يحدث في مصر، أن شخصًا سمي على اسم باني مصر الحديثة، ومنفذ مذبحة القلعة، وأحد النوادي الراقية، وأحد الشوارع التي طالما احتضنت الفنانين من أصحاب المعازف والغناء والرقص، ألا وهو شارع محمد علي "ستريت"، أحدث ضجة غير متوقعة. هذا الاسم المثير دومًا للجدل، تجسد مؤخرًا على شكل مقاول كان يعمل بالإسناد المباشر مع المؤسسة العسكرية.
تأجج خليط من الإعجاب والتوجس والاندهاش والسخط والاستغراب والمتعة والإثارة والتشويق في أثناء انتظار رواد مواقع التواصل الاجتماعي للتسجيلات المصورة التي يبثها المقاول محمد علي.
ثم، ويا للغرابة أصيب الناس بنوبات ضحك متتابعة، إما تشككًا في هذه الشخصية، وإما اندهاشا من أرقام المليارات وعشرات الملايين التي يسردها الرجل وهم حقيقة يجلسون في بيوتهم لا يعرفون كيف سيدفعون إيجارات الشقق، ومصاريف المدارس، وهل سيشترون حقيبة مدرسة جديدة، أم يمكنهم خياطة حقيبة العام الماضي واستخدامها للعام الحالي، وهو الواد يعني رايح يخطب؟ حتة فسل في تالتة ابتدائي اشتري له شنطة بـ400 جنيه، وأنا لسه مخيطة الصندل بتاعي الأسبوع اللي فات؟ بينما هو يقول لهم: منهم لله سرقوا مني ملايين واضطروني أعيش في أسبانيا وأبدأ من الصفر بـ 200 مليون جنيه.
كل ذلك بدا لي في إطار التسلية. حتى استرعى انتباهي رد السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
أنا هاعمل واعمل واعمل
"بيقولوا بابني قصور.. آه أمال إيه؟ ده أنا بنيت وعملت وهاعمل واعمل واعمل.. أنتوا لما تتكلموا بالباطل حتخوفوني؟ آه بنيت.. هو فيه حاجة باسمي؟ ما كله باسم مصر.. أنا بابني دولة لا مؤاخذة العالم كله حيتفرج عليها"
عبد الفتاح السيسي- رئيس جمهورية مصر العربية- خريف 2019.
لم يتبادر إلى ذهني سوى صورة النساء اللاتي تكرهوهن جميعا: تلك النساء اللاتي ينتمين إلى الطبقة المتوسطة العليا.
هؤلاء النسوة اللاتي يتفوهن بكل الشناعات التي تستفز القاصي والداني، يشمتن في بريء محبوس لأنه "قليل الأدب ولسانه طويل"، يبتهجن بقتل مجموعة من البشر لم تتم محاكمتهم أو إدانتهم أو ثبوت تهمة عليهم أو حتى معرفة هويتهم الحقيقية ولم يسبق لنا أن تعرفنا عليهم قبل نشر صور جثثهم مذيلة بخبر "تصفية مجموعة من الإرهابيين".
لا تجرؤ أن تتفوه أمامهن بنقد للسلطة، ماذا وإلا أوسعوك سبابًا ودعاء يشيب له الولدان ورغبات غريبة في إصابتك بالسرطان وموت أطفالك وفضحك "يا مجرم يا خاين يا عبد قطر وموزة".
كلما كتب شخص رأيًا قمن بتصوير منشوره ومشاركته وهن يطالبن بالقبض عليه والتنكيل به والدعاء بأن يقع تحت يد "فرج"، أحد الشخصيات السينمائية التي جسدت تعذيب المعتقلين في فيلم الكرنك.
أعرف بعض هؤلاء النسوة، اللاتي يكرههن الجميع بسبب منشوراتهن المقذعة على مواقع التواصل الاجتماعي، معرفة شخصية. وللمفاجأة: هن نساء طيبات، خيرات، ساذجات. ساذجات لدرجة أنهن يصدقن كل حرف يتفوهن به، مهما بلغت بشاعته.
ساذجات لأن بعضهن مَن باعت خاتم جدتها، أو فعلت مثل بكيزة الدرمللي وعرضت ملابسها وأحذيتها الأنيقة التي اشترتها في ساعة اليسر للبيع على صفحات الفيس بوك، أو استبدلت الهايبر ماركت بالعلّاف، ومتاجر التجميل بالعطار.
