كنت أقف في طابور طويل أمام مسجد آل رشدان، على بعد أمتار من البوابة الرئيسية لاستاد القاهرة في الطابور المخصص للدرجة الأولى، لهؤلاء الذين قرروا دفع 600 جنيه لشراء تذكرة المباراة الافتتاحية لكأس الأمم الأفريقية. كنت بينهم لكنني لم أكن منهم. أنا فقط "معزوم" على هذه المباراة، ولم أكن لأفوّت الفرصة.
أثناء وقوفي في انتظار الوصول إلى المرحلة الأولى من مراحل التفتيش والتحقق من الهوية، سمعت حوارًا غريبًا.
بيصاحبوا عادي
كانت عائلة أنيقة تقف أمامي. أب وأم يمكن وصفهما أنهما "كوول" وولدان مهذبان. كان أكبرهما قد أصدر بطاقة هوية قبل أيام قليلة. أخرجها من جيبه، وسخر من شقيقه الأصغر الذي لم يُصدر بطاقة بعد. انتزع الأخير البطاقة ثم سأله عن كلمة أعزب المطبوعة في خانة الحالة الاجتماعية. قال مستفسرًا: هو أنت لو صاحبت، أعزب دي هتتغير وتبقى In a relationship؟
أجاب الكبير بثقة؛ أكيد هتتغير، بس مش عارف هروح لهم تاني عشان يغيروها ولا هعمل ايه؟
وجّه الأخ الأكبر، واسمه يوسف، السؤال إلى والدته: هو لو صاحبت هروح أطلب منهم يغيروا أعزب دي؟ سخرت الأم وقالت له إن حالته الاجتماعية لن تتغير إلا بعد الزواج.
قال يوسف غاضبًا: ايه البلد الـ (..) دي. ما في فرنسا بيصاحبوا عادي يعني، فيها إيه.
تذكرت، بعد هذه الجملة، آخر مرة حضرت فيها إلى استاد القاهرة. كانت في مارس/ آذار 2009. في مباراة مصر وزامبيا في تصفيات كأس العالم 2010. وقتها وصلت وزملائي قبل انطلاق المباراة بـ 3 ساعات لكنّ الأمن منعنا من الدخول لأن "العدد قد اكتمل".
كنا وقتها أمام مدرجات الدرجة الثالثة ضمن آلاف يحملون التذاكر ويلوحون بها للأمن لكنّ الضباط لا يكترثون. بدأ العساكر يصطفون تمهيدًا للانقضاض علينا. كان الحديث الدائر وقتها: هل ينوي الأمن حقًا تفريق المشجعين بالعنف، أم أنها فقط حركات "تهويش" حتى نهدأ قليلًا؟
بعد دقائق كان صديقي يحاول إنقاذي من هراوات الشرطة بعدما سقطت أرضًا أثناء محاولة الهروب من العساكر. وكانت الأحصنة التي يمتطيها بعض الجنود تركض بسرعة فائقة كأنها في حرب.
لوهلة، أردت أن أحكي ليوسف وشقيقه هذه القصة، لكنني لذت بالصمت.
صورة مصر
"السيسي رايح الماتش".. كان هذا محور الحديث قبل المباراة الافتتاحية. حضور رئيس الجمهورية يعني أننا مطالبون بالذهاب مبكرًا للاستاد، والانتظار ساعات طوال في هذه الأجواء الحارة.
في المترو كان كل شيء هادئًا حتى وصلنا محطة العتبة. بدأت القمصان الحمراء تظهر. وبدأت الفتيات الجميلات تتدافع. وأنا لم أرَ هذا الكم من النساء الجميلات في يوم واحد أبدًا.
بالتأكيد، أسعار التذاكر وطريقة الحجز الالكترونية، ورغبة الدولة في أن تستثني الشريحة الأكبر من الفقراء، الذين قد "يسيئون إلى صورة مصر" على حد قول سائق بأحد شركات الأجرة الخاصة، ركبت معه قبل المباراة بيوم، هذه الأسباب هي التي دفعت هذا الفرز الأول من نساء المجتمع للحضور.
