"هما بيعتبروا إننا طالما خلفنا يبقى الشغل مش أولوية بالنسبة لنا بس ده مش حقيقي".. تقول ندى حجاج صيدلانية كانت تعمل سابقًا بإحدى شركات الأدوية متعددة الجنسيات قبل أن تستبعدها رئيستها السابقة أثناء شهرها الثامن للحمل لاقتراب موعد ولادتها، ولرفض المؤسسة لإجازة الوضع، التي ينص عليها القانون.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تُفصل فيها حجاج من عملها بسبب اختيارها أن تكون أمًا وامرأة عاملة في الوقت ذاته، فقد فقدت عملها الأسبق عندما تقدمت لاختبار للحصول على "ترقية" تميز تقييمها فيه عن ستة رجال خضعوا لنفس الاختبار، ذلك قبل أن تستدعيها مشرفتها، والمسؤولة عن الترقية، لتفاجئ بأنها تُحدّثها عن مشكلات العمل بعد الزواج (الذي كان موعده قد اقترب حينها) من انشغال ومسؤوليات وزيادة في الوزن وفقدان المظهر المناسب، وهي كلها صفات "لا تتناسب مع المنصب المتقدمة له"، لتجد حجاج نفسها مفصولة من عملها بعد هذه الحادثة بأسبوع دون إبداء أسباب.
التمييز ضد المرأة في العمل لا يقتصر على عدم المساواة في الرواتب أو التعيين مع الرجال، بل يتخطى ذلك إلى ما يشبه العقاب للمرأة العاملة في حال اختارت اﻹنجاب، وهنا تضطر في الكثير من اﻷحيان إلى الاختيار بين الوظيفة والأمومة، وأن تعي جيدًا أن الخيار الثاني قد يساوي فقدان بعض الحقوق الوظيفية وأحيانًا الفصل التعسفي.
حبر على ورق
خلال دورته الخامسة في مارس/ أذار 1976 والمنعقدة بمدينة الاسكندرية أصدر مؤتمر العمل العربي الاتفاقية رقم (5) بشأن المرأة العاملة، بهدف توفير مناخ مستقر لعمل النساء يضمن المشاركة الفعالة لهن في أسواق العمل على أساس المساواة التامة مع الرجل في كافة تشريعات العمل على أن " تشتمل هذه التشريعات على الأحكام المنظمة لعمل المرأة، وذلك في كافة القطاعات بصفة عامة، وعلى الأخص في مجال الزراعة" بنص المادة الأولى من الاتفاقية.
يتيح قانون العمل المصري للمرأة العاملة إجازة وضع ويحظر فصلها خلال هذه الفترة، "لكن للأسف الكثير من النساء يُفصلن عن طريق إخطار، على الأغلب لا يصل، فتعود المرأة إلى عملها لتجد نفسها مفصولة وهناك من يحل محلها وهو في الغالب ذكر أو فتاة غير متزوجة، مما يصعّب من احتمالية عودتها حتى إلى العمل"، بحسب المحامي، رضا الدنبوقي، المدير التنفيذي لمركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية.
بيتها وولادها
وفي حديثه للمنصة، يعزو الدنبوقي الإجراءات التعسفية التي يعتبرها تمييزًا صريحًا ضد المرأة، لوجود تشابك كبير بين المجالين العام والخاص، فالتمييز الذي تتعرض له النساء في المجال العام ما هو إلا انعكاس للصورة النمطية للنساء في المجال الخاص، وضرورة وجودها داخل المنزل باعتباره "مكانها الطبيعي"، فتجد النساء نفسها في المجال العام محاطة بمجموعة من الذكور المسيطرين على مجالات العمل المختلفة ممن يرون أن الدور "الأنبل والأشرف" للمرأة لا يكون إلا داخل نطاق الأسرة، فبالتالي إذا كانت هذه المرأة "أُمًا" فلا داعي من خروجها للعمل، والأولى بها الاهتمام بزوجها وأبنائها.
الإنجاز لا يفيد
" لماكنت حامل في بنتي الأولى كنت رايحة شركة كبيرة وكنت مبسوطة أوي وعاملة شغل هايل جدًا، وفجأة مديري سألني إن كنت حامل، واضطريت أخبي وأقوله لأ، بس لما بطني بدأت تكبر في الخامس عِرف وبدأت معاملته تتغير وبقى يتلككلي على أي حاجة بسيطة، ويقولي أنتي بتاخدي إجازات عشان الحمل حتى لو كان عندي دور برد".
