هذه هي القصة الأولى في ملف المنصة عن العملية الشاملة سيناء 2018، والذي يُنشر على حلقات مسلسلة.
يشاهد أبو صلاح على تليفونه صورًا من جوجل إيرث لمدينة رفح، يختار صورة منها ويقول أعتقد أن هذه الصورة من حى الإمام علي، يظهر التحديث الجديد للصورة إزالة مبانيه تمامًا وتسويته بالأرض شأنه شأن مناطق أخرى فى رفح.
منذ عام نزح أبو صلاح من رفح إلى العريش بمحافظة شمال سيناء، يستمر فى الانتقال بين الصور ليرى واقع مدينته التى انمحت تضاريسها مع آثار شاحنات حملت أثاث النازحين من رفح إلى مدن أخرى بالمحافظة. وازدادت شكوكه في بيانات الحكومة التي تتحدث عن المستقبل السعيد لمدينة رفح الجديدة.
استوجب قرار مجلس الوزراء بفرض منطقة عازلة في 2015 نزوح جماعي لمواطني المدينة التي قدرت الحكومة عددهم قبل النزوح بـ 100 ألف نسمة، مع استمرار العمليات المسلحة التي تقوم بها القوات المسلحة ضد عناصر تنظيم ولاية سيناء، فرع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذى يمر بخريف قاس في مناطق تواجده داخل سوريا والعراق جراء ضربات التحالف الدولى.
من بقى من ولاية سيناء وكيف شاهدهم الأهالي؟
أصبح تواجد ولاية سيناء، هزيلًا من حيث عدد عناصره في المدينة، لكنه لم يفقد القدرة على القتل رغم حصاره بآلات حربية لم تشهدها شمال سيناء منذ العام 1967. تقلّص نفوذه فى مركز رفح خلال العام الأخير وانحصر فى ثلاثة بؤر شبه خالية من السكان جراء موجات النزوح المتعاقبة.
في منطقة ساحل الشيخ زويد، أقرب مكان للمزارع الساحلية بمدينة رفح المهجورة من أصحابها بسبب اختباء عناصر التنظيم، التقت المنصة مجموعة من الأهالي واستمعت لمشاهداتهم الحية لعناصر التنظيم المسلحة.
تشير بعض روايات الأهالي إلى تحدث عناصر التنظيم بلهجة أبناء قبيلة الرميلات وآخرين يتحدثون بلهجة محافظات الدلتا والصعيد، يرتدون ملابس عسكرية مثل البناطيل المموهة والبلوفرات السوداء أو بعض السترات الشتوية فلسطينية الصنع، والمنتشرة بطبيعة الحال فى المنطقة بسبب القرب الجغرافي، وكذلك صنادل ماركة "توستي" مهربة من الأراضي المحتلة والتي تمتاز بخفة الوزن.
أين يتحرك عناصر التنظيم وكيف يعيشون؟
يحكي شاهد عيان "ينتقل عناصر التنظيم في قرى بلعا وأبو شنار ومربعة الفول وأطراف قرية الحسينات، وهى القرى التي بقيت مأهولة بالسكان في مركز رفح، وتحد مدينة الشيخ زويد من الجهة الشرقية".
وتتعرض تلك المناطق لقصف بمدافع الهاوتزر من الكمائن الموجودة داخل الشيخ زويد وأطرافها، وأحيانًا من الطائرات الحربية، والطائرات الزنانة وهى طائرات بدون طيار يطلق عليها الأهالى هذا الاسم نظرًا للصوت الذي تحدثه.
خبرة القصف
صار لدى أهالى القرى خبرة في تحديد نوع القصف بسبب أعمدة الدخان التي تصعد للسماء بعد القصف، فعندما يقصف منزلًا ترتفع سحابة دخان بيضاء وعندما تقصف سيارة أو دراجة نارية ترتفع أدخنة سوداء، ويقول شهود العيان تمر القذائف من سماء الشيخ زويد باتجاه مزارع رفح ليلًا ونهارًا.