كانت المسافة كبيرة بين محطة المترو والمكان المخصص لتذاكر الدرجة الأولى. سرت مسافة طويلة من شارع يوسف عباس وصولًا إلى مسجد آل رشدان. وكلما سألت أحد رجال الشرطة، ضابطًا أو أمينًا أو بلباس مدني، كان يجيب إجابة مختلفة عن الآخر.
البائعون كثيرون. كثيرون جدًا. ذكور وإناث. يبيعون كل ما نحتاج إليه. ورجال الشرطة يحاولون إبعادهم إلى جزيرة في منتصف شارع صلاح سالم، لكن دون جدوى في الأغلب.
وصلت أخيرًا إلى طابور الدرجة الأولى. أمامي يوسف وشقيقه والأب والأم. الأم كانت تسأل أسئلة كثيرة عن اللاعبين والتشجيع والحفل. كنت مهيأ لذلك تمامًا، فهذه المباراة بالنسبة مجرد "خروجة" جميلة.
على بوابات الاستاد نخضع لمراحل التفتيش متكررة. قائمة الممنوعات كثيرة جدًا. الزجاجات البلاستيكية وشواحن الموبايل والسماعات كذلك.
الغربة
اقتربت من البوابة. كان التعامل الأمني مهذبًا إلى حد كبير. لم يعكره سوى ضابط برتبة كبيرة، أظنّه لواء، كان يتحدث قبل أن نصل إلى المراحل الأخيرة من التفتيش بصوت مرتفع ويطالبنا بعنف أن ننتظم في الطابور.
وفجأة، باغته أحدهم "مش هقف عدل، عايز ايه".. اضطربت للحظات، وتهيأت للحظات عنيفة لكنّني فوجئت بهما، الضابط ذو الرتبة وهذا الشخص، يتبادلان الأحضان. كان الأخير صديقًا مقربًا للضابط جاء ليحضر معنا المباراة.. تضاعف داخلي الإحساس بالغربة بين مشجعي الدرجة الأولى في هذه اللحظة.
على بعد أمتار من البوابة، ظهر أمين شرطة، كما يقول الكتاب، بشنب محترم وبنية جسدية هائلة ووجه غاضب. صرخ في الطابور الطويل"الحريم ييجوا من البوابة اليمين عشان التفتيش الذاتي". لم تغضب أم يوسف من هذا الصوت العالي، ومن أنها ستضطر إلى أن تسلك طريقًا طويلًا حتى تصل إلى تلك البوابة، أزعجتها فقط كلمة "الحريم" وقالت متأففة "حريم؟.. إحنا فين عشان يقول كده"؟.
استبدل مشجعو الدرجة الأولى الحريم بالبنات والآنسات وهم ينظمون صفوفهم: "البنات يروحوا يمين لو سمحتوا".
سأل شاب مهذب كان يخضع للتفتيش قبلي "لو سبت الباور بانك هاخده وأنا طالع"؟ أجابه أمين الشرطة بكل هدوء "أكيد يا أستاذ". منحه الباور بانك بكل ثقة، ووضعه الأخير في كيس بلاستيكي وأخبره أنه سيحصل عليه عقب المباراة.
وحين جاء دوري، لم تكن هناك محظورات سوى سماعة الموبايل. نبّه عليّ الشاب أنها ممنوعة. تركتها إلى غير رجعة ودخلت أخيرًا من البوابات.
تلميع للضيوف
حين يداهمني الوقت قبل زيارة أحد الأصدقاء، أقوم بجولة سريعة لتلميع الشقة، أحاول إخفاء كل العيوب بأقصى سرعة. على سبيل المثال أقوم بوضع كل الكراكيب في الدولاب، وبعد رحيله أقوم بإخراجها وإعادة ترتيبها.
هذا بالتحديد ما قامت به الدولة في محاولتها لتجهيز وتطوير استاد القاهرة لاستضافة البطولة. محاولة سريعة وناجحة لتلميع كل ما تلتقطه الكاميرات، أمّا ما لن تلتقطه الكاميرات ويراه السادة الضيوف فلا يهمنا.