هكذا روت لنا إيمان فاروق (أم لطفلتين) وهي صيدلانية أخرى كيف فقدت وظيفتها في إحدى شركات التسويق، بعد أن استبعدها رئيسها في العمل بسبب حملها الذي استخدمه كذريعة لفصلها تعسفيًا "مش هتقدري تكملي معانا عشان ظروف حملك، ولما تولدي مش هتقدري وأنا صعبان عليا وضعك".
لجأت فاروق في إحدى الوظائف التي التحقت بها إلى إخفاء أن لديها طفلتين، فكانت تكذب على رؤسائها في العمل وتقول إنها أم لطفلة واحدة فقط، حتى تتحاشى الفصل من العمل " كنت خايفة أترفد فكنت بقول إن عندي طفلة واحدة بس كنت ببقى متضايقة جدًا إني بعمل كده".
وفي النهاية اضطرت إلى التخلي عن حياتها العملية لكثرة ما تعرضت له من تمييز بسبب أمومتها، خاصة مع ظروف عملها المسائي وعدم وجود دور حضانة للأطفال تعمل في الأوقات المسائية (بعد 7 مساءً) وعدم مقدرتها المادية على اللجوء للمربيات، حتى تستطيع مباشرة عملها المرتبط بمواعيد عيادات الأطباء في المساء، لكن فقدانها لوظيفتها سبَّبَ لها أزمة نفسية كبيرة بسبب شغفها بمجال عملها و"الإنجاز الكبير" الذي حققته فيه " كنت بحب شغلي وكنت بحس إن ليا كيان معنوي ومادي في نفس الوقت".
طريق طويل
احتلت مصر المرتبة 139 في مؤشر الفجوة الجندرية في مجالات العمل والتمكين الاقتصادي، من إجمالي 149 دولة شملها تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في 2018. تلك القائمة التي احتلت رأسها أيسلندا كأفضل دولة في المساواة بين الجنسين، وتلتها في الترتيب النرويج والسويد وفنلندا، باعتبارها الدول التي حققت أكبر إنجاز في تضييق الفجوة بين الرجال والنساء.
وقال التقرير إن السويد تمثل أحد النماذج المميزة في المساواة بين الجنسين في مجالات العمل، خاصة فيما يتعلق بالعمل والأمومة؛ حيث توفر السويد إجازة وضع ليس للنساء فقط بل للرجال أيضًا، باعتبار أن رعاية الأطفال ليست واجبًا على الأم فقط، بل يشارك فيها الأب أيضًا، ولذلك يحصل على 90 يومًا على الأقل إجازة رعاية طفل، ويُمنح الوالدين إجازة لمدة 480 يومًا مدفوعة الأجر بنسبة 80% من رواتبهم، تحصل الأم منها على 18 أسبوعًا وباقي المدة تتقاسمها مع الأب حسب رغبتهما.
وبحسب ما ذكر التقرير، فلا يزال أمام العالم "طريق طويل" فيما يخص تمكين النساء من القيادة المجالين السياسي والاقتصادي، حيث تم رصد الفجوة الجندرية في 149 دولة كان بينها 17 فقط تضم نساء كرئيسات للدولة، وفي المتوسط 18 % فقط من الوزراء و24 % من البرلمانيين على مستوى العالم كن نساء، وبالمثل تشغل النساء 34 % فقط من المناصب الإدارية في البلدان التي تتوافر فيها البيانات، وأقل من 7 % في البلدان الأربعة الأسوأ أداءً (مصر والسعودية واليمن وباكستان).
لا إجازات
ونظرًا لعدم توافر إحصائيات رسمية حول ما تتعرض له النساء من انتهاكات في أماكن عملهن، صممنا استبيانًا باستخدام استمارات جوجل، وطرحناه على فيسبوك، حيث استجابت له 17 سيدة، تركن عملهن أثناء فترة حملهن أو بعد الوضع، فكانت النتيجة أن هناك سبع سيدات (41.2 % من العينة) تعرضن للفصل التعسفي خلال تلك الفترة.
بينما قالت 10 سيدات (58 %) إن الشركات اللاتي يعملن بها لا توفر لهن إجازات وضع، بالمخالفة للمادة 91 من قانون العمل، التي تمنح الحق للعاملة التي أمضت عشرة أشهر أو أكثر في خدمة المنشأة، ثلاثة أشهر إجازة للوضع "بتعويض مساو للأجر الكامل تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه".