يضيف شاهد آخر "يتحرك عناصر التنظيم بعدد قليل بين المزارع فيحرصون على ألا يزيد عدد كل مجموعة عن 6 مسلحين فقط، وذلك لتحاشي الخسائر البشرية الناتجة عن القصف الجوي، يستفيدون من الإختباء بين الأشجار والإقامة فى البيوت المهجورة المتعرضة للقصف".
ينقل الأهالى بينهم روايات تحكي عن سيدات يساعدن العناصر المسلحة وشراء مستلزمات غذائية، ربما زوجاتهم المكلفات بشراء الغذاء حيث يتبادلن أحاديث في الأسواق عن مقتل أحد العناصر، ويشترين منتجات الألبان والدقيق والمعلبات الجافة.
تشير بعض الروايات الأخرى إلى أزمة مواد غذائية يعانيها أفراد التنظيم نظرًا لانتشار الكمائن الأمنية، ومنع انتقال السيارات وعربات الكارو، فتنقل السيدات الأطعمة إلى نقاط محددة ليلتقطها عناصر التنظيم ليلًا.
هل تشهد 2019 نهاية التنظيم؟
تبقى عمليات التنظيم مستمرة فى المستطيل الساحلي، وتنحصر فى زرع عبوات ناسفة على الطرق التي تمر منها آليات عسكرية أثناء الانتقال بين الكمائن المختلفة.
يمتد هذا المستطيل الساحلي بطول ساحل البحر لحوالي 7 كيلو مترات وعمق 4 كليو مترات ويقع شمال الطريق الدولى الرابط من مدينة الشيخ زويد منتهيًا عند معبر رفح البري.
ونظرًا لأن الطريق الدولي يخضع لرقابة محكمة بالكمائن الأمنية والكاميرات المتطورة والتفتيش الصارم، فإن السلطات الأمنية لا تزال تسمح أحيانًا بالمرور على الطريق الدولي لسيارات غالبيتها تنقل المسافرين الفلسطينين أو شاحنات نقل البضائع لقطاع غزة من خلال المعبر وأخرى تعمل مع مقاولى البناء المكلفين بانشاء مدينة رفح الجديدة الواقعة جنوب الطريق الدولي أمام قرية الوفاق المهجورة ويمضي العمل فيها بشكل متسارع خلال الأشهر الأخيرة.
فى 17 يناير 2019 خرج التنظيم بعملية مختلفة استهدفت مستشفى رفح العام الذى يعمل جزئيًا بفريق طبى محدود وقاموا بإحراق سيارتي إسعاف ومبنى الإستقبال والاستيلاء على معدات طبية، وتبنى التنظيم العملية من خلال بيان نشرته وكالة "أعماق".
أما بالنسبة لساحل مركز رفح فيخضع لرقابة أمنية صارمة متمثلة فى الكمائن الساحلية والزوارق الحربية وقوات الصاعقة البحرية، ما يمثل حصارًا بحريًا لمستطيل عمليات التنظيم الذي أعلن فى 16 يوليو/تموز عام 2015 تبنيه لعملية استهداف زورق عسكري مصري بصاروخ كورنيت قبالة مدينة رفح المصرية الساحلية على البحر المتوسط، وهى العملية الوحيدة ضد الزوارق البحرية المصرية، ولم تتكرر.
رفح الجديدة والقديمة
تخلو رفح من الشكل الإداري الحكومي بسبب انتقال جميع إداراتها إلى مدينة الشيخ زويد المجاورة أو إلحاق موظفيها بالمديريات الحكومية في العريش، وأصبح التواجد الرسمي للدولة في رفح منحصرًا في التمثيل العسكري، فيما يتطلع الأهالى بشغف إلى الإعلان عن انتهاء من مدينة رفح الجديدة لإزالة المشهد الضبابي بشأن مستقبل رفح المدني.