على سبيل المثال، السلالم المؤدية إلى المدرجات، متهالكة عَفنة كما هي منذ سنوات. كل ما قاموا به هو طلاء جزء منها باللون الأزرق. الحمامات، أسوأ. حتى تلك الكراسي المدهونة بالأزرق والبرتقالي التي ظهرت على الشاشات لم تكن فخمة أو حتى جيدة. متهالكة، تخشى أن تتمطع عليها فتنكسر.
دخلت المدرجات في الخامسة مساءً. ولحظة دخولي كانت هناك مفاجأة. صوت هاني شاكر يخرج من إحدى سماعات الاستاد. تصاحبه وصلة رقص من فتيات عشرينيات في مدرج قريب مني بالدرجة الأولى. كان الصوت لا يخرج إلا من السماعة المواجهة لهذا المدرج، استمرت الوصلة دقائق وزادت حماستها مع أغنية قديمة لعمرو دياب.
بروفة جميلة
بدأ المسعفون يركضون داخل الملعب. يحملون مصابًا على "النقالة" ثم يسعفونه. ظننت لوهلة أن الأمر حقيقي لكنّ أخي نبهني أن الأمر مجرد بروفة. وبالفعل بعد لحظات نهض هذا المصاب، وتكرر الأمر كثيرًا.
هذه البروفة، بعثت في داخلي قدرًا من الاطمئنان. كل ما تقع عليه عدسات الكاميرات سيكون جميلًا ومنظمًا، وكل ما عدا ذلك سيكون قبيحًا أو مُهملًا.
كانت الهتافات عشوائية. أغلبها جاء من الدرجة الثالثة. وعلى وجه التحديد الثالثة شمال. تلك التي لم تهدأ طوال ساعات الانتظار.
في السادسة والنصف، بدأ أول عمل جماعي منظّم بين الجماهير. ظهرت الموجات التي يتقافز فيها الجمهور بإيقاع سريع وبشكل جميل. هي وسيلة قديمة ليصطف المشجعون جميعهم في عمل واحد، وأذكر أنها ظهرت للمرة الأولى في مونديال المكسيك 1986، وظلت موضة لسنوات طويلة قبل أن تختفي مؤخرًا.
كانت المدرجات تمتلئ بسرعة كبيرة. الكراسي الشاغرة باتت معدودة. في هذه الأثناء تسرّب إليّ إحساس بالخوف، لا من مكروه سيقع، لكنه الخوف من هذا الحشد الكبير. الاستاد مُرعب بحق. تذكرت كل ما يقوله اللاعبون عن الخوف الذي ينتابهم حين تطأ أقدامهم أرض استاد القاهرة حين يكون ممتلئًا.
كان محمد فضل، مدير البطولة، هذا الشاب الأنيق المهذب الذي تحاول الدولة تسويقه بكل طاقاتها، كان يتجول داخل الملعب ويطمئن على الأرضية والتجهيزات.
في الثامنة والنصف مساءً بدأ حفل الافتتاح. وأنا، في أفضل تصوراتي، لم أتخيل قط أن يكون الافتتاح بهذا الشكل الجميل. حتى حين اشتعلت نيران خفيفة أمام المرمى في النصف الأيسر من الملعب، سارع المنظمون لإطفائها سريعًا في أقل من دقيقة قبل أن تلتقط الكاميرا أي شيء.
نزل اللاعبون أرض الملعب، ويصح أن أصف على الأقل المدرجات التي تواجدت بها بـ "مدرجات صلاح". هوَس إلى حد الجنون بالنجم الكبير وتجاهل للأسماء الأخرى.
أنهى اللاعبون الإحماء، عادوا إلى غرف خلع الملابس، ثم عادوا مجددًا إلى أرض الملعب. لحظة السلام الوطني كانت مهيبة، وأخيرًا انطلقت المباراة.