ويظهر الرسم البياني التالي صور التمييز التي تعرضت لها النساء اللاتي استجابت لاستمارة البحث:
كان ضمن الأشكال التمييزية الأخرى التي شاركتها تجارب السيدات عدم الموافقة على الرجوع للعمل بعد أجازة الوضع، والتعسف، وتطبيق جزاءات في الإجازات العارضة، التي تحتاجها الأم بسبب مرض طفلها، كالخصم، وأحيانًا خصم يومين على اعتبار أنه غياب بدون إذن، وليس إجازة عارضة قانونية، بينما قالت بعض السيدات إنه بمجرد علم المؤسسة بزواجهن أو حملهن كان يتم رفض توظيفهن من البداية.
لم تتخذ أي سيدة من المشاركات في الاستبيان إجراءً قانونيًا حيال الانتهاكات التي تعرضن لها في مؤسساتهن، لأسباب تنوعت بين ما أسمينه بفقدان الأمل في العمل أو اﻹحساس بعدم الحاجة له، أو ظنهن أن هناك استحالة في حصولهن على حقوقهن ﻷنها "طبيعة المجتمع"، أو لأن بعض المؤسسات تفرض عليهن التوقيع على استقالاتهن في بداية التعيين وبدون تاريخ، ومن ثَمَّ لا يمكن إثبات الفصل التعسفي إذا حدث. وقالت إحدى المشاركات في الاستبيان إنها كانت تعمل بمتجر بدون عقد، مما يصعب عليها إثبات علاقةى العمل، بالإضافة إلى أنه ليس هناك تصريح مباشر بأن الفصل يتم بسبب الأمومة.
مكتب العمل
وعلى الرغم من عدم اتخاذ أي من السيدات اللاتي تحدثنا معهم إجراءً قانونيًا، فإن مروة عيسى، مفتشة عمل بمديرية القوى العاملة بسوهاج، تؤكد أن القانون يلزم منشآت القطاع الخاص التي تعمل بها سيدات بتطبيق لائحة تشغيل النساء، التي تنظم عمل السيدات داخل المؤسسات.
وتنصح عيسى السيدات اللاتي يتعرضن للفصل التعسفي للرجوع لمكتب العمل التابع لمنطقة عملهن، وتحرير شكوى بموجبها يتم استدعاء صاحب العمل وإرجاع الموظفة إلى عملها أو تحويل الشكوى إلى قضية في المحكمة العمالية التي قد تقضي بغرامة مالية على المؤسسة، لكن كل ذلك لا يتم إلا إذا كانت السيدة لديها ما يثبت علاقة العمل بالمؤسسة.
وتوضح عيسى أن علاقة العمل يمكن إثباتها بالعقد أو التأمينات أو كشوف الحضور والانصراف، أو حتى ما يثبت تحويل الراتب مثل الحوالات البريدية وكشف الحساب البنكي.
إجراء غير قانوني
وعن إجبار العاملات على توقيع استقالة غير مؤرخة أو استمارة 6 (الخاصة بإنهاء التأمين) يقول المحامي رضا الدنبوقي إن ذلك يُعد تزويرًا وفق قانون العمل الجديد الذي لا يعتد باستقالة العامل، إلا إذا كانت مكتوبة وموقَعة منه أو من وكيله ومعتمدة من مكتب العمل المختص،
تسعة وتسعون كافية
تُلزم المادة 96 من قانون العمل، الخاصة بتشغيل النساء، صاحب العمل الذي يستخدم مائة عاملة فأكثر في مكان واحد بإنشاء دار حضانة "أو يعهد إلى دار للحضانة برعاية أطفال العاملات، بالشروط والأوضاع التي تحدد بقرار من الوزير المختص".
إذا كان القانون يُلزم من يُشغِّل مائة عاملة، فإذن يمكن التحايل عليه بتشغيل تسعة وتسعين فقط أو أقل، أو حتى تشغيل أكثر من مائة عاملة لكن تعيين عدد أقل من النسبة المحددة بالقانون، حتى لا يضطر صاحب العمل إلى إنشاء دار الحضانة المنصوص عليها في القانون، رغم أن الفقرة الثانية من نفس المادة تُلزم "المنشآت التي تستخدم أقل من مائة عاملة في منطقة واحدة، أن تشترك في تنفيذ الالتزام المنصوص عليه في الفقرة السابقة، بالشروط والأوضاع التي تُحدَّد بقرار من الوزير المختص".