لأنه أنقذنا من الإخوان
يفعلن هذا من أجل أن يتمكنّ من دفع مصاريف مدارس الأبناء، واشتراكات النادي، واشتراكات السباحة. فعلن ذلك كله بنفس راضية، لأن الرئيس أنقذ مصر من الأخوان، ولأنه يبني وطنًا، ولأنه يحمي مصر من حروب الجيل الرابع والخامس والسادس والعاشر، ولأن مصر بتتقدم بينا.
ولأن هؤلاء السيدات يصدقن فعلًا أنهن يساهمن في بناء الوطن، وأن الله سيكافئهن على صبرهن، وأن كل الإنجازات التي يقوم بها الرئيس ستحسب لهن في ميزان حسناتهن، وأنه سيبني مستشفى للفقراء، وخيرًا لها أن تساهم في المستشفى حتى يقي الله أبناءها شر المرض. وأنه سيبني مدرسة للفقراء، وعليها أن تتحمل الأزمة المادية مساهمة منها في ذلك حتى يبارك الله لها في أبنائها ويكبروا كخيرة الشباب. وأنه سينهض بمصر عبر مشاريع كثيرة، وعليها أن تتحمل الدواء المرّ كي يجد أبناؤها مكانًا في بلادهم بدلًا من أن يتركوها في شيخوختها ويهربوا إلى الخارج مثل أخيها وابن خالتها وابنة عمتها.
لم تتوقع هؤلاء النسوة أنهن ينحدرن بسرعة الصاروخ من طبقتهن إلى طبقة أدنى لأن الرئيس يبني قصورًا. رأيت ذلك في أعينهن وخيبة أملهن بعد تصريح الرئيس.
رأيتهن في البداية وهن يحاكمن محمد علي محاكمة طبقية لإنه يتحدث بطريقة سوقية، ويبدو "نوفو ريش"، ورأيتهن وهن يهتفن بحب مصر والرئيس والجيش والشرطة ووزارة التضامن الاجتماعي في انتظار مؤتمر الشباب الذي سيفحم فيه الرئيس ذلك الوغد "الجربوع"، ورأيتهن بعدها وهنّ مكتومات محبطات مهزومات حزينات على كل التضحيات التي قدمنها.
أنا أعرف هؤلاء النسوة التي قالت لي إحداهن: جتكوا القرف في ثورتكم من ساعة ما عملتوا المظاهرات دي وأنا مش عارفة أودّي ولادي التمرين، وابني الكبير مش عارف يروح الدرس.
أرض الواقع المؤلم
لم أسفّه من ألمها آنذاك لأني أعلم أنها قدمت الكثير وضحت بالكثير من أجل أبنائها الذين تعتبرهم مشروعها الوحيد، تحملت زوجا مزعجًا، وتحملت مديرًا متحرشًا، وتحملت أهلًا تخلوا عنها، كل ذلك في سبيل الحفاظ على أبنائها، وتوفير المال اللازم والظروف الملائمة لتنشئتهم كما يجب، وليصبحوا أفضل منها.
الآن، هؤلاء النساء ينظرن بخيبة أمل إلى مكان الخاتم الذي بعنه، وإلى الفراغ الذي تركه ثوب أنيق ثمين في خزانة الملابس، وإلى أحذيتهن التي تتناقص، لأنها ستضحي بكل شيء من أجل الوطن إلا مستقبل أولادها، وتعليم أولادها، وتمرينات أولادها، وسعادة أولادها، وهي الآن عليها أن تتحمل الزوج المزعج، والمدير المتحرش، والأهل المتخلون، مضاف إليهم رئيسًا يبني قصورًا.
أيها السيد الرئيس:
لقد خذلت هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيدي إنسانيتهن وهن يشهدن زورًا على الأبرياء دفاعا عنك ظنًا منهن أنهن يخدمن الوطن.
هؤلاء النسوة لم يقدمن كل هذه التضحيات من أجل أن تبني قصورًا. لكنهن قمن ببيع ممتلكاتهن ومعها ضميرهن الإنساني دفاعًا عن مستقبل أبنائهن الذي يبنينه لبنة لبنة، كي يكبر الأبناء وقد حصلوا على أفضل تعليم، وأحسن تدريب، وتشكلت شخصياتهم كأفضل ما يكون.
هؤلاء النسوة يبنين وطنًا أجمل من وطنك، فأنت تبني القصور، وهن يبنين الإنسان. المقطع الأكثر حزنًا في هذه القصة المأساوية، أن الأبناء سيكبرون ويرفضون كل هذا الظلم والفساد، وسيلحقون بمن سبقوهم من "قلالات الأدب" إلى السجون.. لأن أمهاتهم أحسنّ تربيتهم.