أبوتريكة في الاستاد
لا أحب أجيري كثيرًا. استبشرت خيرًا حين قال إن المنتخب سيخضع لإحلال وتجديد ثم تشاءمت حين تراجع عن كل ذلك.
هذه تشكيلة كوبر. نفس الأسماء والاختيارات مع تعديلات طفيفة. المنتخب الآن بلا طعم ولا هوية. تمر الدقائق ثقيلة. الجمهور يتفاعل بشكل كبير كلما لمس صلاح الكرة. والأخير يظن أنه يلعب وحده.
في الدقيقة 20 هتف الجمهور لـ "شهداء الزمالك"، وفي الدقيقة 22 بدأ الهتاف لأبو تريكة. هذه أكثر لحظات المباراة إثارة. للحظة تساءلت "هل الهتاف للاعب بعينه في مباريات المنتخب أمر صحيح وفي محله؟"، لكنني تركت هذا السؤال الساذج، لا مجال للتفلسف. تذكرت ما قاله عنه أحمد موسى قبل أيام. كان الهتاف بمثابة إعلان تضامن مع النجم الفذ.
استمر الهتاف دقيقة ثم خفت قليلًا، وما لبث أن عاد أقوى مما كان. هتفت بحرارة. الملعب يضج باسم أبو تريكة ورئيس الجمهورية بين الحضور.
تريزيجيه يركض في الملعب كطفل يتعلم الركض للمرة الأولى، يركض دون هدف. وبينما أعلن غضبي من هذا الركض المتواصل دون جدوى، انطلق بالكرة وتبادلها ونجح في تسجيل الهدف الأول والوحيد.
كان جميلًا أن أسمع الملعب بأكمله يهتف لتريزيجيه، وكذلك كان جميلًا أن أستمع لهتافاتهم إلى أحمد حجازي، الذي أصر على استكمال المباراة رغم الإصابة. كان جميلًا أن أشعر أن هناك لاعبين آخرين غير صلاح.
الباور بانك في الشيبسي
بين الشوطين، تفاجأت حين وجدت الشاب الذي يجلس بجانبي يشحن الهاتف من الباور بانك. كان معظم الحضور بجانبي قد فرغت بطاريات هواتفه. سألته كيف دخلت به إلى الملعب، "حطيته جوا كيس شيبسي كبير حجم عائلي، وبعدين لفيت عليه بلاستيك، بعدين دبست الكيس من فوق كأنه مقفول، ومحدش خد باله".
بين الشوطين، عادت تلك الأغاني لتصم آذاننا. أغاني وطنية حديثة، واحدة منها تهتف باسم الرئيس عبد الفتاح السيسي. لم يتجاوب معها أحد.
الشوط الثاني كان باهتًا، الجمهور كان غاضبًا ولولا هدف تريزيجيه لربما هتفوا ضد اللاعبين.. مرت الدقائق ثقيلة. أداء عشوائي من الجميع. صلاح يلعب بفردية شديدة. المحمدي لا يركض كثيرًا. طارق حامد يتألق.
كان وليد سليمان اللاعب الوحيد من البدلاء، الذي يلقى تحية حارة من المشجعين كلما مر أمام المدرجات. الباقون لا يحظى أحد منهم بشعبية تذكر.
تعرض مرمانا لبعض المحاولات من زيمبابوي. ملّ الجمهور من المباراة وبدأ منذ الدقيقة 80 يغادر الملعب. انتهت المباراة بفوز المنتخب وكان الخروج هينًا.
على البوابات تجمع شباب وفتيات يسألون ضباط الشرطة والعساكر: "فين الحاجات بتاعتنا". "حاجات ايه؟" سألهم، فأجابوا "الشواحن والسماعات والباور بانك"، "أخدوها ومشيوا". "إزاي". "أخدوهم ومشيوا، واتفضلوا من هنا عشان الناس تعرف تخرج بسرعة".
رحل الشباب خائبون، في الأغلب لم يتعرضوا لمواقف كهذه من قبل، كنت أتابعهم مبتسمًا وعلى لساني جملة "أهلًا بيكم في الاستاد".