قطاع خاص بالرجال
ترى مسؤولة برنامج النساء والعمل بمؤسسة المرأة الجديدة، منى عزت، أن النساء العاملات في القطاع الخاص يواجهن صعوبات من بداية التحاقهن بالعمل، ﻷسباب بيولوجية بحتة، فهناك بعض المصانع والشركات، خاصة التي تطلب العمل الميداني، ترفض تشغيل النساء على اعتبار أن المرأة المتزوجة و/ أو الأم لن تتمكن من تنفيذ مهام هذه الوظيفة بكفاءة، أو قد يعرضها العمل الميداني لمشكلات مثل التحرش، وتضطر المؤسسة لتحمل تبعات ذلك، فالاختيار الأسهل واﻷكثر أمنًا بالنسبة للمؤسسة هنا هو عدم تشغيل نساء مِن البداية، تفاديًا لحدوث مثل هذه المشكلات.
والسبب الثاني الذي ترفض من أجله مؤسسات القطاع الخاص تشغيل النساء هو "إجازات الوضع" ورعاية الطفل التي يُلزم بها القانون المنشأة، فأثناء هذه الفترة تلتزم المنشأة بدفع الراتب والتأمين للعاملة رغم غيابها عن العمل (أي مع عدم وجود إنتاج في المقابل).
وهو ما تستنكره عزت في حديثها للمنصة "على اعتبار إن الأمومة ورعاية الطفل مش وظيفة مجتمعية بنفس الأهمية"، لكن صاحب العمل هنا يحسبها فقط من منطلق "التكلفة المادية"، بالتالي يلجأ أصحاب الأعمال إلى تشغيل الرجال خاصة في الوظائف الإشرافية أو الميدانية، حتى يضمن استمراره في العمل كل الأوقات، دون الاضطرار إلى توفير بديل في حالة إجازات الوضع وخلافه.
مكانها البيت
كما ترى عزت أن المشكلة الأكبر ليست في النصوص القانونية بل في طرق المتابعة والتنفيذ، ففي الوقت الذي يلزم فيه القانون بإنشاء دور حضانة للأمهات العاملات لكن الكثير من مؤسسات القطاع الخاص لا تلتزم بذلك، لأن في النهاية "من يراقب تنفيذ القانون بالمؤسسات؟"، فمفتشي العمل الذين يفترض بهم القيام بهذا الدور هم في الأساس يرون المرأة "مكانها البيت" وأن النساء "واخدين حقوقهم وزيادة"، مشيرة إلى أن هؤلاء الأشخاص في حاجة إلى تدريب طويل ومكثف من أجل رفع الوعي لديهم بضرورة تمكين النساء وتحقيق المساواة بين الجنسين في العمل.
وتضيف أن وحدات تكافؤ الفرص الموجودة بالوزارات الحكومية منذ عام 2002 بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة والمجلس القومي للمرأة لها دور هام لكنها في حالة "تكلس شديد" ومازالت في حاجة إلى تدريب وإعادة هيكلة حتى تستطيع القيام بالدور المنوط بها، بالإضافة إلى عدم وجود مخصصات مالية لها كما أن العاملين بها لا يوجد لديهم "حساسية" تجاه قضايا النساء ، لذا ما زال دور هذه الوحدات ضعيفًا للغاية.
وتقول عزت إنه في ظل غياب قانون "ملزم بتشغيل النساء" أو ما يُعرف بالتوازن الجندري (Gender Balance) في المؤسسات، هناك الكثير من الثغرات التي يمكن التحايل عليها لعدم تشغيل النساء، حيث إن "الكوتة" توجد فقط في البرلمان والمحليات، لكن إذا امتنعت أي مؤسسة عن تشغيل النساء فلن تتعرض لأي عقوبة من أي نوع.
وتضيف عزت أن هذا التمييز لن ينتهي حتى يتم الاعتراف بالمرأة ككائن مساوٍ للرجل تمامًا، وإنهاء التمييز ضدها في المجال الخاص (النطاق الأسري) وأن الدور الأمومي لا يقل أهمية عن الوظائف الأخرى، ولاحقًا سينعكس ذلك على المجال العام فتستطيع النساء أن تلتحق بأسواق العمل على قدم المساواة مع الرجال، ومع احترام الرغبة في اﻹنجاب، في نفس الوقت.