في حديث مباشر بتاريخ 25 أكتوبر عام 2018 بثت الإذاعة المحلية حوارًا مع اللواء محمد عبد الفضيل شوشة، محافظ شمال سيناء، قال فيه إن العمل يجري حاليًا على قدم وساق بالمرحلة الأولى لمدينة رفح الجديده التي تستوعب نحو 800 أسرة من سكان مدينة رفح، والتي من المقرر الانتهاء منها منتصف العام القادم.
آلاف الشقق الجديدة
وأعطى الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسي فى 1 مارس/ آذار 2018 إشارة البدء في انشاء رفح الجديدة من خلال حوار بالفيديو كونفرانس، وأنها خطتها كانت جاهزة في 2015، حينما وافق مجلس الوزراء على استصدار قرار لإخلاء المنطقة المحددة بقرار رئيس مجلس الوزراء الخاص بإنشاء مدينة رفح الجديدة بتاريخ 15 أكتوبر 2015.
وتبلغ مساحة رفح الجديدة حسب القرار الوزاري 535.61 فدانًا، لصالح محافظة شمال سيناء، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لصرف التعويضات المناسبة لشاغلي الأرض من أصحاب المنازل والأراضي الزراعية.
ويبلغ العدد الإجمالي للوحدات المستهدفة في رفح الجديدة نحو 10 آلاف وحدة سكنية في 625 عمارة، و400 منزل بدوي.
وتشمل المرحلة الأولى إنشاء 216 عمارة سكنية تشمل 3456 وحدة و200 منزل بدوي، بينما تتضمن المرحلة الثانية من رفح الجديدة إنشاء 410 عمارة سكنية تضم 6560 وحدة و200 منزل بدوي، وتتراوح مساحات الوحدات السكنية في رفح الجديدة بين 120 و300 متر.
.. لكن الأهالي تخشى المستقبل
ورغم تلك البيانات الحكومية بشأن مستقبل رفح إلا أن توجس الأهالي لايزال قائمًا حول هذا المستقبل الغامض، بعد إخلاء 3 كيلو مترات من رفح ابتداءً من الحدود الدولية المشتركة مع قطاع غزة، منذ العام 2014 على عدة مراحل، ثم هجرة باقي الأهالي خشية الموت جراء القذائف والرصاص وهدم البيوت وجفاف المزارع.
لا يجد أبو صلاح، أحد سكان رفح النازحين للعريش، أملًا في العودة، فلا توجد تطمينات بخصوص الأراضي التي كان يمتلكها أبو صلاح ومئات العائلات. هذه الأراضي الزراعية "بالنسبة لنا أهم من البيوت التي تفجرت. نحن فلاحون بدون أراضي، فماذا سنعمل إن عدنا إلى رفح الجديدة".
ألبوم الذاكرة
أنشأ أبناء رفح مجموعة على فيسبوك باسم ألبوم رفح كذاكرة مصورة لرفح الأماكن والأشخاص، وفيها يعبر السكان القدامى للمدنية عن خواطرهم شعرًا فى رفح، أو حزنًا عليها.
قرية "شبه باقية"
القرية الثانية التى بقيت شبه مأهولة من مركز رفح الحدودى هى قرية البرث في أقصى جنوب المركز، والتي كانت ملعبًا مفضلًا لعناصر تنظيم ما يسمى بولاية سيناء بسبب التقائها مع أماكن انتشار التنظيم جنوب الشيخ زويد ورفح، بالإضافة لاحتوائها على السوق الشعبي الذى يتم التزود منه بالمواد الغذائية.
لكن اتحاد قبائل سيناء، وهي مجموعة أهلية مسلحة، والمتعاون مع القوات المسلحة المصرية، تمّكن من طرد العناصر المسلحة نهائيًا من القرية عقب انطلاق العملية الشاملة سيناء 2018 فى 9 فبراير/ شباط. ونقلًا عن شهود عيان من التجار الرئيسيين في سوق القرية، فإن عناصر التنظيم اختفت نهائيًا في الوقت الحالي ولم يعد يرصدهم كما كان الوضع قبل أكثر من عام، خاصة مع التواجد الأمني الدائم فى القرية.