لحظات أخرى لا تنساها الأم "نور عملت كل حاجة ووليد مش معانا، أكلت واتكلمت ومشيت وهو مش شايف ده. بس أنا بحكي له في الزيارات".
الزيارات في حالة وليد فرصة للتعرف على أخبار نور، لكنها ليست هكذا بالنسبة لعلاء الذي لم يعد يرى خالد لأسباب تفسرها منال "علاء مسجون في طره شديد الحراسة 2، والزيارة بتبقى من ورا حاجز زجاجي؛ فطبعًا مش هيعرف يحضنه أو يتكلم معاه؛ وده طبعًا عامل مشكلة دلوقتي لخالد، ﻷنه بيسأل عن باباه، وعن سبب عدم زيارته زي المرّات اللي فاتت".
اﻷسئلة واحدة من أعراض عديدة لغياب الأب، ذكرتها للمنصّة دكتورة هند بدوي، أخصائية طب نفس اﻷطفال والمراهقين والمعالجة المعتمدة باللعب من الجمعية البريطانية للعلاج باللعب، بقولها إن "أبرز المشكلات في حالة السجن تتمثل في فقد الطفل للأب أو اﻷم بصورة أصعب من فقد السفر أو الموت، ﻷنه في حالة السجن بيكون الشخص موجود لكن غير ممكن الوصول إليه".
يترتب على هذا الأمر وفقًا للطبيبة أعراض نفسية قد تصيب الطفل منها "الاكتئاب والتوتر واضطرابات النوم وكرب ما بعد الصدمة، خاصة لو شاهد الطفل لحظة القبض".
يتفق حديث الطبيبة مع ما ذكرته أبحاث علمية عن تأثير غياب الأب أو اﻷم في السجن على طفلها.
ومن بين اﻵثار التي ذكرتها بدوي "بعض الأطفال قد يصابون بتبول لا إرادي أو عدم استقرار. لكن من بين العوامل التي تتدخل، المحيطين بالطفل وكيفية تعاملهم مع اﻷمر، ﻷن مشاعر القلق والحزن والترقب عند اﻷهل تصل للطفل مهما حاولوا يخفوها".
خطوات للتأهيل
وﻷن المشاعر تصل للطفل، تنصح الطبيبة اﻷهل بالمصارحة "اﻷفضل دايمًا إننا نقول للطفل بكلمات بسيطة وواضحة ومباشرة ومانكدبش عليه أبدًا. ولو سأل؛ نجاوب بطريقة مبسطة جدًا ومناسبة لعمره الإدراكي والعاطفي، وبدون تحميله تفاصيل كتير بلا داعي".
ترى بدوي أن المصارحة أفضل سُبُل التعامل، قائلة "الطفل هيعرف هيعرف، سواء من كلمة هتتقال قدامه من طفل تاني أو مدرس أو أمهات. فبدل ما نعرّضه لإنه يعرف وهو لوحده، اﻷفضل إني أقول له الكلام ده وهو في حضني وقادرة احتويه واردّ على أسئلته، بدون كبت للمشاعر، ولو وصلت للبكاء".
عن مشاركة الطفل في الزيارة تقول الطبيبة هند بدوي "الزيارات مرهقة جدًا، وظروف السجن قاسية جدًا، لكن لو الطفل يقدر يروح ممكن ده يتعمل، على حسب عمره وقدرته جسمانيًا على تحمل الطوابير، وقدرته نفسيًا. ﻷن فيه طفل هيتبسط إنه شاف باباه أو مامته بصرف النظر عن المكان، وفيه طفل هيرفض يروح تاني، لكن ممكن اخليه يعبر عن مشاعره ويكتب للسجين خطابات".
تزور نور وليد أحيانًا، بل وصارت تشاركه الأنشطة وفقًا لما لاحظته هبة "من شهرين أخدتها معايا، كان عندها سنتين و4 شهور. لما شافت وليد قالت عايزة بابا، قال لها أنا بابا، واتفاعلت معاه، وبعد ما خلصنا الزيارة فضلت طول الطريق بتحكي للناس عنه".
على الرغم من ذلك، تلفت الطبيبة إلى زاوية أخرى فيما يتعلق بالزيارات "الموضوع معتمد على السجين كمان، هل هو قادر يشوف الطفل ولا ﻷ؟ المتغيرات كتيرة جدًا ومانقدرش نعمم حاجة بصورة كاملة، لكن القاعدة إني بكون صريحة وصادقة جدًا، وبشارك الطفل معايا في اتخاذ القرار، إن أمكن".
فوائد الروتين
بجانب المصارحة والمشاركة في اتخاذ القرار، تنصح الطبيبة بأمر آخر مهم لتخطي ظروف السجن "الروتين مهم جدًا ولو فيه مشقّة، ﻷن الطفل لما يروح مدرسته ويشوف أصحابه؛ ده هيمنحه إحساس باﻷمان وإنه قادر يتحكم في اليوم".
وتكمل بدوي شرح صور أخرى للروتين "نحاول إن البيت نفسه مايتغيرش، ومايكونش فيه دلع للطفل زيادة عن اللزوم أو إغراق بالهدايا أو السماح بحاجات ماكنتش موجودة لمجرد التخفيف عنه، ﻷن ده ليه أضرار جسيمة".
ما حذّرت منه بدوي حدث بالفعل لطفلة وليد، وفقًا لما لاحظته هبة "نور بقت متدلعة وعصبية جدًا، ﻷنها بتتعامل معاملة مميزة من أهلي بسبب ظروف باباها، بس أملي ده يتصلّح لما وليد يرجع".
في هذه النقطة، تختلف الطبيبة مع هبة، قائلة "لازم توقعاتنا تبقى منخفضة جدًا من الغايب اللي رجع، ﻷنه هو كمان فقد لحظات كتيرة، فالشخص الموجود في البيت بيكون عليه إنه يدمجه في الحياة اليومية. وأهم حاجة نصبر في الفترة الأولى بالذات، بحيث الغايب ياخد وقته، ونتقبل إن هو اتغير واحنا اتغيرنا".
تنصح الطبيبة العائدين من غياب السجن وأسرهم بأمور أخرى "نحافظ على الروتين وبلاش أنشطة فوق المعتادة، ونحاول نقلل الزيارات الاحتفالية والهدايا اللي بعد الخروج، بحيث تبقى منظمة وعلى فترات، والطفل عارف بيها. وكمان لا يفضل شرح خصوصيات وتفاصيل عن تجربة السجن أمام الطفل. ولو حصل والأب أو الأم حسّوا إنهم محتاجين مساعدة؛ يُفضّل إنهم يلجأوا للمتخصصين".
وتختتم الطبيبة نصائحها لتجاوز أزمة السجن بالإشارة إلى أمور ضرورية منها "الصبر على أسئلة الطفل، والحكي معه عن الغائب كلما أراد الحديث، واللجوء لحيل لعلاج أي أزمة يمر بها الطفل من أثر السجن- وهو مختلف من حالة لأخرى- وأخيرًا أن يخصص المسؤول عن رعاية الطفل وقتًا لراحته النفسية دون الشعور بأي ذنب، ﻷن هذا سيساعده على مواصلة مهمته.
نشر هذا الموضوع في 8 مارس/ آذار 2020 وحذفت منه فقرات تضمّنت أخطاءً مهنيةً في 11 مارس 2020.